.
هذا الجزء الأوّل من سلسلة مقالات حول تاريخ الدَب. سيصدر جزء من السلسلة يوم الأربعاء من كل أسبوعين.
في بداية الخمسينات، شهدت شوارع جامايكا وتحديدًا مدينة كينغسوتن معارك ضارية. لم تكن هذه المعارك عادية، فالمحاربون أصحاب ذوق موسيقي جيد، وأسلحتهم مكبرات الصوت القوية وأسطوانات الموسيقى.
أمام متجر لبيع الخضار، وضع صاحب المحل مكبر صوت من كل جهة، وجهازًا للعب الأسطوانات على طاولة صغيرة. وقف وراء الطاولة ولمس الأسطوانة مرتين أو ثلاث بطرف سبابته، أنصت قليلًا ثم نظر من وراء كتفه فوجد جميع من في الشارع أداروا أذانهم إلى موسيقى البلوز التي اختارها. هكذا بدأ كل شيء في صيفٍ ما عند نهاية الأربعينات في جامايكا. كل من امتلك متجرًا وضع أمامه مكبري صوت ومشغل أسطوانات واحد، ليُسمع الناس ما لديه من تسجيلات وافدة من وراء البحر إلى مكتبته الغنية بالبلوز والجاز.
راجت هذه الظاهرة في العاصمة كينغستون، خاصةً في الأحياء الفقيرة التي لم يملك قاطنوها النقود لشراء الأسطوانات، ولا حتى الدخول إلى الحفلات والنوادي الباهظة، المخصصة للسياح والصادحة بموسيقى الكاليبسو. فكان كل من امتلك نظام صوت مؤلف من الأساسيات يقوم بإحياء حفلات خاصة بهدف الربح.
طوّر مالكو أنظمة الصوت معداتهم بعد أن اكتشفوا أنها تجارة مربحة، فظهرت الشاحنات التي تحمل المكبرات الضخمة والمولدات ومشغلات الأسطوانات. لم يكن سعر الدخول إلى هذا المجال الصوتي مكلفًا، ولا عاملًا للمنافسة، إذ تحددت كفاءة مالك نظام الصوت بعاملين أساسيين: مكبرات الصوت الضخمة التي شددت على صوت البايس أكثر، ما حمّس الحشد على الرقص ساعات طويلة، وامتلاك عدد كبير من الأسطوانات الحصرية والجديدة.
شهدت أحياء كينغستون معارك كبيرة عندما احتل كل مالك نظام صوت زاويةً له. عادةً ما تكون النزالات الكبيرة في الشوارع، أما الصغيرة فمكانها صالات الرقص. حمل مالكو الأنظمة أسطوانتهم المميزة وألقوا بها كالورقة الرابحة على مشغل الأسطوانات، ثم رفعوا صوت البايس ليهزّ الإيقاع الحيوي أرض حلبة الرقص أمامهم. حدد الحشد الراقص نتيجة المنافسة بوقوفه مدة أطول أمام واحد من المالكين، فيما انتهت بعض المعارك بتضارب وتحطيم للمعدات.
سنة ١٩٥٢ حدثت أول معركة علنية بين اثنين من أهم أنظمة الصوت: نظام توم ذ جريت سيباستيان لمالكه توم وونغ، وهو أول من طوّر نظام صوت مخصص وعالي الجودة، وامتلك أسطوانات حصرية حصل عليها من أقاربه القادمين من الخارج. بينما لم يكن منافسه كاونت نيك بهذه القوة، فخذلته مكبرات صوته الضعيفة وخسر المعركة.
لعبت ثقافة نظام الصوت دور المؤثر الأول في الذوق الموسيقي العام على الجزيرة، خاصة بعد أن انتقل مالكو الأنظمة من مرحلة لعب الأسطوانات إلى مرحلة إنتاج الأسطوانات والخروج بأنواع موسيقية جديدة.
كان كليمنت دود الملقب بـ كوكسون، وديوك ريد الملقب بـ ذ تورجان، منافسين مخضرمين ومن أهم مالكي أنظمة الصوت. تسابق الاثنان على الذهاب إلى أميركا والعودة بأحدث أسطوانات الآر آند بي، وعمد كل منهما إلى مسح أسماء المقطوعات عن كل أسطوانة كي لا يحصل عليها غريمه. في منتصف الخمسينات، ومع ظهور الروك آند رول، قلّت غنائم الآر آند بي، الجنرا الأشهر والأحب على قلب الحشود الراقصة التي لم ترُق لها الموسيقى الجديدة. أخذ كوكسون وديوك على عاتقهما البحث عن حل لهذه المشكلة.
