fbpx .
أجنبي قديم

هذه المكسيك لي: يولاندا أوريامونو، كوستا ريكا

معازف ۲۰۱۵/۰٤/۰۲

ترجم شادي روحانا هذا النص من الإسبانيّة للكاتبة يولاندا أوريامونو لأوّل مرة إلى العربيّة.

(مع كل الشكر والتقدير لـ سماح جعفر )


هي لي بكل أشيائها التي أدركتها أو شعرت بها.

بسمائها البنفسجية، العالية، كم هي عالية، عند الغروب. عندما تبدأ المدينة الكبيرة١، بأضوائها، بالدفاع عن نفسها ضد الليل، وتظهر اللافتات التجارية أمام أعيننا، فجأة، بينما لم يلحظها أحد تحت ضوء الشمس. عندما تتبعثر مصابيح السيارة في الشوارع بانتظام، أي بالتوازي بينها، وعندما تكون الرياح أكثر برودة. عندما يركض الناس بسرعة خلف العشاء، متكتّلين في زوايا الشوارع ينتظرون الأوتوبيس، بحميمية. الكل متساوون في الحنين إلى البيت الدافئ. في الليالي نرى كل شيء دون أن نراه: نرى فقط عمق فيض مِحَننا وفرحنا، وهم مغلّفون بالخيال، بينما عظمة الليل الآتي تعدينا بأنانيتها. عندها، هذه المكسيك تصبح لي.

المساء شفاف، خالٍ من الغيوم، واللون واحد يبحر نحو البنفسجي. هنا، لا توجد أية أوهام. فجأة، الأشياء التي كانت ورديّة اللون تصبح سوداء، الأشجار التي كانت خضراء تصبح سوداء، الرخام الأبيض يصبح أسود، كل شيء بائس يصبح أسود، كل شيء حزين، يصبح أسود. هو المساء الأرجواني الذي لا يحتمل السكون، فيموت؛ وهي ليلة الشتاء، الغدّارة، الغادرة، التي تحكم عليه بالإعدام.

يضعون الأيادي في جيوب معاطفهم، أو تتشابك الأيادي، وينظرون إلى الأسفل أو إلى الداخل. مدى رؤية العين يتقلص؛ السماء لم تعد موجودة، ولا الطوابق العالية موجودة، ولا أعمدة المصابيح موجودة، ولا شيء موجود سوى هذه الحميمية التي تجعل من الليل أمرًا ضروريًّا. فالمدينة، بمعركتها اليائسة، لا تريد أن تسقط في هاوية السواد.

عندها، تصبح هذه المكسيك لي.

من الدقيقة ٢:٠٠ تنتقل لغة الأغنية من الإسبانية إلى الزابوتيكو، وهي إحدى لغات السكان الأصليين في ولاية واخاكا جنوب المكسيك

هي لي في الأروقة الملتوية، بمهارة، في حديقة تشابولتيبيك٢. أطراف الأروقة ليست مطرزة بالشجر (ففي الطرق الضيقة ليست هناك أهمية للشجر)، إنما بالعشب الرقيق، الصلب، المنتصب، من الطحالب المبطنة، الزاحفة أو الليفية؛ من شريط من الحصى القديم قذفته أقدام المسافرين إلى حافة الطريق، وهو على وشك أن يجد حتفه التراجيدي في هاوية عمقها ٥٠ سنتيمتر ليضيع بين العشب الأكثر رقاقة، الأكثر صلابة، الأكثر انتصابًا. دون شك، في هذه الأروقة الضيقة ليست هناك أهمية للشجر العالي. لكن هذا ليس حال الأغصان المنخفضة ومذاقها على وجوهنا، ولا حال ذلك السرير من المسامير الخضراء، الذي قذفته شجرة الصنوبر في الخريف لكي تأوي جذورها من البرد؛ المسامير تسقط، أحيانًا، يتيمة مثل الشتاء النباتي على الطريق، أو تتبعثر إلى عناقيد كما الزهور، البرّاقة والداكنة منها.

