.
تحمّل الفلسطينية هدى عصفور ألبومها الأخير كوني وعودًا مختلفة، يتمثل سقفها الأعلى في إنتاج صوت بوب بديل على حد تعبيرها (ما أوردته في النص المرافق للألبوم)، وهو ما حدد أفق توقعاتنا من الألبوم بمدى تحقيقه تلك الغاية. لأجل ذلك، تخوض عصفور تحديات جمالية ومغامرات استعادية تطول اختيارات من العراق، وتونس التي استقرت فيها هدى لمرحلة ما من حياتها، كما تحاول صقل جانبٍ من تأثراتها الموسيقية في ألبومها الأول جاية ورايحة الصادر في سنة ٢٠١١.
كوني، فاتحة الألبوم وعنوانه، تذكرنا بمرحلة كميليا جبران مع فرقة صابرين وما تلاها، من خلال توظيف إيقاع صوتي مختلف بالاعتماد على البايس والترومبيت والساكسفون، إلى جانب العناصر الكلاسيكية للأغنية العربية كالتخت الشرقي والمقامات. تظهر هدى على العود في جمل ثابتة وزخارف قصيرة لا تفتح مساحات كبيرة للارتجال، في أداء يحمل بصمات كل من كميليا، وخالد جبران الذي درست هدى معه. تستمر الأغنية على صوت واحد تقريبًا منذ بدايتها، ثم ينفجر صوت هدى في النهاية ليضيف حياة للأغنية، ربما كانت ستفيد الأغنية أكثر لو دخلت مبكرًا.
في استعادتها لأغنية مالي شغل بالسوق من التراث العراقي، التي اشتهرت مع حسين نعمة وإلهام مدفعي، نجد نسخة هدى تتميز بتوزيع موفق يسمح للآلات النفخية بأن تطغى على العود عند اللازمة، معطية طابعًا مرحًا وممتعًا. في ياللي بعدك، تخلت هدى عن التلوينات الصوتية التي كانت نقطة قوة في النسخة الأصلية لـ صليحة، وآثرت أن تختزل البنية الرئيسية التي احتوت على ثلاث جمل لحنية لتكتفي بواحدة فقط، متخلية عن صوت الأوركسترا والزخارف اللحنية التي وضعها خميس الترنان في اللحن الأصلي، فيما ظهر صوتها أقرب إلى التراتيل الكنسية ما أضاف مسحة من الهيبة. انحسرت مساحات الارتجال، واستقر جو صوفي في الأغنية من خلال أداء العود والإيقاع الذي تواتر عبر نقر ثابت ومكرر. كنا ننتظر أن تصعد هدى بصوتها في أكثر من مرة، ولكن حدث ذلك مع نهاية الأغنية ليمنحها ذروةً متأخرة. نجحت هدى في تلافي الوقوع في ظل صليحة عبر ابتعادها عن استنساح عناصر نجاح النسخة الأصل.
عملت هدى على تكرار التجربة في مطر ناعم، حيث حضر العود والإيقاع وفق نفس المعادلة، مع إضافة الدرمز. لكن هذه الروح المغامرة الناجحة تتقهقر في طالعة من بيت أبوها، لتتعامل هدى مع الأغنية الأصل بانضباط متعثر، إذ لم تغير بها سوى بإضافة غير موفقة للترومبيت وآلات الإيقاع. تكاد تكون الأغنية مجموعة أفكار أكثر منها محصّلة نهائية، مع اجتهادات بين الحين والآخر في زخارف غنائية تؤثث بها مفاصل الجمل اللحنية.
حتى تلك اللحظة من الألبوم، لم تتبلور هوية صوتية مستقلة لهدى عصفور. كان علينا أن ننتظر حتى ليلى كي نتلمس بداية ما يمكن أن يكون بوب بديل. تقترب الأغنية من صوت البوب التسعيني في بعض مواضعها، لتذكرنا ببدايات جوليا بطرس وماجدة الرومي، خاصة عند اللازمة الرئيسية “ولو يا ليلى”. يظهر صوت الأوركسترا أكثر تماسكًا ويستقر عزف هدى على العود في جمل مصقولة مرافقة. سرعان ما تختفي كل تلك العناصر في مش غلط التي حاولت فيها هدى أن تظهر بهيئة جديدة بالاعتماد على حيوية الروك. كان ذلك تقريبًا أكثر شيء مش غلط في الألبوم إلى جانب ياللي بعدك وليلى. استبدلت هدى العود بالجيتار الكهربائي في جمل قوية، ظهر الدرامز أكثر تحررًا وحيوية فيما كان الأداء الصوتي أشد حماسًا، ووظّفت عناصر الأغنية بذكاء بين اللحن والكلمات. ينخفض صوت الجيتار ويستمر إيقاع الدرامز عند مقطع “كأني وحدي هنا ما عاد في حدا ما عاد فيني زيادة” ليوحي فعلًا بعزلة صوتية، ثم يرجع الصخب ليفرج عن ذروة قوية على مستوى اللازمة “في بيننا زمان” استمرت لأكثر من دقيقة في تصعيد ملحمي للجيتار والدرامز، ولصوت هدى الذي طوعته كآلة ثالثة. منحت مش غلط الألبوم نشوة النهايات بمذاق مفاجئ وغير متوقع.
لا نجد في كوني البوب البديل الموعود، لكنه يقدِّم في ليلى، التي كتبتها هدى بنفسها إلى جانب أغنيتي كوني ومش غلط، بداية لنحت هوية خاصة بهدى عصفور، فيها أعمدة الأساس لنتاجات قادمة مبشِّرة.