نساي شيرين ألبوم معازف
مراجعات

نساي | شيرين

عمر ذوابه ۲۱/۱۱/۲۰۱۸

عندما دُعيت لتكون المصرية الأولى بعد أم كلثوم لتغني في بعلبك، لم تصدق شيرين مبادرة المهرجان اللبناني. “دول ما بياخدوش عيال صغيرين زينا“، صرحت لاحقًا بعفويتها المحببة. المهرجان الذي طالما أشاح بوجهه عن فناني البوب العرب (وتحديدًا الأصغر سنًا ممن لا ينتمون لما يسمى الزمن الجميل) عجز – لحسن الحظ – عن تجاهل هذه الموهبة. تعود شيرين اليوم بألبوم نساي، الذي صدر على المنصات الإلكترونية كاملًا في ٢٤ تشرين الأول. يتضمن عمل شيرين الجديد ١٢ أغنية، تقاسم تأليفها وتلحينها ثمانية شعراء وثمانية ملحنين، بينما استحوذ الموزع الموسيقي النابلسي على نصف أغنيات الألبوم، وتقاسم توزيع نصفه الآخر خمسة موسيقيين آخرين. تنوعت أصناف الأغنيات بين البوب اللاتيني والشرقي، إضافة لأغنية ديسكو وأخيرة جمعت بعض عناصر الموسيقى الكلاسيكية الأوركسترالية.

تأتي أول أغنيات الألبوم وحاملة اسمه ضمن مقطعين موسيقيين متطابقين، وبضع جمل موسيقية بسيطة تكاد تكون مشغولة على عجل، فخرجت بشكل يفتقر للتفاصيل. أصيب النص بركاكة اختصرها إقحام الزهايمر بخفّة كتعبير عن كثرة نسيان المحبوب، لكن توزيع الأغنية أنقذها، حيث منحها النابلسي إيقاعًا جذابًا مصحوبًا بالجيتار الأكوستك والترومبيت.

نال الغزل في نساي أربع أغنيات، إلا أنها كانت الأضعف على صعيد الكلمة واللحن. تجدر الإشارة مثلًا إلى أغنية الوتر الحساس التي ألفها سعود الشربتلي ولحنها محمد رحيم ووزعها توما:

“يعاملني بطيبة وإحساس

يدلعني قدام الناس

بيعرف إني رومانسية

بيلعب على الوتر الحساس

يدوب روحي يدوبني

في كل زيارة بيعجبني

ونظرات عينه خلتني

أضرب أخماس فـ أسداس

لما يتكلم يجن جنوني

يتغير شكلي أنا ومضموني

سيطر واتمكن من قلبي

يسري في دمي والأنفاس”

على المستوى التقني، تسبب الزج بالأوتوتيون بأثر عكسي على أداء شيرين السليم لولا اللهجة البيضاء المربكة، إذ لم نفهم إن كانت شيرين تريد أداء الأغنية بلهجة خليجية أم مصرية: فلفظت “يعاملني” بضم الياء الأولى وتسكين اللام، بينما صيرت القاف جيمًا غير معطشة في “قلبي”، وفتحت الياء الأولى في “يسري”. لكن الأغنية تمتاز بلحن مرح وتوزيع يستعيد توجهًا قائمًا على آلة الكيبورد. عنصر التوزيع في الألبوم أنقذ بعض الأغنيات الأخرى التي ظلمتها الكلمات، مثل أغنية كلام عينيه التي لحنها ووزعها حسن الشافعي، فبرز فيها أداء شيرين مدعمًا بتقنية الصوت الثاني / الهارموني، إضافة إلى صولوهات الجيتار الكهربائي والكمان، والوتريات في الخلفية التي أثرت النسيج الموسيقي للأغنية.

بين مطرقة الغزل وسندان الهجاء، برزت أربع أغنيات امتازت – إضافة لتوازن كلماتها وبعدها عن المبالغة – بألحان جميلة وتوزيعات جذابة أطّرت الانسجام بين الكلام والموسيقى. أولى هذه الأغنيات هي بياعين الصبر، التي كتبها أمير طعيمة ولحنها إيهاب عبد الواحد. مصاحبة بالبزق والأكورديون والكمنجات، تبدأ شيرين بغناء أول مقاطع الأغنية الإيقاعية:

“يا بياعين الصبر شيلولي مناب

دا حبيب القلب ناسي وانا فاكراه

وادوني كمان شوية طولة بال

على تعب الحال وانا بستناه”

أبرز جماليات الأغنية كانت التنويعات اللحنية التي أضفتها شيرين على الجمل الموسيقية في المذهب، فأظهرت قدرة صوتها على التلون بعذوبة ودونما فجاجة أو ارتكاز على مداه. جمال صوت شيرين في القرار تجلى مرة أخرى في أغنية ضعفي، التي لم تنل بعد نصيبها من المشاهدات على اليوتيوب مقارنة مع أغنيات الألبوم الأخرى، إلا أنها حتمًا ستلقى استحسانًا أكبر عندما تؤديها شيرين بشكل حي، وهي البارعة في منح أغنياتها على المسرح جمالًا جديدًا. صوَّرت كلمات سلطان صلاح – بحساسية عالية ودون فذلكة – حالة نفسية اجتمع فيها الضعف والكبرياء فأقعدا المرء عن التواصل مع الآخرين:

“ضعفي بيصعب عليَّ

وعشان عزيز عليَّ

ببعد ساعتها عن أي حد انا بعرفه

وبخاف لضعفي ساعتها مني يخوفه

وافضل كدا

لحد ما اهدى

لحد ما اقوى

لحد ما اقدر من تاني أواجه” 

