ناران بدون حطب | يحيى خليل ومحمد منير

كتابةمهدي مبارك - January 17, 2020

لا يعرف يحيى خليل سببًا محددًا لانفصاله عن محمد منير. يقول في حوار مع صحيفة الجمهورية المصرية عام ١٩٩٠ إن “النجاح الذي حققه منير معي كان أكبر من حجمه، فاختلّ توازنه وجعله يتصوّر أنه كل شيء في هذا النجاح.”

يحبّ منير – بنفسيّة نوبي أصيل يعاني من تعالي الأصدقاء والأعداء – أن يظهر وحده في الصورة، ينجح وحده، ولا يقال إن أحدَهم يشاركُه نجاحَه. حتى أنه انقلب على أستاذه أحمد منيب وتجاهل مجدي نجيب صاحب لو كان لزامًا علينا الرحيل. لسنوات، حتى لا يقال أنهما أصحاب فضل في نجوميته. لكن عمله مع يحيى خليل – الذي عاد من الولايات المتحدة بموسيقى غريبة وأسلوب جديد في التلحين والتوزيع، فيما كان منير يبدأ مشواره – يدفع الجميع إلى التأكيد على أنّ يحيى خليل هو من صنع منير.

عاد يحيى عام ١٩٧٩ من أمريكا مشبعًا بموسيقى الجاز، بعد ١٥ عامًا قضاها هناك يعزف مع فرق الأندرجراوند وأنصاف المطربين في شوارع نيويورك، التي احتضنته في شبابه وعلمته أصنافًا من الموسيقى لا يعرفها. حين بدأ بنقل تجربته الأمريكية إلى مصر اعتبروه نبيًا للجاز، يبشّر بهذا النوع الغريب من الموسيقى المتمردة التي تناسب أجيال ما بعد الحروب والهزائم والثورات، فينسى الشباب همومهم ويندمجون معه. جيل الشباب الذي أصبح يحب الأصوات المعذبة، التي شكلها يحيى خليل بين يديه من مطربين يملؤون ألحانه بكلمات تشبههم، وتتحدث عن مآسيهم وفراغهم الإنساني وعمق اكتئابهم. بدا نبيًا بالفعل، أتى بحميد الشاعري ونفخ فيه من روحه فأصبح نجمًا، وقدم عمر فتحي فتفوّق، واستبدله بفرقة كاملة بطلها العازف وليس المطرب، فنجحت أيضًا.

تضخّم يحيى خليل وأصبح مكتشفًا لجيل كامل من الفرق الموسيقية: الفور إم (عزت أبو عوف وأخواته) والمصريين، وفرقته التي تكوّنت من فتحي سلامة ومايكل كوكيز وعزيز الناصر. انتقل يحيى من ثورة الباندات إلى ثورة الكاسيت. تغيرت الأغنية بظهوره، تمرّد على الطرب الكلاسيكي الذي يعتمد مضمونه الرومانسي على الهجر والبُعد والفراق والخصام واللوعة، لحساب مضمون يلمس أرواح الشباب لا قلوبهم المعذبة. كان صوت الفتى الذي قطع المسافات من النوبة يليق بهذه الثورة.

عام ١٩٧٧، سافر فاروق إلى القاهرة، وفي يده شقيقه الأصغر محمد منير، تنفيذًا لوعده له بـ “فُسْحة حلوة”، لكن كان شيءٌ أكبر في انتظار منير. طلب فاروق من أحد زملائه أن يقدمه إلى بليغ حمدي. تحقق له ما أراد، وكان محمد يؤدي مع الكورال وراء فاروق وهو يغني لبليغ. فجأةً طلب منه بليغ أن يتوقف: “اسكت.” ثم نظر إلى محمد: “غنّي انت.” غنَّى منير، سمع بليغ وقال مندهشًا: “خد التاني ده يا يحيى. ساعده يغني.”

في عام ١٩٨٢، سافر عمرو دياب من بورسعيد إلى القاهرة وعاد عشرات المرات، ودق باب يحيى خليل وطلب منه أن يسمعَ صوته ويكتشفه، فردّ يحيى خليل: “بص، احنا في سنة ٨٢ تعالى لي سنة ٨٦ ونشوف الموضوع ده. معاك ٤ سنين.” حين انسدّت الأبواب في وجهه، ذهب عمرو إلى نصيف قزمان، صاحب شركة دلتا وقتها ورئيس مجلس إدارة صحيفة الفجر الآن، وحكى له ما جرى. يروي يحيى خليل لـ راديو أنز، أن نصيف اتصل به وسأله: “هل عندك موقف شخصي من الولد ده؟”، فقال له: “أبدًا، لكنه مش مناسب.” كان يحيى خليل قد عثر بالفعل على الشاب الذي كان يبحث عنه لـ “يخدم أحلامه الفنية” من مقابلة يحيى خليل مع نجوى إبراهيم في حلقة من برنامج استوديو ٨٤. وتكتمل أسطورة الجاز المصري.