عام ١٩٥٦، استعان كوكسون بعازف البيانو ثيوفيلوس بيكفورد، الذي قضى ساعات طويلة للخروج بأول مقطوعة موسيقية جامايكية تجريبية. بعد جلسات طويلة من التسجيل في استديوهات فيديريل ريكورد، أول استديو تسجيل محلي في جامايكا، خرجت أغنية إيزي سنابيج. في البداية ظن الجميع أنها أغنية بوجي، لكن نغمة بيانو بيكفورد التي رافقت الإيقاع عند الدقة الثانية ثم الرابعة، والابتعاد عن الضربات العشوائية، أظهرا بنيتها الإيقاعية المختلفة.
جعلت ضربات الإيقاع الثابتة مع صوت البيانو من إيزي سنابيج أول مقطوعة تجريبية لموسيقى السكا. لم يكن كوكسون نفسه يعي أنه خرج بهذا النوع الجديد إلا بعد نجاح الأغنية ودخولها ساحات الرقص. استحوذ كوكسون على حصرية تشغيل هذه المقطوعة على نظام صوته لمدة ثلاث سنوات.
“عندها قررت أن أنتج بنفسي بعض التسجيلات المحلية لنظام الصوت. عندما بدأت، لم أدرك أنها ستتحول إلى عمل تجاري وحتى أن أبيع تسجيلاتي الخاصة. لكن بعد الجلسة الثالثة أو الرابعة، كانت ردود الفعل جيدة جدًا لأن الناس بدأووا يرقصون. هكذا لمع نجم السكا؛ لقد أنتجنا الكثير من المقطوعات الموسيقية مثل إيزي سنابينج وشافلينج جاج.”
بالعودة إلى بداية الخمسينات، مع احتدام المعارك بين أنظمة الصوت، عيّن كوكسون دود ملاكمًا يعرف بـ برنس باستر (سيسيل بوستامينتي كامبل) كحارس شخصي لحماية نظامه. تعلم الأخير من كوكسون كيفية تشغيل النظام وإدارته. رغم إمكانياته المحدودة، استند برنس باستر إلى خبرته الموسيقية السماعية وأسسّ نظام صوته الخاص في بداية الستينات، عرف باسم صوت الناس.
بعد نجاح نظام صوته، عمل باستر مع عازف الترومبون ريكو رودريغيز وأنتجا أول أغنية سكا رسمية عام ١٩٦١، ليتل هوني. أعطت هذه الأغنية السكا خاصيته الأولى، الضربة الحيوية على الإيقاع بعد النغمة الثانية والرابعة من الجيتار. غزت الأغنية ساحات الرقص، وابتكر الحشد حركات جديدة لتستقبل أجسادهم صوت الإيقاع الزخم واللحن المتزحلق، بتحريك الكتفين والرجلين بحركات معاكسة، فكانت رقصة السكانكيج. أما لفظ سكا فجاء من الصوت الذي يخرجه عازفو الجيتار والبيانو عندما يريدون إعطاء نغمة عالية وفرحة، نسمع ذلك بوضوح في أغنية باستر سكا الجميع.
لم يَحُل اللحن المتفائل والمتحرك عائقًا بين باستر وكتابة كلمات ثقيلة وواقعية، لدرجة جعلت ثيمة الكآبة تستحوذ على بعض أغانيه. ابتكر شخصية خيالية أسماها القاضي دريد، وجعله يقاضي مجموعة من الشبان والشابات المعروفين بالـ رود بويز (Rude boys). عرف هؤلاء بحبهم للسكا، وتواجدهم في كل الحفلات. ارتدوا ملابس مختلفة لتمييزهم مثل قبعات البورك باي والسراويل الضيقة فوق القمصان المشدودة بأحزمة إلى وراء ظهروهم. أما تصرفاتهم فكانت متمثلة بسلوك أفراد العصابات، وقد استخدمهم مالكو أنظمة الصوت للحماية.
