.
“ضحكتك، غضبك، ذقنك، غيرتك، حزنك، عيناك، صوتك، غزلك، و طريقتك في الحديث معي اقسم انني اشتقت اليهم كثيرا!…”، “ببرائته، مش مثل باقي المطربين وشعبي… وقفتو عالمسرح… إيدو…ما في حدا مثلو”، “ابو الفقرا منعيّطلو نحنا”، “ابو النزاهة”، “حقيقي”. هذه عينة بسيطة من الكلام التي يتدواله عشاق جورج وسوف في وصف نجمهم وما يميّزه عن باقي المغنين. ما يلي محاولة لتشخيص مكونات كاريزما جورج وسوف بدءاً من معجم معجبيه.
https://www.youtube.com/watch?v=1Fl1uEyvDfM
“معقول يقلدوك بصورة الالبوم؟” تتوجه مقدّمة البرنامج التلفزيوني إلى جورج وسوف، “انا بعيد عن الجو… مين عم يقلد جديد…التايواني بتوعي” يجيب ضيفها، ثم يكمل “وقحين، بيحكو مثلي”. أمّا حديثه التلفزيوني الأول بعد إصابته بالجلطة الدماغية ٢٠١١ التي قيل أنها أصابته بشلل نصفي بجانبه الأيسر، فيبدأه جورج وسوف بعد قطعه المسافة التي تفصل الكواليس عن كرسي المقابلة وهو يعرج ببطئ بالتهكم على مقلديه متسائلاً بسودواية إن كانوا سيقلدون مشيته الآن مثلما قلدوها في الماضي.
في كلام جورج وسوف عن نفسه حرص شديد على فرادته بما هي تمايز عن باقي الوسط الفني – “انا مني منهم“، أي الفنانون، كما يقول في إحدى المقابلات – وبما هي الأصل الذي يتعرّض للتقليد من النسخ الفنية المبتذلة. أمّا في المقلب الآخر من المعادلة فالمغنون الشباب الذين يتم تشبيهم بجورج وسوف يسعون بجهد إلى نفي شبهة تقليده عن أنفسهم. التقليد لا يتناول طريقة جورج وسوف في الأداء الغنائي كاللكنة ومخارج الحروف والفيبراتو فحسب. لا بل يتخطّاه نحو تقليد حكيه ولغة جسده – مشيته وقفته – أي العناصر الما دون-غنائية الأساسية في إنتاج كاريزما جورج وسوف لدى جمهوره.
خطاب الأصلي والتقليد من أكثر الخطابات المتدوالة عن جورج وسوف التي يشارك فيها المغني ومعجبوه والإعلام ومن اتهم من المغنين بذلك. يساهم تكرار ذلك الخطاب بإعادة إنتاج فرادة جورج وسوف من خلال إبراز المسافة الإجتماعية التي تفصله عن باقي الفنانين، مكرّسة تربّع سلطان الطرب على عرشه، ذلك الذي يقلَّد ولا يقلِّد.
التماهي مع صورة الوسوف والسعي إلى تقمّص شخصيّته علامة على شعبية سلطان الطرب. تقليد جورج وسوف ليس فقط مجرد خطاباً وممارسة متدوالة في الأوساط الفنية، بل إنه أيضاً ممارسة يقدم عليها البعض من جمهوره الشبابي الشعبي الذي يتبنّى “لوك الوسوف” – شعره القصير وذقنه الخفيفة – وطريقة حكيه في حياته اليومية. تبنّي مريدي الوسوف لجمالياته وكلامه ولغة جسده لا يدينهم كما هو الحال مع المغنين. فثنائية الأصلي والمقلد لا تنطبق على عشاق الوسوف المتماهين مع صورته. بل على العكس، شعبيته دليل على تقلّص المسافة الاجتماعية التي تفصل الشباب عن أكثر المغنين العرب إنتشاراً منذ ثمانينات القرن العشرين. فيصبح جورج وسوف المثال الذكوري الشعبي الذي ينحت الجسد والنفس على صورته.
