.
يجمع نور الزين أسوأ وأفضل ما في الأغنية العراقية المعاصرة. عنده أغاني لوم القدر وغدر الأصحاب ومآسي الحب يرافقها تفجُّع ونواح مستهلك، وتجارب مبتكرة في قوالب تراثية مع أغانٍ إيقاعية ساهمت في دفع الأغنية العراقية إلى صدارة البوب العربي. بدأت هذه المرحلة من جيناك بهاية، لـ نور الزين وغزوان الفهد، التي بدأت سلسلة من المشاهدات المليونية لأغاني نور الزين تجاوز مجموعها اليوم مليارين ونصف.
يمكن القول إن نور الزين ساهم في الكشف عن الإمكانيات الكامنة في إرث الأغنية العراقية، وكان ممن فهموا كيف يوازنون بين أغاني الشجن، الأساسية في العراق، مع الأغاني الإيقاعية النابضة، فأصبح التعاون معه قفزة جماهيرية لأي فنان؛ إذ بلغ كلٌّ من محمد الفارس وغزوان الفهد ويوسف الحنين وزيد الحبيب وضياء الميالي ذروته الجماهيرية بتعاونه مع نور الزين. أيضًا، حاول نور الزين عبر السنوات تطوير فهمه لمكامن قوة الموزعين، كونهم سر الضربات الكبيرة، عبر التجريب المستمر مع أسماء مختلفة. هناك أكثر من ١٤ موزّع لأغانيه في آخر خمس سنوات، قدموا معه أفضل ما عندهم.
مع ذلك، لدى التركيز على العناصر الثلاث الرئيسية في الأغنية، الكلام واللحن والأداء، نجد تجريب نور الزين عبر السنوات السابقة شبه منعدم، بكون الكلام غالبًا لقصي عيسى ويدور حول المواضيع والمفردات ذاتها، والألحان بمعظمها لنور الزين نفسه وتردد صدى بعضها، والأداء مفرط في استعمال البحّة والترجيف الدراميَّين في مكانهما وفي غيره. لكن في هاي هية، هناك اختلاف مهم.
نضج نور الزين أدائيًا. استغنى عن البحّة، أو خفف منها إلى حدٍّ بعيد، وأحكم سيطرته على الترجيف والعُرَب لتصبح جماليات ملفتة غير مقصورة على الدراما، بل ناتجة عن طَرَب مُعدي لوقوع “الفُرقة العاديّة”. بالنتيجة، وكون نور الزين يلحن هنا لنفسه، تطوّر كذلك أسلوبه في التلحين، مفيدًا من تميُّز الكلمات إلى جانب نضج أدائه.
كتب الكلمات رامي العبودي، البغدادي صاحب النجاحات المليونية مع أكبر النجوم. عُرِفَ العبودي بكونه من أصحاب الفضل في تجاوز الأغنية العراقية محليتها بتبسيطه اللهجة، وهو فخ وقع فيه معظم شعراء الخليج وأدّى إلى خسارة نصوصهم الكثير من خصوصيتها وتحولها إلى ترجمة خليجية للأغنية المصرية. لكن هُنا اعتمد العبودي اللهجة البصراويّة غير المبسّطة، فخرجت برنّة أصلية محبّبة وخفة ظل: “تعلمني قابل بيك / غير اني الـ مربّيك / مدري شم وجه عندك / قابليا.”
ربما شكّل هذا التميز في الكلمات، إلى جانب نضج الأداء، دافعًا لخروج نور الزين عن معتاده في الألحان، فخرج لحن رشيق وجذّاب بدوي الطابع، مستثمرًا فيه قلب التاء المربوطة ألفًا ممدودة في اللهجة البصراوية لصياغة قفلات لعوبة تجعل رد الكورال بـ “هاي هية” أساسيًا في نسيج الأغنية، ومعززًا الطابع البدوي.
بخبرته، أدرك نور الزين أن عمار عدنان من أفضل الموزعين تعاملًا مع الإيقاعات، وأجزى عدنان ثقته بتوزيع صدره إيقاع ملفت وحوله لمسات بسيطة ومثرية. إلى جانب الرق والمزاهر نسمع أصوات الكاسورة البَصرية والنقّارة، أو محاكاة لأصواتهما، مع استخدام ساحر للكمان في الدخلة يستحضر صوت الربابة. تتناوب هذه الألات تارةً وتجتمع أخرى، إلى جانب عود وناي وتصفيق في الخلفية، بحيث تتجدد جاذبية الأغنية طوال زمنها؛ خاصةً مع إتقان احترافي من طيف عادل ركّز على صوت نور الزين وزاده عذوبة.
توِّجت الأغنية بفيديو ممتع بألوانه، وراقصته التي أصبحت نجمة الأغنية، مصوّر على ميناء الفاو في البصرة من إخراج رواء جود؛ في التعاون ربما الأول مع نور الزين الذي اعتاد أن يُخرج رأفت البدر فيديوهاته.
هاي هية أفضل مثال عن ما يتقن نور الزين تقديمه، أغنية إيقاعية رشيقة خفيفة الظل، بنَفَس محلّي عالميّ الجاذبيّة، خرج فيها عن معظم ما اعتاده فخرجت به إلى مساحة جديدة تلحينيًا وأدائيًا.