.
منذ ألبومه الأول في ٢٠١٦ والذي حمل سمات الراب التجريبي بشكلٍ سابق لآوانه، أعلن ين تك (نِك نيولين) عن نفسه كفنان تجريبي من العيار الثقيل، متصدرًا أكثر إصدارات تسجيلات سبكالت جاذبيةً وإثارةً للفضول. مع صدور ألبوم ين تك الثاني، أسِّمبلر، تحدثنا مع المنتج الكوري الأمريكي حول موسيقته المستقبلية وثيماته المفاهيمية التي تجمع تكهناته للمستقبل ونقده للحاضر، مستعينًا بالخيال العلمي وسرديته ما بعد الإنسانية، بالإضافة إلى أسلوبه الإنتاجي وتصميمه الصوتي الإبداعي.
ترجمت المقابلة براءة فاروق.
أسِّمبلر ألبومٌ سرديٌّ حُر، يستكشف رؤيةً مشوّهةً جدًا للمستقبل. ركّزت سرديته حول سلسلة من الكتابات والكلمات التي تتخيل الآثار النفسية للمستقبل، والضغوط المتأصلة والشديدة التي سنواجهها قريبًا. يصوّر الألبوم شخصية تختبر هذا القلق ونفسية الفرد ما بعد الإنساني، في سياق مستقبلي يتعرض فيه الكوكب إلى تروما واضطراب وجودي وأزمة بيئية. يحمل الألبوم نبرة الخيال العلمي، لكنه ليس قصة تكنولوجية أو ديستوبية، باعتقادي هو أقرب إلى حكاية أخلاقية، تُحطِّم الوهم المحيط بالمنظور الإنساني المغلوط حول امتلاك البشر سُلطة على الماضي والمستقبل؛ أن هذا الكون يدور حولنا.
يمكنني القول إن أسِّمبلر أقرب إلى الخيال العلمي من ناحية التطبيق الفعلي، لكن ليس بالقدر المتوقّع من الجماليات المستقبلية. أرى أنه أقل وضوحًا وتوجهًا نحو الفضاء السيبراني. لذا يمكنني فهم هذا السؤال. بشكلٍ عام أعتقد أن الخيال العلمي يمكن أن يلعب دورًا ثقافيًا، لأنه يُمكن تحميله بدلالات اجتماعية راديكالية وسياق تاريخي واسع. بالنسبة لي، ما تغيّر في السنوات الخمس الأخيرة هو أننا نعيش حرفيًا تلك الديستوبيا. يبدو العالم شبه خيالي ومجنون حاليًا. لسوء الحظ، على الرغم مما قدّمه السايبرْبَّنك للخيال العلمي بالفعل، إلا إنه لم يعد قادرًا على التعبير عن هذا الواقع الأغرب من الخيال. مع أن عرض هذا النوع من الديستوبيا المتردّية حضاريًا مازال مهمًا من حيث النقد الاجتماعي الاقتصادي مثلًا، فإن جمالياته عفى عليها الزمن ولم تعد تحمل نفس القدر من الراديكالية والنقد المطلوب الآن للمستقبل.
الجماليات مهمة بالطبع، لكنني لا أبدأ بها أبدًا، ولا حتى في موبيس. في موبيس كنت أتطلّع إلى تقديم تجربة عنيفة، عن شخصية تختبر المستقبل القريب من خلال صورة للذكورة المفتعلة والعدوان، يسهل التعرّف عليها. كان موبيس مليئًا بالحيَل، فانتازيا تراب عالية التقنية على مستوى عالمي، تربطها بالواقع عناصر الجنرا المألوفة. أمّا أسِّمبلر فليس له مرجعية موسيقية. أردت فيه العودة إلى شيءٍ بدائي ولا-إنساني. كان محاولة لتأطير صورة مستقبلية لا يمكن تخيّلها: على سبيل المثال، يؤدي الصوت المنفّر الذي طوّرته وأسلوب الإنتاج الغرائبي إلى الانغماس في مساحة سايكولوجية لم تتحقق بعد. من ناحية موسيقية ومفاهيمية، أسِّمبلر أصعب في تعريفه، ما يجعل تجربة الاستماع إليه أصعب، لكن أظن أنها مجزية في النهاية.
كان عندي تجارب مع هذه الجانرات في الماضي بالفعل، لكنّني دائمًا ما أحاول استخدامها بطريقة ذات دلالة بأن تحمل رمزية ثقافية ما مثلًا، أو لتوصيل معلومة في إطار العمل الأكبر. أحاول أن يكون للموسيقى أثر على المستويين، حيث يمكنك اختبارها على المستوى الظاهري، لكن مع الاستماع المتكرر ستكتشف المزيد من الطبقات. استبعدت الراب من آسّمبلر لأنه لم يكن له معنى في سياق الألبوم. كما أنّني لست مهتمًا بالحفاظ على نفس الأسلوب أو الجنرا في كل الأعمال، لذلك أستخدم أفضل شكل يتناسب مع الثيمة التي أعمل عليها.
