.
اسألوا أي مواطن شرق أوسطي ما هو أنيك شعور بإمكان الفرد اختباره، وعلى الأغلب ستحصلون على نفس الإجابة: العجز. العجز، للأسف، شعور مألوف. تشعرون به في فروع الأمن في سوريا عندما يسألكم ضابط المخابرات عن الأجر الذي تتقاضونه عند عملكم كشرموطة، وتعرفون أنّ عليكم الإجابة أو تلقّي صفعة تكلّفكم ثلاثة ضروس ثمّ الإجابة. العجز أيضًا هو صاحبكم عند متابعة أخبار دولة عربيّة أخرى، خاصّة وليست حصريًا فلسطين.
عندما صحينا يوم الاثنين على أنباء مجزرة مرجّحة، أو على الأقل معرض من القهر والقبح ينتظر أهل حي الشيخ جرّاح ومناصريهم في القدس، كنّا على موعد مع هذا الشعور. سألنا أصحابنا في فلسطين عمّا يمكننا القيام به للمساعدة، حيلة بائسة لمراوغة العجز، وأتانا الجواب: “ضغط”. أخبرنا صحابنا: “ضغط. عنّا (في معازف) ملان فولورز أجانب. مهم نعمل المستحيل يشيرو شو منشيّر. لأنو عم بتصفي إنّا منشيّر بس بنفس الدائرة، أهم شي نخرق هاي الدائرة، واحد دي جاي من سويسرا أو بلجيكا يشيّر بوست أحسن من إنو بس أنا وصحابي نشوف نفس البوست”، فيها وجهة نظر.
صادفتني هذه المعضلة كثيرًا. عندما يقوم فيلم أو مسلسل أمريكي باقتباس الثقافة اليهوديّة أو السوداء أو المثليّة بشكلٍ غير دقيق، يضع هذا الفيلم نفسه عرضةً لقضايا وملاحقة قانونيّة قد تكلّف الاستوديو خسارات فادحة للعشر سنوات المقبلة. لكن عندما ضمّ مسلسل ضخم الميزانيّة على نحوٍ استثنائي مثل لوست (Lost) شخصيّة عراقيّة من المفترض أنّها عاشت معظم حياتها برفقة حزب البعث، لا يجد منتجوا هذا المسلسل ضرورةً في اختيار ممثل عربي، أو ممثل يعرف العربيّة، أو أي ابن حرام يجيد نطق حرف العين. لا. جابوا ممثل يقول إنّ اسمه سئيد الجراه بدلًا من سعيد الجراح، عشان إحنا العرب ولاد زنا، ولا أحد يكترث بأمرنا.
للصراحة، نتحمّل نحن جزءًا من المسؤولية. الاستوديوهات في نيويورك أو كاليفورنيا أو غرب أوروبا لا تعامل الثقافات اليهوديّة أو المثليّة أو السوداء باحترام عشان همّ محترمين وبيحبوا الإنسان. لا، هم يعاملون هذه الفئات باحترام لخوفهم من دعاوى قانونيّة وجهود إعلاميّة وسياسيّة ضاغطة تبدأ ولا تنتهي، يخافون من البهدلة، من المقاطعة، من الخسارة الماليّة. في حالتنا، لا يخافون من شيء. متّى كانت آخر مرّة سمعتهم فيها أن المشاهدين أو السميّعة أو حتى لاعبين الفيديو جايمز العرب قاموا بمقاطعة إصدارٍ ما لإنّه لم يحترم ثقافهم؟ بايزكلي لو لم ينشتم الرسول لا مشكلة لدينا. والمضحك في الموضوع أنّنا نشتم الرسول أكثر من سوانا (لنكون صريحين يعني)، ثم عندما نعصّب نقوم بمقاطعة جبنة لا فاش كيري لشهرين وننسى الموضوع.
