.
“غيث قلب وروح أمك أنت.
أنا بدي منك تدعيلي ما تبكي علي عشان أظل مبسوطة. بدي ترفع راسك وتصير شاطر ومتفوق وتكون قد حالك، وتصير رجل أعمال قد حالك يا حبيبي. بدي يا ماما ما تنساني، أنا كنت أعمل كل شي لتنبسط وتظل مبسوط ومرتاح، وأعملك كل شي ولما تكبر وتتزوج وتجيب بنت سميها مريم على اسمي. إنت حبيبي وقلبي وسندي وروحي وابني اللي برفع راسي فيه وبنبسط دايمًا في سمعته. أمانة يا غيث، صلاتك ثم صلاتك ثم صلاتك يا ماما.”
أمك مريم – من وصية الصحفية الشهيدة مريم أبو دقة إلى ابنها غيث.
في بحثنا عن معنى الأمومة لا ندرك كيف تُصهر أنبل وأسمى المشاعر في الحروب المتلاحقة، كيف تتخطى الأمومة الحالة الذهنية والعاطفية لدى النساء، وتصير حالة وجودية. تركت الصحفية الشهيدة مريم أبو دقة وصيتها لابنها غيث، الذي لم تمهله الحرب أن يمسح على خدها للمرة الأخيرة، مودعًا إياها بجملة واحدة “كسرتي ظهري يا ماما”، بعد أن اغتالها جيش الاحتلال مع مجموعة من زملائها الصحفيين وطاقم الدفاع المدني، في مجزرة مجمع ناصر الطبي في مدينة خان يونس يوم ٢٥ / ٨ / ٢٠٢٥.
نستعيد مع غيث مشهدًا لفتاة أخرى تحاول دخول المشرحة وتصرخ “أنا بعرفها من شعرها هي، ليش يا ربي أخذتها مني، والله ما بقدر أعيش بدونك يما، يما يما ليش يما.” تتراكم كلمة يما في عيشنا الفلسطيني، تتجذر وتتوارى في كلامنا وحكاياتنا، حتى صارت أغنية نعرف أنها تلوح خلف كل لحظات موتنا.
عرف العالم إبان عام ١٩٨٠ أغنية يما مويل الهوا، ومع اختلاف الحكايات المنسوجة حولها وضياعها خرجت الأغنية من حيز النص إلى الرمز. تاريخيًا تعود الأغنية إلى بدايات القرن الماضي وتحديدًا قبل الانتداب البريطاني، وكانت تقول:
“يما مويل الهوا / يما مويليا
ضرب الخناجر ولا / ظلم الولف ليّا”
جاء التحول الأول للأغنية مع بداية الثورة العربية الفلسطينية بين ١٩٣٦ – ١٩٣٩ ضد الانتداب البريطاني، وكانت المطالب التي قامت عليها الانتفاضة هي المطالبة بالاستقلال وإنهاء سياسة الهجرة اليهودية المفتوحة، لذا نلاحظ تغيرًا في السطر الأخير من الأغنية، وانتقال النص من عاطفي واجتماعي يحمل مآثر الحب والخوف، إلى نص سياسي يصف الانتداب البريطاني “النذل / الخسيس” ويفضل الموت على البقاء تحت حكمه:
“ضرب الخناجر ولا / حكم النذل (الخسيس في نسخ أخرى) فيا”
الأم هي بطلة الأغنية ومحركها الأساسي؛ إذ تشير الأغنية دائمًا إلى بوح أمومي على اختلاف نسخها. أما المويل فهو تصغير لكلمة موال، لذلك نقول “مويليا” لتخصيص الموال لمن يغني، أي أن الحب هو موّالي وهو قضيتي ودافعي، والموت (ضرب الخناجر) هو الاحتمال الوحيد الممكن أمام تحكّم هذا الخسيس والنذل بي. تتداخل في هذه الأغنية ثلاثة عناصر أساسية، الأم والحب والمقاومة، والتي تكاد تشكل معًا واقع الفلسطينيين ووعيهم السياسي وضلوعهم في الثورة والنكبة والانتفاضة.
أُدخلت الأغنية إلى الشعر لأول مرة عام ١٩٦٧ ضمن قصيدة لمحمود درويش بعنوان موال في ديوان آخر الليل، رغم رفض درويش سابقًا كتابة الشعر العامي، أو إدخاله في الشعر.
“لقد تعود كفي / على جراح الأماني
هزي يدي بعنف / ينساب نهر الأغاني
يا أم مهري وسيفي
يما مويل الهوا / يما مويليا
ضرب الخناجر ولا / حكم النذل فيا”
عام ١٩٧٧ ظهرت الأغنية في واحدة من أنجح نسخها حتى اليوم خلال مقطع من مسلسل يحمل عنوان بأم عيني من إخراج سليم موسى وإعداد سيناريو وحوار فيصل الياسري وممدوح عدوان، بالتعاون بين دائرة الإعلام والثقافة في منظمة التحرير وتلفزيون الإمارات العربية.