استغرق يحيى في العمل مع منير إلى حد أنه كان لا يرى أحدًا. يمكن القول إنه رآه نوبيًا طيبًا، فاعتقد أنه سيخلقه خلقًا آخر ويصنعه على عينه، ويسرق منه النور مدى الحياة ويصبح سيده وملحنه الأوحد. خاصة أن منير وقتها كان متكِّلًا على يحيى تمامًا، حتى أنه لم يحرج من قول إن “جزء كبير من حقيقة نجاحي هو يحيى خليل، لأني كنت بحلم برؤية مشفتهاش قبل كده، ويحيى يملك وجدانًا مصريًا إلى جانب تجربته في أمريكا لمدة ١٥ سنة، وهي تجربة فنية ناضجة وأنا شايف إنه ممكن يكمل لي كل أحلامي” في حوار تليفزيوني مع نجوى إبراهيم عام ١٩٨٤. 

أعمى النجاح المفاجئ عيني الاثنين – مؤقتًا – عن أشياء لا يمكن أن تسمح باكتمال التجربة، مثل النفسيّة والغيرة والفلوس والسيادة التي سيبحث عنها كل منهما قريبًا، كما يجري في أي تجربة مشتركة حين تتبلور مكاسبها، ويبدأ السؤال: من النجم ومن السَّنيد؟

ليس يحيى مجرد ملحن أو موزع موسيقي، بل مدير فني يملك كل التفاصيل، ويتدخل في كل الأدوار، يوجّه المؤلف ويغير في الكلمات ويتلاعب باللحن من باب التوزيع، ويأمر المطرب بالظهور في برنامج وعدم التسجيل مع آخر، وهو صاحب القرار الأول والأخير في مشاركته في أي مهرجان أو حفل. منع منير من الغناء في الأفراح، رغم ما تجلبه من ثروة ضخمة مقابل ليلة واحدة، واختصّه بأماكن مرموقة ربما لا تدفع باستمرار. اتفق مع مهرجان قرطاج على أن يحيي منير حفلًا ضمن برامجه إلى جانب الكبار. هناك تعرف منير على فرق فنية مستقلة وكبيرة تقدّم ألوانًا لم يسمع بها أبدًا، وقابل فناني جاز من أمريكا، وعرف أن العالم أوسع مما تخيّل. من هنا كبرت أحلام منير، وبدأ التفكير في الهجرة والسفر والبحث عن موسيقى جديدة وكلمات مختلفة، وجمهور آخر، وفكر – لأول مرة – في العالمية. 

كان لمنير حينها أقارب في واشنطن، طلب منهم دعوته لتقديم حفلات هناك عام ١٩٨٧. فشلت الحفلات، ولم يشم أحد خبرًا بما جرى؛ حلّ يحيى خليل المشكلة بتنظيم ندوات مجانية حضّرها منير حتى “لمَّا نرجع، نقول إنه قدم حاجة في واشنطن.”

تعامل يحيى خليل مع منير باستهانة، اعتبره أداة من أدواته التي لا تقدر على مخالفة أوامره. رفض منير أغنية الليلة يا سمرا لعدم إحساسه بكلماتها، لكن يحيى أصر، فغنَّاها ونجحت، ودخلت ضمن استفتاء بي بي سي ضمن قائمة أفضل ٥٠ أغنية إفريقية في القرن العشرين. كانت أشكي لمين من نصيب محمد الحلو، وغنَّاها فعلًا دون أن تحظى بتقدير، حتى طلب يحيى خليل من منير أن يعيد غناءها، فاستأذن بليغ وغناها، ولا تزال – في رأي جمهوره – من أجمل أغنياته. أيضًا، طبقًا لنميمة تسري بين دراويش يحيى خليل، رفض منير غناء في كل حي ولد عترة، التي كانت أغنية كورال، ثم قام بنتيجة إصرار يحيى بإعادة غنائها بلحن وتوزيع جديدين، ونجحت. 

كذلك رشّح عبد الرحيم منصور أغنيتي الليلة يا سمرا وتعالى نلضم أسامينا لمنير، الذي رفض غناءهما بحجة أنهما “حاجة غريبة شوية عن العالم اللي عايز أغنيه ويناسبوا أحمد عدوية”، ثم أوحى له يحيى خليل بغنائهما في ألبوم شبابيك، فاقتنع.

