.
س: لماذا كان اسم كباريه والدك “طم طم”؟
ج: لأنه يجمع الحروف الأولى لأسماء بلدان المغربTunisie, Algérie, Maroc… tam tam.
س: لماذا تحبين باريس وليس فرنسا؟
ج: لأن باريس مدينتي، تربيت في الحي اللاتيني حيث كان الكباريه، لكن فرنسا عذّبت والدي واحتلت بلدي قبل هذا.
س: هل حكمت عليك فرنسا بالإعدام؟
ج: نعم، سنة ١٩٥٨، كان عندي ١٨ سنة وكنت قد غنيت كلنا جميلة لجميلة بوحيرد.
هكذا أجابت وردة على أسئلة صحفية جريدة الوطن الجزائرية سنة ٢٠٠٦. انتقلت من ذكريات الحرب إلى التسميات الغريبة لكباريهات الأربعينات في باريس بسلاسة وخفة، كما كانت دائماً، فضولية ومرحة. لكن السؤال الذي طالما دار في رأسي هو ماذا لو لم تذهب وردة إلى بيروت والقاهرة، ماذا لو لم تذهب شرقاً، ماذا لو لم يكن هناك بليغ؟
تربّت وردة وسط بيئات موسيقية عديدة، فهنالك المصريون الذين كانوا يغنون جنباً إلى جنب مع الجزائريين والتوانسة في كباريهات فرنسا، عرباً ويهوداً، ثم هناك الشونسونيت الفرنسية، أو كما يسمّيها أهلها المنوعات الفرنسية، قدمٌ رابعة ترقص عليها فرنسا إلى جانب الكنيسة والماخور والبار، وفي نفس الوقت الذي كان دحمان الحراشي يبدأ خطواته الأولى وفريد الأطرش يغني حتى الصباح، كانت هي وسط كل هذا تتعلّم جُملها الأولى، طفلة لا تزال.
سافرت وردة إلى القاهرة، نهاية الخمسينات في نفس السياق الذي أغلق كباريه والدها، وأخرجها وعائلتها من باريس: الثورة الجزائرية. بقيت بضعة سنوات، عملت فيها قليلاً وعرفت بليغ وجرّبت أشياء ثم عادت إلى الجزائر وحصلت فترة الغياب، عشر سنوات كاملة لا يدري أحد عنها شيئاً، ثم عادت عبر الغناء في عيد الاستقلال العاشر، تطلّقت ورجعت إلى القاهرة وتزوجت بليغ وبدأت أهم مرحلة في مشوارها الفني.
والدي سمّيعٌ كبير لوردة، وإن كان قد ترك عادة سماعها أينما حلّ منذ اندثار الكاسيتات، لكنّه يحتفظ بتاريخ سماعي كبير معها. الناس هنا يقولون وردة من دون اللقب الثاني: الجزائرية، رغم أن الإحساس العام نحوها دائماً ما كان في اتجاه: الأخت الكبرى التي غادرت البيت منذ زمن بعيد، تزورنا مرة على مرة، لكنها في حُكم الضيوف. والدي كان يحب وردة، وفي كل السيارات التي امتلكَها لم تخلُ فتحة المسجل أبداً من كاسيت لوردة. طيلة السبعينات والثمانينات كان يقطع مئات الكيلومترات بين الجزائر وتونس في العُطل وهو يسمع وردة، ذهاباً وإياباً، والكاسيت الذي لا يجده هنا يشتريه عندما يصل إلى تونس. لم أشهد كل هذه الفترة، أتيت لاحقاً، لكني رأيت في بداية الألفينات صندوق الأحذية الذي رُتّبتْ فيه كاسيتات وردة، بيضاء والكتابة عليها (بالأسود أو الأزرق) مائلة قليلاً. ما يقارب عشرين شريطاً.