تتقلص المسافة الاجتماعية التي تفصل بين سلطان الطرب وباقي المغنين أيضاً عندما ننتقل إلى كنية جورج وسوف المحببة. أبو وديع، وهي كنية وسوف المفضّلة لدى جمهوره، تنفي صفة النجومية والتألق والعلاقة الاجتماعية الهرمية مخاطبةً سلطان الطرب كأي ربّ عائلة عربي تقليدي لا يعرّف بمميزاته الخاصة بل باسم ابنه البكر.
علاقة وسوف بجمهوره مباشرة وهي كناية عن مزيج من إعلان الحبّ وتوزيع القبل والتهكم والنزق والنرفزة. تتنقّل العلاقة ما بين الرقّة والخشونة، الجدّ واللعب، القرب والبعد، ولكن دوماً بلغة مباشرة وكلمات مقتضبة. يتنقل جورج وسوف بخفّة ما بين سلطان الطرب (العلاقة الهرمية) وأبو وديع (العلاقة الأفقية) في علاقاته مع الإعلام وعناصر حماية المسرح وجمهوره. يؤنب عناصر الحماية عندما يقومون بواجبهم مانعين أحد عشاق المغني من الاقتراب منه، نافياً بذلك الحواجز بينه وبين جمهوره الذي كثيراً ما يعبّر عن حبه له من خلال توزيع القبل في الهواء. في إحدى المقابلات التلفزيونية يصدر أمراً لعناصر الحراسة بترك الشاب المندفع نحو المسرح والذي يعبّر عن رغبته بتقبيل سلطان الطرب. يسأله وسوف: “مغسّل وجهك؟” “إي” يرّد الشاب، “إيديك ورا ضهرك بس” يقول له. يعقد الشاب ذراعيه وراء ظهره ويتقدّم نحو الوسوف، يقبّله على وجنته ورقبته بشغف، “يحرق عرضك هيدي بوسة ولّا كجة!” يصرخ وسوف بعد انسحاب مريده عن المسرح. جورج وسوف “حقيقي” بنظر محبيه. لم يغيّره وصوله إلى قمّة الشهرة. فهو لم يستبدل كلامه الشعبي المباشر بلغة منمقة مبسترة تجامل الإعلام والفنانين ولا تتخذ موقفاً من أي شيء. لم يعد تدوير نجوميته في مشاريع لها سلطتها الرمزية على الصعيد العالمي كما فعل سفراء النوايا الحسنة لدى الامم المتحدة.
ليست ظاهرة جورج وسوف مبنية فقط على ركيزتي القرب والبعد الاجتماعيين: الفنان الشعبي القريب من الناس (أبو وديع) والأصلي الذي يقلَّد (سلطان الطرب). فهو أيضاً الأصيل الذي لا يخضع لشروط المجتمع ومؤسساته فيبتعد عن قيمه وأعرافه المهيمنة. “كلام النّاس لا بيقدّم ولا يأخّر… انا حاسس أنا شايف أنا فارس ومش خايف” يغني وسوف في إحدى أغنياته الأكثر إنتشاراً في تسعينات القرن الماضي. الفارس العاشق الذي يتحدى قوانين المجتمع، هو ذاته ابن الحلال في زمن العجايب الذي يغني في مطلعها: “لا بالجمال ولا كتر المال، تمسح دموع اللي انظلم، على اي حال ابن الحلال، هو اللي يصبر عالألم”. يواجه الوسف كلام الناس/المال/الجمال بالعشق/الفروسية/الصبر على الألم ويجابه “المجتمع المادي” و”السطحي” بقيم الرجولة والفروسية العربية.
لا تسكن هذه المنظومة القيمية في كلمات أغاني جورج وسوف فقط، بل تستعمل أيضاً في وصف شخصية الرجل. “اللي عندو أصل ما بيتغير” قال السيد بديع وسوف عن ابنه. أمّا أمه السيدة فرحة الصدّى فلفتت انتباه مقدمة البرنامج التلفزيوني إلى رجولة ابنها: “رجّال جورج، كان عمرو عشر سنين. رجال. رجال بكل معنى الرجولة صدقيني”. ذلك فيما يشدد جورج وسوف على أهمية الوفاء ويقول عن نفسه كلني شرف وصدق وكرم.