يتحدث المسلسل المأخوذ من كتاب عن قصص المعتقلين الفلسطينيين في السبعينات للمحامية فيليتسيا لانجر، المدافعة الشرسة عن حقوق الإنسان التي كرست حياتها للدفاع عن الأسرى في الضفة وغزة وفضح الاحتلال. طُلب حينها من محمود درويش وسميح القاسم وأحمد دحبور وغيرهم كتابة أشعار لتلحينها، فكتب دحبور أغنية يما مويل الهوا بنسختها الباقية لليوم وغنتها فرقة العاشقين ولحنها حسين نازك، وما لبثت أن انتشرت في المخيمات والمدن الفلسطينية والبلاد العربية:
“يما مويل الهوا / يما مويليا
ضرب الخناجر ولا / حكم النذل فيا
ومشيت تحت الشتا / والشتا رواني
والصيف لما أتى / ولع من نيراني
بيضل عمري انفدى / ندر للحرية”
ترسم النسخة الجديدة من الأغنية صورة ملحمية عن المشهد الفلسطيني حينها، الذي تحول مع النكسة العربية عام ١٩٦٧ من هم فلسطيني خاص مرتبط بشواغله اليومية وقضية التحرير والعودة، إلى هم عام لشعوب كاملة، تستدرك المأساة بشكل يومي وتعيشها مع الفلسطينيين عبر الشاشات حينًا والمظاهرات والمواجهات مع الجيش الإسرائيلي (مثل سوريا ولبنان ومصر) حينًا آخر.
تمددت المأساة الفلسطينية للمحيط كله، وصارت همًا جماعيًا شكّل جزءًا من الحيز العام في الذاكرة والفن والسرديات الشعبية. جعل هذا كله، إلى جانب تشكل وظهور فرقة العاشقين عام ١٩٧٧، من الأغاني الفلسطينية محط انتباه للعالم.
تعتبر فرقة العاشقين التي تشكّلت في مخيم اليرموك في سوريا، أول من غنى يما مويل الهوا في قالب كورالي، ثم قاموا بتسجيلها رسميًا كأغنية وطنية، تبدأ بصوت محمد الهباش وهو يتوسط المجموعة ويلقي خطابًا قصيرًا قبل البدء بالغناء. في نسخ أخرى، كان محمد يلقي الشعر الذي كتبه محمود درويش في المقدمة، وترافقه مجموعة من النساء اللواتي يرتدين الثوب الفلسطيني ويغنين مع حركات أدائية بسيطة. لاحقًا، وحتى عندما توقفت فرقة العاشقين عن الغناء، بقيت الأغنية واحدة من أكثر الأغاني طلبًا من الجمهور.
عام ١٩٨٤ كتب أحمد فؤاد نجم النسخة الجديدة من الأغنية، وغناها ولحنها الشيخ إمام. يظهر الشيخ إمام وهو منحنٍ على العود، يستغرق في الغناء ويتمهل كأنما يلفه حزنٌ، يعلو ويخبو بنبرته، ويستثير من بجانبه فيرددون معه، إلى حين انتهائها ووقوفهم لدقائق طويلة لتحية الجمهور الذي لم يخمد حتى بعد توقف الغناء.
“الصبر حلم العواجز / يطرح زهور الأماني
والقهر عدى الحواجز / وانا اللي واقف مكاني
شايف غيطان البشاير / خايف و كانن إيديا
عدا الحمام اللي طاير / ما رضيش يرفرف عليا
سألت شيخ الطريقة / ما رضيش يجاوب سؤالي
ودارى عني الحقيقة / وفاتني حاير في حالي
سألت شيخ الأطبا / دوا الجراح اللي بيا
نظر لي نظرة محبة / وقال دواي في إيديا
يما مويل الهوا / يما مويليا”
لا تُعنى هنا الأغنية بالقضية الفلسطينية بصفتها حرب ضد الاحتلال والاستعمار فقط، بل تحمل شأن الإنسان نفسه وقضية وجوده. وسط محاولاتنا للصبر ومحاولاته للنيل منا ومعرفتنا أن الصبر هو قسمة “العواجز”، وفي محاولاتنا للمرور منه لندرك الأمل والخشية معًا وحتمية حدوث الأشياء، لا ننسى أننا في عيشنا هذا نحب البلد وأن هذا الحب يحتم علينا أن نحتمل البقاء ونقول بجسارة: “طعن الخناجر ولا حكم الخسيس فيا.”
غنّى محمد منير نسخته عام ١٩٨٨ في مسرحية الملك هو الملك، التي كتبها سعد الله ونوس وأخرجها مراد منير، بأدائها بنفس كلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم، وتلحين حمدي رؤوف؛ وقد أصدرها مع مجموعة أغان أخرى تحت عنوان الملك. تبدأ الأغنية مع عزف موسيقي حزين يتوقف في كل مرة يغني بها منير، قبل أن يتصاعد معه تدريجيًا خلال الأغنية. على عكس الشيخ إمام يبدو منير منفعلًا في الأغنية، في حركات جسده وملامح وجهه، يغنيها بأسلوبه النوبي والطربي الشعبي، متخطيًا بعض الأجزاء التي غناها الشيخ إمام، ومكررًا بعضها.