بعد سنوات من اكتشافي لأشرطة وردة داخل علبة أحذية قديمة، وبعد أن حصّلتُ رخصة قيادة، سافرت مع والدي إلى تونس، وكانت تلك أول مرّة أقود فيها ما يقارب الألف كيلومتر دفعة واحدة، وأول مرة أيضاً أتشاجر مع الراكب أمامي على من يضع موسيقاه. كنت قد حضّرتُ سيديهات حفلات مسجلة لفرقتي قناوة ديفيزيون وراينا راي وكان هو قد حضّر مختارات من أغاني وردة. كلها كانت لبليغ كما اكتشفت لاحقاً. سمعت وردة طيلة الطريق بين البلدين، مُجبراً في الذهاب ومستمتعاً في الإياب.
خلال الحوار الذي ملأ فترات الصمت، حكى والدي عن رأيه في طلاق الزوجين. لم يكن أمرًا كبيرًا، أشياء كهذه تحدث، لكنهما ماتا، ظل يقول، هو راح مش عارف وين ومات، وهي لم تغنِ شيئاً يُذكر. شفت الغُنا اللي كانت تغنيه لما تجي عندنا؟
كان يقصد بكلامه الجزء الجزائري من فن وردة، والذي يجهله أغلب جمهورها خارج البلد. عملت وردة أكثر من مرة مع ملحنين ومنتجين جزائريين، غالبًا طلبات للتلفزيون الوطني، وكانت هذه الأعمال – غريبة عن صورة وردة، بل ورديئة، كما سأقول لنفسي لاحقاً – هي التي عرف بها جيلي وردة، نهاية التسعينات وبداية الألفينات. لم نرَ مجداً ولا وصلنا بها وهي تجلس قُرب بليغ المتكئ على عوده يغنيان العيون السود. لا، وصلنا بـ طاطا في عقدها السادس، بجمال مُعتّق وباقٍ لا تخطئه عين، تُحاول قول كلمتين على لحنٍ عاصمي رديء يعزفونه في زفّة الأعراس الشعبية.
في هذه الفترة، أي منذ بداية التسعينات وحتى موتها، كانت وردة تأتي إلى الجزائر لتحيي حفلات وتصوّر كليبات. عندما أفكر فيها الآن، تظهر كمن يؤدي واجبًا مع أهله، لكن الظروف لا تسمح أن يكون على أكمل وجه، طبعاً يجب أن نستثني تلك الحفلات التي أحيتها خلال فترة الحرب الأهلية في التسعينات، حين كانت ضمن عدد قليل من الفنانين الذين يقبلون الغناء وحظر التجوال والخطر قائم، لكنها كانت هنا بصوتها وبأغانيها، وكان ذلك في حد ذاته شيئاً مهمًا بالنسبة للناس هنا. خاصة لما كانت تقف في منتصف الحفلة وتطلب من العدّاءة حسيبة بولمرقة التي كانت نجمة الأولمبياد سنة ١٩٩٢، تلك السنة التي شعرت فيها البلاد بأنها ركضت مع هذه الفتاة النحيلة طيلة الألف متر هاربة من شيء تحتّم وقوعه، أن تصعد لتكرّمها وهي تقول بلهجتها الجميلة: هذي غزالتنا.
لكن الأغاني التي اقترفَتها لاحقاً، والتي كانت في مجملها أغانيَ وطنية تُهادي بها جمهورها هنا، لم تكُن تُشبه في شيء جُمل “لولا الملامة” مثلاً، وانكسار الخاطر لما تقول “وكفاية عمري اللي انقضى” أو ترديدها لـ “خليك هنا خليك”؛ باختصار كانت أغانيها في الجزائر لا تشبه شيئاً معيناً، خاصة بعد أن ضيّعت فرصة غناء لله يا جزاير، التي كتبها لها شاعر تونسي ولحنها لطفي بوشناق سنة ١٩٩٦، بعد أن قطع الشاب خالد عليها الطريق، نصف ضاحك نصف مصمّم، على أن تكون هذه الأغنية له، ليأخذها فيما بعد ويُنتج تلك الصورة التي علقت في أذهان كل جيلي: الولد الصغير الذي يجري خائفاً في الشوارع والخبز في يده، بينما صوت الساكسوفون ينهمر خلف جُملة “من غير ما نخاف منك ولا نخاف عليك.”