تلك كلها قيم سابقة وخارجة عن قوانين الإنتاج والتبادل الرأسمالية التي تحول كل ما في طريقها الى سلعة تشترى وتباع. الشرف لا يباع والصدق قد لا يكون أفضل وسيلة للربح، أما الكرم فهو عكس استراتيجيات الادخار وإعادة انتاج رأس المال من خلال استثماره. حتى الفن لا يعلو فوق تلك القيم الفروسية. تجد لوحة خشبية في بيت جورج وسوف منقوشاً عليها: “فعلت القليل من الحسنات إنها أجمل أغنياتي“ دقيقة ٨.٤٣. يرى مريدوه في جورج وسوف أيقونة تمانع قوانين البيع والشراء التي تحكم من أراد الوصول الى السلطة والتعبد للمال والرياء من أجل البقاء تحت الأضواء.
لا يمثل جورج وسوف منظومة من القيم الفروسية “الـ ما قبل-رأسمالية” تدين “زمن العجايب اللي معندوش ضمير” فقط، بل أن ما يتداوله الإعلام ومعجبوه عن نمط حياته يدل على تحدّي دائم للسعي إلى الإنتاج والادخار وإلى القيم الاجتماعية البرجوازية. بل أكثر من ذلك، هناك تحدي في تلك الروايات لكل الممارسات التي تسعى إلى المحافظة على دورة الحياة البيولوجية والاقتصادية والاجتماعية وإعادة إنتاجها.
تلتصق صورة جورج وسوف بفكرة الرقص على الهاوية والإفراط كما يبدو جلياً في مغامراته النسائية والكحول والمخدرات والميسر والدرّاجات النارية. في تلك الصورة يظهر جورج وسوف سلطاناً على العالم رافضاً أن يخضع لمنطقه الإقتصادي والاجتماعي. في ترّفع الشاب الكفروني الذي عرف الشهرة في أوّل المراهقة عن كل ما تقتضيه الحياة اليومية لتأمين استمراريتها، يشي جورج وسوف بنزعة أرستقراطية لا تخضع لضرورات تأمين مقتضيات الحياة، بل تتحداها على الدوام. المفارقة تكمن بأن تلك الممارسات المفرطة تغّذي صورة الذات الفريدة، مكرسة صورة الرجل المتمرد الخارج عن أعراف المجتمع ومعاييره، وتضعهما على حافّة التدمير الذاتي.
يتأرجح جورج وسوف بين سلطان الطرب وأبو وديع، وبين الأرستقراطي والشعبي. في كلتي الحالتين إعلان تمرّد على منطق الحياة البرجوازية الآمنة والمستقرّة التي تحسب وتقيس منسوب الصّحة والمال والمظاهر. كما يتخطى منطق المؤسسات وقوانينها – كعدم إلتزامه قرار نقابة الموسيقيين السوريين القاضي بمنعه من الغناء لأنه قاصر – ويحرق الوسائط الإجتماعية ليعلن علاقته المباشرة بالناس، “حباييبه” كما يسمي جمهوره. يستمد قوته من منظومة القيم تلك ومن الناس مباشرة فيظهر وكأنه لا يخضع لما يقتضيه المجتمع والسوق والحقول الفنية من علاقات ومصالح. هذا ما يراه جمهوره على أنه الحقيقي، أبو الفقرا المعطاء الذي لا يكترث لشهرته الواسعة وللمال الذي جناه من الغناء.
أمّا عشّاق أبوالفقرا فيحفظون الجميل للسلطان الذي أحبهم. يستعينون بكلماته للتعبيرعن شوقهم مغنيين دبنا عغيابك دبنا بعد غيابه قرابة الثلاث السنوات للعلاج من الجلطة الدماغية التي أصابته. يعاملونه أيضاً كزعيم مفدّى، فبعيد إطلاق سراح جورج وسوف من التوقيف في السويد (٢٠٠٨) على خلفية قضية مخدرات يصل المغني إلى مطار بيروت ليجد عشرات الشبّان باستقباله هاتفين “بالروح بالدم نفديك أبو وديع”. يتكرر الهتاف نفسه بعد بضعة سنوات في الظهور التلفزيوني الأوّل للوسوف بعد إصابته بالجلطة الدماغية. أضف إلى ذلك إحدى صفحات معجبيه على فايسبوك التي تأخذ عنواناً لها: حزب جورج وسوف. ذلك الخليط من القرب الشعبي من الناس والترّفع الأرستقراطي عن المصلحة الشخصية المعطوف على إعلاء قيم الفروسية يجعل من كاريزما جورج وسوف شبيهة بتلك التي تميز الزعامة السياسية العصبية. فهي تخترق المسافة الإجتماعية والحواجز المؤسساتية التي تفصل بين الزعيم ومريديه لتشبكهم ببعض دون وسائط مجتمعية.