مع كل نسخة نرى ولادة جديدة للأغنية. في أغنية انهض يا ثائر يفتتح مارسيل خليفة الأغنية بالمقطع الأول منها:
“يما مويل الهوا / يما مويليا
ضرب الخناجر ولا / حكم النذل فيا
انهض يا ثائر يا عاصف زندك
فالأعالي تشتهي تعشق بندك
ما هو العالم بعدك؟”
في ٢٠٠٨، في اختتام مهرجان دمشق عاصمة للثقافة العربية، غنى مارسيل المقطع الأول من الأغنية منفردًا وطلب من الجمهور الغناء معه مخاطبًا إياهم: “سنكسر تقاليد دار الأوبرا اليوم، ولندع الغناء يبدأ من الصف الأول إلى الصف الأخير.”
تقدّم الفنانة والموسيقية اللبنانية مي نصر نسخة حميمة جدًا من الأغنية، لنسمعها بصوت أنثى أو صوت أمومي، ترافق الأغنية خبطات جيتار دافئة لا تطغى على صوت مي العذب، الذي يتأرجح بين الغناء والتمتمة وكأنها تهويدة أم لطفلها.
أما زين، فقد أدت يما مويّل الهوا برفقة والدتها عام ٢٠٢١، إثر اندلاع هبة الكرامة في شهر أيار، التي جاءت كرد فعل شعبي واسع على محاولات الاحتلال تهجير عدد من العائلات الفلسطينية من حي الشيخ جراح في القدس، إلى جانب سلسلة من الانتهاكات التي تعرض لها المصلّون في المسجد الأقصى. مع تصاعد الأحداث وقتها، امتدت رقعة الحراك لتشمل كل فلسطين، من الداخل إلى غزة التي خاضت آنذاك معركة سيف القدس. كما قد تجاوز صدى الهبة حدود فلسطين، ليحظى بدعم شعبي واسع على المستويين الإقليمي والعالمي. لكن ذلك لم يمنع الاحتلال من السعي للانتقام، عبر ملاحقة واعتقال كل من شارك في التظاهرات والوقفات، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ما أدى إلى ارتفاع ملحوظ في أعداد الأسرى من فئة الشباب وغيرها.
إلى اليوم، لا يزال كثيرون من معتقلي هبة الكرامة يقبعون في سجون الاحتلال، ويتعرضون، هم من داخل السجن وعائلاتهم وأمهاتهم من خارجه، لأبشع أنواع التعذيب، في مشهد يلخص ثمن الكرامة في وطن لا يزال يناضل من أجل حريته.
قامت جوليا بطرس في ٢٠٢٤، وبعد عام من الإبادة التي يتعرض لها أهلنا في غزة وجنوب لبنان واليمن، بإطلاق نسختها من الأغنية. يبدأ المقطع بجوليا تجلس على الكرسي وحيدة، ترتدي اللون الأسود وتظهر وراءها صور ومقاطع لأطفال يبكون أو يلوحون بأيديهم الصغيرة من الشبابيك؛ وفي لحظات يتبدل المشهد إلى طفل ينكب على أبيه المصاب دون أن يتحرك. لا تعمد جوليا إلى إثارة الحركات أو الاستعراض، تكتفي بأن تحني رأسها على صدرها أحيانًا وتغمض عينيها مرات أخرى، أما الموسيقى فهي لا تظهر نسبيًا بشكل واضح، بل تتدرج مع صوت جوليا الذي بقي هو من يتحكم بإيقاع الأغنية والموسيقى.
من الصعب إحصاء كل من حملوا الأغنية باختلاف نسخها، لكن ما يبدو واضحًا أن النسخة التي كتبها أحمد دحبور هي الأكثر انتشارًا، والتي تكاد تكوّن لوحدها شبكة علاقات إنسانية كاملة، من نسخة فرقة صول، هذه الفرقة الطموحة التي شكلت نفسها من قلب غزة وبإمكانيات شحيحة، لنسخ حمزة نمرة ودلال أبو آمنة ولينا صليبي ونداء شرارة، لمقاطع غنائية عفوية على يوتيوب وتيك توك لطفلة سودانية وشابة من إندونيسيا ومجموعة شباب وشابات من تونس، يرددون كلمات الأغنية.
قد تكون كلمة يما واحدة من أبسط المفردات التي نتعلمها باختلاف لهجاتنا منذ الولادة، وهي ردة فعلنا الأولى عند شعورنا بالخوف والفزع والألم، أفكر بهذا في كل مرة أسمع بها الأغنية، لماذا يرتبط ألمنا بأمهاتنا؟ ثم كيف تحمل أغنية واحدة مآلاتنا ومصيرنا كلنا في العالم؟ في كل مرة نرفض فيها حكم النذل ونرى في تحملنا لطعن الخناجر صيغة عادلة للتضحية في سبيل ما نريد.