عندما نطالب العالم باحترامنا ومعاملتنا بنديّة انطلاقًا من افتراضنا أنّ العالم (الغربي) محترم وأخلاقي، أيوا نفس العالم الغربي الذي نشتمه صباحًا مساءًا، فهذا معرض من جهتنا لسذاجة أخلاقيّة ورثناها أبًّا عن جد، لن تأخذنا خطوةً لا للأمام ولا للوراء. العالم لا يدين لنا بشيء، وللحق عندما كانت الطابة في ملعبنا كنّا أنيَك من ستين ألف أوروبا. وكنا نعرف ضمنيًا أنّ حقّك هو ما تاخذه لا ما يعطى لك.
العام الماضي قام بضعة رجال شرطة في أمريكا بقتل رجل أمريكي أسود، لا لشيء سوى لكونه أسود. اسمه جورج فلويد. فار دمّ السود، والبيض، وفار دمّنا نحن. كان الفيديو صادمًا، يهين خلايانا الأخلاقيّة حتّى النخاع. انتفضوا وانتفضنا، وأصبحت اللحظة جزءًا من الذاكرة الكونيّة للبشر. اليوم، ينسحل أبناء حي الشيخ جرّاح كما انسحل الكثير من أهلهم من قبل، سوا أنّ هذه القضيّة لا تخصّ أحدًا سوانا، وسوى بضعة ناس يتعاطفون مع الفلسطينيين ومع القرود الذين يتم اختبار مستحضرات التجميل عليهم. سوا أنّنا لسنا قرود، نحن نعرف ذلك جيدًا، وعلينا البدء بالتخلي عن الافتراضات العبيطة بخيريّة الإنسان وأخلاقيّته، وأن نذيق العالم مرارة أن يقوم أحدهم بالتساهل مع ثقافتنا، والتعامل مع قضايانا كإحدى السلع التي تجدونا عند الكاشير في السوبرماركت، سلع وقاضيا سيكسي لكن غير ضرورية، تايك إت أور ليف إت (take it or leave it). علينا أن نضغط، ألّا نستخف بجهودنا، ألّا نحاكم أنفسنا بمعايير أخلاقيّة تصلح للآلهة والملائكة. علينا أن نضغط، أن نسخط، أن نهدّد، أن نؤذي، أن نحرق. علينا أن نقول أنّ الكفّ الذي نأكله سنرده برصاصة.
ترتبط صناعة الموسيقى بقضايا سياسية وكونية ملحّة، لكن هذا الارتباط يكشف عن مدى أمان تلك القضايا وتناولها السطحي. بينما تغلي القضية الفلسطينية بالتظاهرات وعمليات إجلاء قاطني حيّ الشيخ جرّاح، ملأت السوشال ميديا ومنصات الأخبار العالمية، نجد تغافلًا صريحًا من الفنانين والمنصات الموسيقية الأوروبية والأمريكية. يكشف ذلك التغافل عن انعدام الحس التضامني، وسيطرة الأخلاق الفرديّة التي صاغتها ليبراليّة متشبعة من الحكومات والشركات الضخمة، وهيمنة القضايا الآمنة المغلّفة بطبقات من الاستعراض الإنسانوي.
حضرت ثيمات ذات توجه سياسي اجتماعي عن التعددية / التنوع والمساحات العامة والتغير المناخي، والتعامل مع التكنولوجيا بشكلٍ إيجابي، بالإضافة إلى الحديث مؤخرًا عن إنهاء الاستعمار الموسيقي (decolonizing music)، قضايا تم تناولها من الكثيرين لإرضاء الحس التطهري الفردي. وإن كانت تلك القضايا هامة بالطبع، فهي غير مرتبطة بتعقيدات سياسية كالتي نعيشها في المنطقة العربية، ما يجعلها قضايا من السهل التعاطي معها، ويبدو تناولها كثيمة ليبرالية منعزلة عن واقع غير أوروبي، معقد.