هي لي أيضًا في الممرات الفسيحة المحمية بشجر الأهويويتي٣ في تشابولتيبيك، التي يرجع عمرها إلى مئات السنين، بل آلاف السنين؛ ويقع على الإنسان واجب تثبيت قلوبها بالإسمنت، وهذا قبل أن تسقطها الريح وينكسر جذعها الصدئ. الجذوع مجروحة بجرح عميق. لا تثير الريب، كأنها على وشك إجهاض فرعٍ من فروعها. نخاعها يتشعّبإذا لمستها تجدها باردة، فإما هي غير نظامية بعبقرية، أو هي حمراء وفتيّة مثل الجرح الطازج. قوة شجر الأهويويتي الزائفة تكمن في الإسمنت على الطريق. تبدو ظلال الإنسان في هذه الممرات الداكنة، ذات اللون الرمادي الدخاني، مفعمة بالهواء الساكن بسبب رطوبة الجو، هواء ثابت، هواء حاد، تبدو ظلال الإنسان فيه منتظمة بإفراط مقارنةً بما تنسجه الشمس بأوراق الشجر. في هذه الممرات الهادئة، الممرات الصامتة، التي تجد حتفها هناك، عند حافة الشارع، حافة الطريق، أو عند سفوح التلة حيث يذهب الزوّار لمشاهدة القلعة أو ليتحسّروا على متاهة تفاهتهم وارتباكهم. في ممرات الأهويويتي، في البحيرة حيث البط يلاحق الزوارق، في القلعة المتكبّرة، في المروج، في الزّعرور الأحمر، في الجُرَيس، وفي ممرات تشابولتيبيك السريّة، في كل هذا، هذه المكسيك لي.

فرق المارياتشي٤ الفولكلورية تعزف وتغني للسائحين المارين، لكنها أكثر من ذلك. فمع أنها تتكتّل في ساحة غاريبالدي٥، من الثامنة ليلًا وحتى شروق الشمس مع قيثاراتها، وتغني للسائحين العابرين، فهي لا تغني من أجلهمهي تغني من أجل أولئك الذين بإمكانهم رؤية، ليس فقط ألوان الثياب المزركشة، بل أيضًا كم هي رثّة، وليس فقط معاطف التشارّو٦ المطرزة، بل انعدام تطابق الألوان بين البناطيل والمعاطف. بناطيل منعدمة التألق، خشنة، بناطيل عمالية، ملطخة بالكلس أحيانًا، أو بغبار الخشب العطر الطازج من الورشة أحيانًا، أو ملوثة ببقع البؤس. هؤلاء هم المارياتشي، إذا رأيتهم، تكون قد رأيتهم فعلًا، تجد عليهم علامات البرد، والجوع، وعندها تعرف أن دفع البيسو مقابل أغنية شعوريّة هو ثمن رخيص جدًّا في مقابل شعورها. فهم ينشدون إذًا من أجل ذاك الذي يلاحظ تلك القطعة الورقية المعلقة على قيثاراتهم والمكتوب عليها، بخط اليد، كلمات أغنية كتبت بعفوية من أجل غنائها عندما يجد المرء نفسه منزويًا وحيدًا. هم ليسوا ملكًا للسائحين الذين يطلبون أغنية أمريكية أو أغنية Swing تغنى بصوت وأداء صدئين، بل ملك من يريد أن يصغي إليهم وهم يغنون أنشودة الـLlorona المنسية٧، أو لحن كلمات الـ٨Zandunga، أو يؤدون أنين أنفي لأنشودة من الواستيكا٩، ويغنونها بإتقان. مرهقون. عليهم علامات الشيخوخة، مع أن عمر البعض منهم لا يتجاوز الاثنا عشر. خربت حناجرهم وهم يصرخون للسائحين ويبيعون الأغاني. عيونهم حزينة، ووجوههم كوجه هندي أحمر فقد قاربه. أحذيتهم بالية ومثقوبة. يلبسون ثوب عرس السائر في النوم. شاحبون. صوتهم مريض، ولكنّه جميل عند نوح المقطع التالي:

يقولون إنه ليس لي عزاء

لأنهم لم يرونني وأنا أبكي قط،

هناك أموات يموتون دون ضجيج

لكن مرثيتهم أكبر، وأكبر، وأكبر١٠

مارياتشي، مكسيكيون بامتياز. الفرقة مؤلفة من سبعة، كلهم حزينون، كلهم قساة، كلهم فقراء. سبعة حناجر حادة، ملتوية برقة، وبأيديهم المكسيكية والذكورية يشكلون سبعة أجوبة قاطعة لكل الأسئلة الملتوية ولكل النوايا الخبيثة. في رثائكم، أيها المارياتشي، هذه المكسيك لي.

قلاع من القصدير، طائرات من الورق، عجلات ملونة تدور وتدور، أوعية من الفخار مدهونة بالأحمر أو الأخضر بعناء، كراسي عليها وسادات من القطن لتجلس عليها الدمى، كل شيء رخيص ويباع بالقرش، بالبيسو، معروض ومنتظم على سيخ ملونة ومزركشة، وعلى الملأ لتلبية شهية أطفال الأغنياء في الحدائق العامة. هكذا القطاع الشعبي للسوق المكسيكي: لا يفنى، غني، وبريء. سوق البائس الذي لا ورشة له، الذي يعمل ساهرًا طول الليل من أجل المشتري الذي سيفاصله غدًا في السعر، وقد لا يشتري. صناعة محلية، بيتية، منتوجها يُباع في الشارع في الهواء الطلق، مصحوب بأطفال جائعين ونحيفين ينامون على الرصيف أو داخل صندوق بجانب أمهاتهم الهنديات. هي صناعة المستحيل، منسوجة من الخيال الذي لا يشبع، من النضال ضد الفقر وجهًا لوجه.