على الجانب الآخر، فشلت كل محاولات يحيى خليل لصنع منافسٍ لمنير يُثبت به أن السر يكمن فيه وحده. أشهر تلك المحاولات تجربته مع مصطفى قمر، الذي وعى مبكرًا أن جعله مسخًا من منير سيكون كارثيًا على مسيرته، فانتقل سريعًا من مظلة يحيى خليل إلى مظلة حميد الشاعري وصاغ طريقه الخاص.

بعد انفصالهما، تبادل منير ويحيى صواريخ كلامية في كل المناسبات. كان يحيى حريصًا على تصوير منير كمطرب جاهل لا يفهم كلمات أغنياته، التي تناقش قضايا وجودية ودينية وسياسية عميقة: “في إحدى رحلاتنا إلى المملكة الأردنية لإحياء حفل، عرضت عليه كلمات أغنية شجر اللمون من كلمات عبد الرحيم منصور، ففشل في فهم كلمات ومعاني الأغنية، ووقتها عرف سيد الخميسي، وكان في الأردن، وجاء إلينا وظلّ يشرح كلماتها لمنير لمدة ٤ أيام حتى أقنعه بها. بعدها دخل منير علينا، وقال لنا بعدم اقتناع: “خلاص، هاغنيها وأمري لله.” 

كانت المعركة ساخنة بين غرور خليل الذي يحمل مشروعًا يسبق الزمن في مصر، وأنانية منير، القادم من النوبة بحلم كبير. في تصوير نادر لأغنية قد وقد، يتقاسم منير ويحيى الشاشة في مباراة على النجومية تشير إلى أن أحدهما سيغدر بالآخر قريبًا حتى ينفرد بالأضواء، وبدت خسائر استمرار الفرقة أكبر من “الخير اللي ما بيننا سوا.”

تردد أصداء جملة “يحيى خليل هو من صنع منير” دفع منير ليثبت بأنه نجم لأنه أراد أن يكون نجمًا، لا دخل لشاعر ولا فضل لملحن عليه. بدأ يتشاجر مع الملحنين والشعراء ويقاطعهم، ويحرمهم – أحيانًا – من العمل معه إذا صنع أحدهم أغنية جميلة حتى لا يقال أنه “صنيعة” هذا الملحن أو الشاعر. لم يعد مسموحًا لأحد أن ينتقده أو يقول إنه مخطئ، فهو الباقي والناجح منذ ما يزيد على ربع قرن – من وجهة نظره، لكن منير حين غادر شبابيك يحيى خليل، فقد كثيرًا من البهجة التي كانت سر التفاف جيلَي الثمانينات والتسعينات حوله.

اندفع إلى بكائيات عبد الرحيم منصور ومجدي نجيب من ألحان أحمد منيب، بات متاحًا في جلسات الصحفيين والكتاب ونشطاء وسط البلد، وابتعد عن المساحات التي حجزتها له أغنيات يحيى خليل. بعدما فارق موسيقاه التي كانت جديدة وجذابة ومبهجة، تفرّغ منير للحزن في ألبومات بريء ووسط الدايرة وشيكولاتة ومن أول لمسة، ففقد جمهوره الصغير الذي منحه توقيعًا على بياض مقابل أن يحضر حفلاته، فيفرح ويبتهج ويرقص مع مطرب بعيد عن الرسميات، يرتدي بنطلون جينز وفانلة متمردًا على جيل البذلات الرسميّة الذي غزا المسارح. ثم إن حفلات منير كانت مجانية، جولات في الجامعات والمسارح الرخيصة لكنها – مع الوقت – أصبحت تذكرتها تساوي راتب شهر من الذي يقبضه مريدوه.

عاد منير إلى أحضان أخيه الذي كان مطربًا صعيديًا فشل في إقناع بليغ حمدي ويحيى خليل بموهبته، وبعد أن كان يقدم موسيقى جديدة من اختراعات يحيى خليل، باتت موسيقاه – كلها – مستوحاة من ألحان تراثية وأغنيات سودانية ونغمات من شمال إفريقيا. انتهت علاقة منير بالتجديد. انفضّ مريدوه من دائرته، وبقي بعض المعارضين السياسيين الذين اعتبروه “ريّس” مركبهم الذي تبعده الدولة لأنها تعتبره معارضًا لها بأغنياته.

منذ اللحظة التي اكتشف فيها منير أنه سينجح بدون أحد، وتحديدًا رجل الجاز، توقف عن مهاجمة يحيى خليل، وكان – طوال السنوات التي مرَّت سريعًا – يتعالى على إجابة السؤال عن سر “رحيل أحد أفراد فرقته”، ولدى الإصرار يردّ: “ماذا قدم يحيى بعد أن تركته؟ لا شيء.” يتفق يحيى مع ما يقوله منير، ويؤكد إنه بالفعل قدَّم – بعد ذلك – “لا شيء” في الغناء، وتفرّغ لـ الدرامز، حلمه الكبير.