من السهل الحديث عن الرقابة الرقمية مثلًا، أو تغيير صورة البروفايل إلى الأسود عند مقتل جورج فلويد، والمزاودة عند عدم فعل ذلك. ما يؤكد أكثر على كون تلك القضايا آمنة هو تبني المنصات والشركات الكبرى لقضية بلاك لايف ماترز بأكثر صورة استعراضية، بل والتربح منها بشكلٍ غير مباشر. من السهل الثورة ضد شرطة بلد عالم أوّل تمارس قمع وعنصرية ضد سكانها، تصبح الشعارات حينها رد فعل سهل ووسيلة لإرضاء الذات بشكلٍ تطهري. لكن يبدو الواقع أكثر تعقيدًا عند الوقوف بحزم ضد سياسات بلد ما يكفل غطاءًا سياسيًا لحكومات ديكتاتورية لبلد عالم ثالث، أو يمدها بالأسلحة. جميعنا رأى الحس التضامني عن بعد لدى المعنيين بالموسيقى في أوروبا أثناء مظاهرات بلاك لايف ماتر، لكننا لم نرَ أي تحركات من نفس الفئة عندما يتعلق الأمر باللاجئين عند حدود أوروبا ومواجهة الشرطة لهم. صمت تام.
يظهر الفنانين والمنصات والصحافة الموسيقية كمرآة لسياسات حكوماتها، من حين لآخر نرى الحكومات تحتوي المحادثة عن التعددية والبيئة والرقابة والمساحات العامة وبعض الممارسات القمعية. تستخدم الحكومات هذه القضايا لتبييض وجهها، وهى نفس القضايا التي يتفاعل معها المعنيين بالموسيقى بحماس، قضايا آمنة. بالتالي اليوم، يبدو صمت المعنيين بالموسيقى عن الظلم الواقع في القدس والممارسات القمعية الإسرائيلية كانعكاس لسياسات حكوميّة توكيديّة، زرعتها على مرار سنوات في أدمغة مواطنيها حتى أصبح الحديث عن الواقع المعقّد في فلسطين على أحسن حال أقرب إلى تابو من الواجب تجنبه. أما الشائع فهو إخراس الحديث من أصله، وهو ما حدث مثلًا مع براين إينو كواحد من الفنانين المدافعين عن حقوق الفلسطينيين.
عندما قرر أعضاء المشروع التعاوني الكويري روم فور ريزستنس منذ بضعة سنوات التضامن مع مبادرة دي جايز فور فلسطين، وفتح نقاش حول القضية الفلسطينية والاعتراض على السياسات الإسرائيلية، قامت العديد من الفضاءات والأندية والمشروعات التعاونية الأخرى بمقاطعتها، الأمر الذي جعل الكثيرين يخافون الحديث الآن عن القضية، بل ويفقدون اهتمامهم بها. ما يحدث في فلسطين هو عنصرية صريحة، لا أريد التقليل من أي قضية أخرى ولا المزايدة والقول إن الفنانين عليهم المقاطعة أو التحرك الرمزي، لكن الأمر يدعو إلى الاستغراب من الصمت التام، وكأن شيئًا لا يجري، في حين أنّ حريقًا في إحدى الغابات أو الاحتباس الحراري أو ممارسات الشرطة القمعية في أمريكا يعد محرّكًا قويًا للانتفاض لدى العديد من المشاهد الموسيقية. طالما قرر المعنيين بالموسيقى تسييس نشاطهم، فلماذا لا يمضون في هذا الدرب حتى آخره؟ ولماذا يتجنبوا قضايا بعينها، إلا إذا كانوا بالفعل يفضّلون القضايا الآمنة وغير مستعدين لمواجهة أنظمتهم؟ العنصرية غير قابلة للتجزئة، والتحرك مطلوب ضد العنصرية التي طالما ادّعى الكثير من الفنانين إنهم ضدها، فلا يوجد أى دافع للتغافل عن عنصرية موجهة ضد شعب ما، وكل خطابات السياسة التعددية والتضامنية تصبح مفرغةً من المعنى في هذا السياق.