لم يغب عنصر المواجهة عن نساي، فجاءت أغنية طيبة وجدعة – بتوزيع ديسكو شيق – بنبرة متحدية لم تخل من خفة ظل:

“مش انا خالص على فكرة اللي ابقى محل شماتة

بدل ما تردلي غيبتي تيجي عليا انت كمان

ولا انا خالص اللي استاهل منك أي إهانة

يا أخي قول ليه ظالمينها دي أكيد زلة لسان

ده انا طيبة وجدعة

والطيبة ولا نافعة

يمكن ساعات لاسعة

الرك عالنية”

نجح اللحن في صبغ الكلمات بحس من الحذاقة ونزع عنها الهزيمة، فحتى لو أن “الطيبة ولا نافعة”، فشيرين هنا لا تستجدي شفقة بل تدعو ألا نتسرع في الحكم إن كنا لا نعرف إلا ما ظهر من الأمور:

“اللي وجعني إن في ناس كل مناها توقعني

واللي مفرحني إن في ناس أكتر في ضهري واقفين

بقينا بنهون على بعض وبنهين بعض ليه يعني

بيقولوا ليه فيا وفيا عرفوا اللي في قلبي منين”

الأغنية الأخيرة هي حتمًا درة الألبوم والأكثر تكاملًا في عناصر الكلمة واللحن والتوزيع والأداء. أحسنت شيرين صنعًا عندما أطلقت تاج راسك قبل سائر أغنيات الألبوم بيوم واحد فقط، في حملة دعائية تفاعلية أوكلت فيها اختيار اسم الأغنية للمستمعين على مواقع التواصل الاجتماعي. حققت الأغنية إلى تاريخ كتابة هذه المراجعة أكثر من عشرة ملايين مشاهدة على اليوتيوب خلال أقل من شهر، في مؤشر إضافي إلى أنها سطرت نفسها كإحدى أهم أغنيات شيرين إلى اليوم. على مستوى الحكاية، تقدم الأغنية مواجهة امرأة لزوجها بالاستغلال والأذى اللذَين اقترفهما بحقها. موسيقيًا، تبدأ الأغنية دون مقدمة، بصوت شيرين مصحوبًا بآلتَي البيانو والفلوت، ثم تدخل الكمنجات لترافق التصاعد الحاصل في الجملة الثالثة:

“أكون خاتم في اصبعك وتعمل فيَّ ما بدالك

تجيني وقت ما تجيني، تسيبني لمّا يحلالك

ولو راحتك مع دموعي، عيوني تبكي وتزيدك

واسيب عمري وأيامي رهن إشارة من إيدك”

تبرز إضافة الكمنجات والإيقاع البسيط (الذي يشبه نبضات القلب) في الكوبليه الثاني، مثيرة تصاعدًا دراميًا يصاحب كشف المرأة التي تغني عن الجانب الأشد ظلمةً لاعتداء الزوج:

“أأجل كل أحلامي عشان توصل لأحلامك

تكون الآمر الناهي، لازم أمشي ورا كلامك

ولمّا تخونني اعديها، واقول سامحيه عشان بيتك

واصدق لمّا بتقوللي أنا من قلبي حبيتك

وادوس على قلبي وكرامتي عشان إنت تكون راضي

ولما تقل من قيمتي ما اركزش واقول عادي”

تصل الأغنية إلى ذروتها عند بداية الكوبليه الثالث، مع دخول إيقاع متصاعد ترافقه النحاسيات المصاحبة لصوت شيرين / الزوجة وهي تكشف للزوج رفضها الانجرار وراء أوهامه، إلا أن الموسيقى تكاد أن تختفي عندما تصل شيرين إلى جملتها الأخيرة والأقوى في الأغنية – تنهي الجملة فتصدح خاتمة موسيقية أوركسترالية غنية تليق بالنهاية الدرامية لهذه الحكاية. هي حكاية لأنها وبخلاف سائر أغنيات الألبوم لم تغرق في الغزل أو الهجاء دون سياق، بل قدمت واقعًا قاسيًا فأتبعته بمشهد مواجهة مباشرة، ثم اختتمت بالحل الذي تمثل بالهجران.

عند الانتهاء من سماع الألبوم، لا يسعنا إلا الاعتراف بأبطاله المنتصرين: خالد عز ملحنًا وحسن الشافعي موزعًا. أما على صعيد الكلمات، أثبت أمير طعيمة مكانته كأحد أقدر شعراء أغنية البوب المصرية، بينما استطاع سلطان صلاح أن يقتنص انتصارًا في أغنيته الوحيدة في العمل. على صعيد آخر، ظلم التوزيع الرتيب الكثير من الأغنيات، حتى أن بعضها ظهر مألوفًا بشكل مريب (ألا تبدو بحبك من زمان مثلًا كنسخة كربونية عن فيفا فوريفر لفريق سبايس جرلز؟). لكن لو أردنا اعتبار كل أغنية (كلمات ولحن وتوزيع) كقالب لصوت شيرين، فقد كانت حتمًا متفاوتة في جودتها ودقتها وتفاصيلها، إلا أن المعدن الذي ملأ هذه القوالب لا غبار عليه: أكدت شيرين مجددًا موهبتها المتمثلة لا بجمال خامة صوتها وحسب، بل أيضًا بضلاعتها بكيفية تطويعه بسلاسة وعذوبة، حتى تدفق في كل الأغنيات حارًا هادرًا، فسكبته ذهبًا خالصًا في كل قالب – ربما خرجت بعض الأغنيات بملامح مشغولة بإتقان أكثر من غيرها، إلا أنها جميعًا صنعت من نفس المعدن الأصيل: صوت تلك “العيِّلة” الجبار في رقته.

المزيـــد علــى معـــازف