ذاع سيط الرود بويز السيئ في بداية الستينات، بعد أن اتهموا بأذية الناس، ما اكسبهم لقبهم، الذي تم تداوله في الكثير من الأغاني التي تطلب من هؤلاء الشبان تخفيف حماسهم. انحاز برنس باستر إلى الروديز في أغانيه، ربما لأنه كان واحدًا منهم، ففي أغنية القاضي دريد حكا عن محاكمة غير عادلة تقام بحق أربعة من الرود بويز دون سماع شهاداتهم:
“- أرى بأنك متهم بعشر محاولات إطلاق نار، وخمس جرائم قتل
– لكن يا حضرة القاضي لم أفعل ذلك!
– مذنب أم غير مذنب؟
– غير مذنب يا سيدي
– لا يهمني ما تقوله حكمت عليك بأربعمائة سنة”
عام ١٩٦٢، بعد سنة من استقلال جامايكا عن بريطانيا، أسس كوكسون شركة تسجيله الخاصة راديو وَن، وافتتح استديو تحول سريعًا إلى مختبر تجارب جمعت عازفي وموسيقيي الجزيرة. تبعه منافسه ديوك ريد بتأسيس شركة تسجيله تريزور آيل استوديو سنة ١٩٦٤. بدأت مرحلة جديدة من المنافسة قائمة على تسجيل الأغاني ونسخها على أسطوانات النسخ، أو ما عرف بالدَب بلايت (dubplate).
عمل كوكسون على تسجيل مقطوعات موسيقية تجرييبة على الدَب بلايت ولعبها على نظام صوته. في كل مرة لم تشعل الموسيقى الحشد، عاد إلى الاستديو وعمل مجددًا على تغيير نغمات وضربات في المقطوعة، حتى رقص جميع من في الصالة. سرعان ما تحوّلت الجزيرة إلى حقل تجريبي للموسيقى. وفي استديو تريزور آيل تعامل ديوك ريد مع واحدة من أهم فرق السكا التي خرجت في منتصف الستينات، ذا سكاتلايتس. ضمت هذه الفرقة أكثر من عشرة عازفين صقلوا مهاراتهم باللعب لسنوات طويلة في حفلات الفنادق الخاصة بالسياح، ما أتاح لهم فرصة تكوين ثقافة موسيقية واسعة عن موسيقى الجاز والآر آند بي، فاتجهوا إلى إدخال الكثير من آلات النفخ على موسيقى السكا مثل الترومبون والبوق، مضيفين ميزة جديدة للـ سكا.
بين نهاية الأربعينات وبداية السبعينات، شهدت جامايكا هجرات متتالية إلى بريطانيا للهرب من الفقر وحرب العصابات. حمل المهاجرون في حقائب سفرهم أسطوانات الموسيقى المحلية. هكذا دخل السكا إلى البارات والملاهي البريطانية في بداية الستينات. أطلقت كلمة تو تونز على الحركة الموسيقية الحيوية التي أطلقها هؤلاء الوافدون. في أواخر السبعينات أسس جيريمي دامرز، موسيقي بريطاني من فريق ذ سبيشلز، شركة تسجيل خاصة أسماها تو تون، ساهمت في إحياء الموجة الثانية من السكا، وأنتجت ألبوم فرقة مادنيس، التي استوحت اسمها من عنوان أغنية لباستر، وأهدته تسجيلها الأوّل. دمجت هذه الموجة إيقاعات السكا مع عناصر من البنك، لتخرج بقالب أكثر حيوية من الموجة الأولى.
أما ثقافة نظام الصوت فانتشرت بعد أن أسس المهاجر ديوك فينز أول نظام صوت في بريطانيا عام ١٩٥٥. بدلًا من الشجارات الوحشية بين مشغلي الأسطوانات الذين يلعبون بالتزامن، أصبح كل مشغل أسطوانات يلعب تلو الآخر، بشكلٍ أرسى الملامح الأولى لثقافة الأندية الليلية (clubbing).
استطاعت استديوهات التسجيل المحلية أن تنشر السكا وتضع جامايكا على الخارطة الموسيقية العالمية. في منتصف الستينات طوّر أصحاب الاستديوهات معداتهم المحلية الصنع، واعتكفوا على التجريب الموسيقي لأيام وأسابيع قبل الخروج بأنواع جديدة مرة ثانية وثالثة، غزت العالم بإيقاع ثابت وحيوي، فكان الروكستيدي وبعده الريجي.