لأجل حضن الأمهات اللواتي يبعن في الشوارع بصحبة أطفالهن، يصرخن بلغة غريبة، غير مفهومة١١، سوف أبكي. لأجل قوة هذا الشعب، هذا الشعب الذي لم يُهزم قط، هذا الشعب الفخور، سوف أناضل.

هنا، في هذه الأرض الغريبة، كي لا أشعر بالوحدة، هذه المكسيك لي.

المكسيك، كانون الأول من ١٩٤٤

المصدر

Yolanda Oreamuno

De obscuras extranjerías

México, UNAM, 2007


يولاندا أوريامونو

(كوستا ريكا ١٩١٦ – المكسيك ١٩٥٦)

كاتبة قصص قصيرة ومقالات وروائية. أحد رموز الأدب الطليعي في أمريكا اللاتينية. عاشت في كوستا ريكا، المكسيك، تشيلي، جواتيمالا والولايات المتحدة.

١ مثلما يحدث في العديد من الدول العربية والعالمية، يشار إلى العاصمة باسم الدولة. فالمكسيك هنا هي أيضًا المدينة الكبيرة، أي العاصمة.

٢ حديقة كبيرة داخل مدينة المكسيك، وتعتبر من الحدائق العامة الأكبر في العالم. فيها مناطق طبيعية، حديقة حيوانات، بحيرة، وقلعة تشابولتيبيك، والتي كانت القصر الصيفي للولاة الأسبان قبل استقلال البلاد.معنى أسمها chapultepec في لغة الناهواتل: تله الجندب، وهو يعود إلى قبل الفتح الأسباني.

٣ ahuehuete ، كذلك يعرف بـ سرو موكتيزوما (إشارة إلى آخر حاكم لأمبراطورية الأزتيك قبل نكبتها من قبل الأسبان عام ١٥٢١) أو السرو المكسيكي” شجر أخضر عال يصل طوله إلى ٤٠ متر. معنى الاسم بلغة الناهواتل: شجر الماء القديم.

٤ Mariachi : نوع من الموسيقى من شمال المكسيك وغربها، قام النظام الرسمي بالترويج له وتسويقه كموسيقى المكسيك القومية لأهداف تجارية وتعزيز السياحة. الآلات التي تعزفها فرقة المارياتشي هي وترية وهوائية، وموضوع كلمات الأغاني هو الحب والحنين. غالبًا ما تجد فرق المارياتشي مبعثرة في شوارع العاصمة، تعزف وتغني للمارين والسائحين بحسب الطلب مقابل البيسو المكسيكي.

٥ Plaza Garibaldi : ساحة في وسط البلد، تتجمع يها فرق المارياتشي.

٦ Charro ، وهو اللباس الذي رُوّج له كمكسيكي بامتياز من قبل النظام الرسمي ووكالات السياحة. في اللغة الأسبانية المتداولة في المكسيك، الـcharro هو المسئول النقابي المعيّن من قبل النظام كممثل للعمال بهد منع العمال من التنظيم.

٧ La llorona ، أو الناحبة، إحدى الأغاني الشعبية المتداولة في أمريكا اللاتينية. في حالة المكسيك، تحكي الأغنية قصة امرأة من السكان الأصليين عشقت رجلًا أسبانيًّا وأنجبت منه ثلاثة أطفال. رفض الأسباني طلب عشيقته بالزواج منه، وتزوّج من امرأة أسبانية غنية. الأغنية هي نحيب وبكاء المرأة عند معرفتها بخبر الزواج، قبل انتحارها.

٨ أغنية من منطقة واخاكا جنوب المكسيك. بالإضافة للإسبانية، تغنى أيضًا بلغتي الناهواتل والزابوتيكو للسكان الأصليين. يبدو أن لها أصول أندلسية.

٩ Huasteca هي منطقة واسعة شرق المكسيك يسكنها الواستيكيون، من أصل حضارة المايا القديمة.

١٠ مقطع من La llorona.

١١ الإشارة إلى لغات سكان المكسيك وأمريكا اللاتينية الأصليين، أي من يطلق عليهم اسم الهنود الحمر.

المزيـــد علــى معـــازف