يرى البعض أن تلك الفترة “المهمة” كانت تعبيراً عن تمصيرِ وردة من قِبل بليغ، لكن بطريقة شعبية، بلدي، لم تلتزم فيها وردة ولم تنضبط في أدائها وفي استعمالها لصوتها، وأن عملها مع بليغ جعلها تأخذ التأثيرات الشعبية في عمله وتبقى في تلك المنطقة طيلة سنوات، الأكيد أنّها تمصّرت في تلك الفترة، كانت قد عادت إلى مصر لتُغني، وتجد جمهورها.
يرى آخرون، قلّة ربما، بأنّ وردة نجحت في تحقيق معادلة صعبة مع بليغ، وهي أن تستمر في أداء أغانٍ تُشبهها داخل سياق مصري كان يُمكنه أن يسحقها، فنرى مثلًا المرّات التي غنّت فيها وردة بالفرنسية أغانيَ من “الزمن الجميل الفرنسي”، سواء في الفيديو الشهير مع موستاكي حيث غنّت الأوراق الميتة أو في أدائها لـ chante la vie chante، أغنية ميشال فيغان، في فيلم آه يا ليل يا زمن، كانت وردة تشبه معاصراتها، مثل كاترين سوفاج، ويبدو ميشال فيغان مرّة أخرى، لكن في فترة ما بعد بليغ. حفلة باريس سنة ١٩٩٥ وأغنية fais comme l’oiseau أعمل مثل العصفور. في نصف الحفل قالت إنها ستُغني بالفرنسية من أجل الباريسيين الحاضرين، وبدأت الغناء وهي تقرأ من الورقة ووجهها يضحك، لكن عندما نستمع جيداً لكلمات هذه الأغنية لا يُمكننا أن نجد طريقة أجمل من أداء وردة المُرتجَل وهي تقول: لكنني وحيد في الكون / أخاف من السماء والشتاء / أخاف من المجانين ومن الحرب / كيف يمكننا العيش اليوم / في هذا الصخب والعنف / أنا ضائع؛ ليأتي صوت الكورال مُطَمئناً ومرحاً: أعمل مثل عصفور / يعيش من الهواء النقي والماء / من صيد قليل / لكن لا شيء يمنعه / من الذهاب لأعلى.
تجربة وردة مع بليغ كانت مهمة لتستمر هي نفسها في الغناء، بعد تجربتها القصيرة الأولى في مصر كان من الواضح أنها لا تستطيع الانصهار وسط فناني المنوعات الجزائريين الذين التفوا حول الإذاعة الناشئة في جزائر الاستقلال، وطبعاً لم يمكنها العودة إلى باريس، الذين ذهبوا إلى باريس في ذلك الوقت كانوا يهود الجزائر، لين مونتي وموريس المديوني وروني بيريز، يغنون بنفس طريقة وردة، لكنهم يقولون أغاني فرانكو آراب حزينة وراقصة.
كانت تجربة بليغ في المنتصف، دخلات موسيقية راقصة وحزينة، ومساحة تكفي لتُسقِط وردة الميزان، بحسب تعبير موسيقيي الشعبي في الجزائر، وترتجل، وتخرج وتعود، أن تكون هي وليس أحد آخر. أن تقول حُزن الأوراق الميتة في العيون السود، دون أن تضطر لأداء أغانٍ سخيفة تُجسد الحزن والفرح في آن واحد، كما ستفعل لاحقاً في الجزائر (آش اللي جرا يا لحباب، مثالاً) مجاملة ربما لملحنين وكتاب كلمات دون المستوى. بالعكس، مُنِحت جمهوراً وأعواماً من الأغاني الناجحة، ولم تمُت بعدها مثلما كان يقول والدي. بالعكس، ظلّت على حالها، قبل ومع وبعد بليغ، السيدة التي ترتجل الغناء في وسط السهرة، وتقول بالعربية أو بالفرنسية، وبكلمات عادية، المسرّات والأوجاع.