جورج وسوف هو أبو وديع/سلطان الطرب، المسيحي/المسلم، السوري/اللبناني، الريفي/المديني، الأرستقراطي/الشعبي، الضاحك/الحزين، الرقيق/الخشن، الساخر/الجدي، الطفل المعجزة ذو الملامح الناعمة/ الرجل الذكوري الملتحي على دراجة نارية، المتمرّد/المبدئي. تقوم ظاهرة جورج وسوف وكاريزماه الذكورية بامتياز، على تلك الثنائيات والأضداد التي لا تضعف المغني بل تزيد من جاذبيته لدى مريديه الذين باستطاعتهم التماهي مع الصورة المركبة التي يرسمها كل منهم عن وسوفهم.
ليست تلك الالتباسات – هل هو مسيحي أو مسلم؟ هل هو محافظ إجتماعياً أم متمرّد على كلّ الأعراف؟ – كعب أخيل سلطان الطرب بل هو شدّة وضوحه السياسي وإلتصاقه بالسلطان الأسدي الذي أمنّ لوسوف مظلّة حماية في الداخل والخارج (تناقل الإعلام خبر وجود السفير السوري إلى جانب وسوف بعيد اعتقاله في السويد).
بعد قيام السوريين على نظامهم أعرب جورج وسوف عن دعمه الكامل لبشّار الأسد مسبغاً عليه قيم الرجولة التي يتغنّى بها – الكرامة، الكبرياء والطيبة. كما التصق بماكينة البروباغندا الأسدية من خلال نشاطاته وغنائه لبشار الأسد يا غالي يا ابن الغالي مما جعل ناشطين سوريين يضيفونه في الأشهر الأولى من الثورة إلى صفحة قائمة العار السورية على الفيسبوك.
تقف حدود تمرّد جورج وسوف الاجتماعي عند باب السلطان السياسي. بل ربما جعل الالتحاق السياسي الكامل بتشكيله الحضن الآمن التمرد الإجتماعي للمغني ممكناً. في جميع الأحوال إنشقّ بعض جمهور المغني عنه بعد الثورة وبات السوري الصغير/الطفل المعجزة/ سلطان الطرب/ أبو وديع يعرف أيضاً بالشبيح جورج وسوف. مع تحوّل جورج وسوف إلى شبيح عند مناصري الثورة السورية إنقلبت النظرة المعيارية إلى مرتكزات “هالة الوسوف المقدسة”. أمسى الشعبي والمباشر سوقياً وبذيءً. أمّا سلطان الطرب المتمرّد فأصبح الفنان الشبيح الحشاش الشمام جورج وسوف. و قد كان إميل دوركهايم من مؤسسي علم الاجتماع الحديث قد لفت النظر في “الأشكال الأوليّة للحياة الدينية” (١٩١٢) إلى الإلتباس الملازم للمقدّس sacred ما بين الخير والشرّ والطهارة والنجاسة ملاحظاً كيف يتم التحوّل من قطب إلى أخر من تلك الثنائيات من خلال الطقوس والشعائر التي قد تحوّل جثّة نجسة مقززة إلى جسم طاهر مبجّل. ذلك التحول ليس إنتقالاٍ من الدنيوي profane إلى المقدس بل انقلاباً من القطب السلبي إلى القطب الإيجابي للمقدس. حصل إنقلاب معاكس مع جورج وسوف. لم يفقد سلطان الطرب المرتكزات الذكورية والشعبية لسحره وهالته، بل انقلبت النظرة إليها من الإيجاب إلى السلب. انكفأ السحرالأبيض بعد الثورة وظهر توأمه الأسود مع سحب بعض الحبايب استثمارهم العاطفي من معبودهم فهوى السلطان وارتقى الشبيح.