جانب الكتابة مهم جدًا بالنسبة لي، فهو الذي يقوم عليه إطار الموسيقى ومفهومها. لتحقيق ذلك، ينطلق السرد من من وجهة نظر الراوي، فيحمل ثيمة تسجيل خواطر، وكذلك ثيمة توجيهية. هو أشبه بالراب من حيث تركيبة الجُمل، لكن يأتي الأداء أكثر بطئًا وسيولة مثل السبوكن وورد أو الـ آسمر. يصف الراوي البيئات المحيطة والمعدّات وتجربة هذا الوجود للمُستمِع عبر مزيج من الاصطلاحات التقنية العنيفة وفائقة الوصف، بِلُغة سايكاديلية تقترب أحيانًا من الهُراء. هكذا تكون الكلمات كالغِراء الذي يجعل هذا العالم الخيالي متماسكًا، لكن هذا يتضح تدريجيًا.
الفكرة في أن السرد غالبًا ما يكون خادعًا؛ إذ يصبح الصوت مشوشًا، ويقود السيناريوهات قلقٌ خفيّ. هذا هو مفهومي عن “ما بعد الإنسان” في أسِّمبلر، حيث تصبح الذنوب الظاهرية للتاريخ لا تطاق، أو لا تطابق توقّعنا بأن نصبح أشباه آلهة أو أننا نرتقي إلى مستقبل تكنولوجي يوتوبي.
بالطبع، أحاول ألّا أكون متشائمًا بالكامل، لكن الأمر صعب. الواقع الذي نعيشه عبثي للغاية، هوسنا بأنفسنا وهلاكنا هو إرث عبثي غالبًا سنتركه خلفنا. جعلت منا الأنظمة الإشكالية والبُنى التحتية المُعلّقة برأس المال، والسُلطة التي نعمل في ظلها، متواطئين في مشاكل تخص المستقبل وآلية عمل الكوكب بأكمله. لذا أحاول إظهار سرديات العنف الإنساني السخيف في أعمالي كنوع من النقد، لأوضح أنه بالرغم من جميع إنجازاتنا وثقافتنا التنويرية، سيتحطم هذا كله بفعل النرجسية المُدمِّرة. أنا كفنّان، لا أقدر وحدي على إصلاح هذه المشاكل، فمن يهتم حقًا بالنقد الذي أُقدّمه؟ لكن مع التفكير في هذه المواضيع وصنع أعمال حولها، أحافظ على سلامتي العقلية، وآمل أن يكون جهدي الضئيل هذا جزءًا في مواجهة المستقبل المجهول.
حاولت تشكيل عينات صوتية خاصة بي أو تعديل العينات الأصلية بنفسي كلما أمكن، حتى وإن بدأت بعينات معدّة مسبقًا. استخدمت كونتاكت إنسترومينتس (Kontakt)، وصوتي، وتسجيلات سنثية تفتيتية أو أصوات مُعالجة للتلاعب بها بطريقة ما. حاولت خلق وعاء صوتي يحتوي كل شيء. الغرض أن يكون الصوت مكثّفًا وطاغيًا وغامرًا. لذا عندما تتلاشى مساحة الموسيقى في لحظةٍ ما، يترك ذلك أثرًا مفاجئًا على المستمع.
يقع سايلو في منطقة تجمع ما بين سلسلة أعمال، ومنصة لعلامة تجارية، وفريق بحثي يسعى إلى تناول المشاكل المنهجية المترسخة في بيئة وسياسات المستقبل من خلال مدخل نقدي مراوغ. تتكون المنصة من مجموعة تكاملية من الأعمال الفنية والكتابات، والإصدارات الجماعية، وينطلق جميعها من التصميم النقدي والكتابة الساخرة كمفهوم عام يربط بعضها ببعض. عوض البيانات أو المعارضات الصارمة، يقدّم خطاب سايلو النقدي أعمالًا تكهنية بشكلٍ كامل وعرضَ أفكار وأعمال فنية تعطّل هذه الأنظمة الرأسمالية. يسعى سايلو إلى تحريك المياه الراكدة وإثارة أشكال جديدة لمقاومة هذه الأنظمة من خلال عملية إبداعية تزيح طبقات من المعلومات المغلوطة ببطء. قد يبدو الأمر مبالغًا فيه، لكن كشخص يعمل في مجال الخيال العلمي والمفاهيم الافتراضية للمستقبل، هذه موضوعات لا يمكنني تجاهلها، وسايلو هو وسيلتي لتحقيق ذلك. أتمنى أن ينضم آخرون للتعاون في هذه المحاولة.
ليست لديّ خطط فعلية، فقط المزيد من العمل ومحاولة التأقلم مع واقع ما بعد الجائحة الذي نعيشه. ستأتي العروض قريبا بكل تأكيد، وسنبدأ بطرح المشاريع الجديدة والكتابات عبر سايلو خلال الأسابيع القادمة.