.
من المعروف عن عمر بن ربيعة أنه تمنى أن يكون موسم الحج دائمًا: “ليت ذا الدهر كان حتمًا علينا / كل يومين حجةً واعتمارا”، ولم يكن هذا حبًا بالدين. في موسم الحج كان الشاعر القرشي يرى جميع أنواع الفنون والتجارة، وكان أيضًا يرى فيه نساءً من شتى أنحاء المنطقة. تصف لنا هذه الأغنية مشهدًا جميلًا لشاب يقع في أسر فتاة جميلة مُحرِمة تطوف في مكة. لا يتمالك الشاب نفسه ولا هي تبالغ في التمنع، ويبدأ الاثنان بالغزل. غزلٌ جميلٌ محرم. مُنع بث هذه الأغنية على الراديو، ونُفي طلال مداح من السعودية إلى مصر بسبب غنائها علنًا. يرسم أداء فوزي محسون للأغنية المشهد ببراعة، ويعززه الإيقاع البسيط الذي يجلب إلى المخيلة صورة مكة في أيام عمر بن ربيعة.
كانت هذه الطقطوقة في بدايات رحلة أم كلثوم، وكانت متماشية مع أغاني الهنك والرنك التي درجت آنذاك وكان فيها شيء من اللوعة الجنسية والميوعة التي لاءمت حفلات الخديوي اسماعيل الشهيرة. أثارت الأغنية ضجة كبيرة جعلت المعنيين بمستقبل أم كلثوم الفني في ذلك الحين يقنعونها بضرورة سحب الأسطوانة. اعترضت شركة التسجيل على ذلك، وكان الحل أن أُعيد تسجيل الأغنية لتقول: “أنا اللطافة والخفة مذهبي”، وكان أداؤها باهتًا وتلقيها ضعيفًا مقارنة بالأصل.
المفارقة هنا أن الشخص الذي كتب كلمات الأغنية، يونس القاضي، كان هو من أصدر قرار منع الأغنية وشطبها فور استلامه منصب مراقب الداخلية. ذلك أن هذه الأغنية – بالإضافة إلى أغنية أم كلثوم أعلاه – كانت تسبب له حرجًا في الدوائر الاجتماعية المصرية في ذلك الوقت. تقول كلمات الأغنية:” وانا مالي هي اللي قالتلي / روح اسكر وتعالى ع البهلي / شربت شوية وبعد شوية / بعتت لى خدام يندهلي.”
كانت حبيبة مسيكة مشاكسة بامتياز. ففي وقت كانت فيه نساء تونس منقبات ومحجبات كانت تظهر في أزياء باريسية وتختال حول المدينة. كانت تلفت الانتباه أينما حلت بسبب جمالها وجرأتها، فمرة تقبّل الفنانة الليبية لطيفة رشدي أثناء لعبها دور روميو، ومرة تلف نفسها بالعلم التونسي، لتقتحم الشرطة الفرنسية المسرح وتعتقلها. يذكر أن حبيبة مسيكة أسرت قلوب العديد من الرجال وكان لها عشاق عديدون، وكان هذا ما أدى إلى وفاتها المفجعة.
يبدو من صوت التسجيل والآلات أن هذه الأغنية الغامضة تعود إلى السبعينات من القرن الماضي، ويعزز هذا التقدير نوع الأحداث الذي تركز عليها الأغنية كتسليح آل سعود للملك حسين في مواجهة الفدائيين، بالإضافة إلى أحداث حرب الأيام الستة. ظهرت الأغنية مؤخرًا عندما استخدمها ناشطون في أرض الحجاز وأعدوا لها الفيديو أعلاه.
يصف كامل الخلعي في كتابه الموسيقى الشرقيّة، الذي صدر سنة ١٩٠٤ جماعات الصهبجيّة، أو أصحاب قهاوي الحشيش التي كانت تحيي حفلات الزفاف المتواضعة: “كانوا يجلسون جماعتين متقابلتين على دكّتين وسطهما طاولة عليها شمع وزجاجات الخمر البخس، يغنون الموشّحات المصريّة والشاميّة؛ وعند نهاية الموشّح يبدأ أحد الصبية بغناء موّال غاية في سخافة الألفاظ وقبح المعاني.”
لا شكّ بأن لـ الشيخ سيّد مكّاوي (الذي رجّحنا أن الصوت في التسجيل هو صوته)، مثله مثل كثير من مجايليه، وجهًا مخفيًا آخر غير الوجه الوطنيّ والعروبيّ (الأرض بتتكلّم عربيّ – رباعيّات صلاح جاهين)، والدينيّ (حيران على باب الغفران). لكن هذه الأغنيّة، التي خرجت عن جلسة خاصّة كما هو واضح، صادمة لمباشرتها وفجاجتها. الأمر الذي يدعو لإعادة التفكير في وجوب ادّعاء قدسيّة وطهرانيّة الشخصيّة الموسيقيّة العامّة، وعلاقة هذه الطهرانيّة وعدمها بالأعضاء الجنسيّة الأنثويّة، والعملية الجنسيّة بحد ذاتها كفعل يستدعي الفضيحة.
كان من البديهي أن تُمنع أغاني الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم من الإذاعة، وأن تتم محاربتهما من قبل نظام جمال عبد الناصر وأنور السّادات، إضافة إلى مشاكستهما التي طالت أيقونةً مثل أم كلثوم. في هذه الأغنية، يهاجم الثنائيّ العضويّ نظام الضبّاط الأحرار، الذي أتى بعبد الناصر إلى الحُكم، بسبب هزيمة حرب سنة ١٩٦٧، وأم كلثوم التي حاربتهما بعد أن سجّل أحمد فؤاد نجم قصيدة كلب الستّ المشهورة، بعد أن عقر كلب “سومة” طفلًا فقيرًا مرّ بالصدفة من قصرها.
في العام ١٩٩٦، صدر قرار للأمم المتحدة يقضي بتفعيل الحظر الجويّ فوق ليبيا، نتيجةً لرفض النظام السابق بتسليم المتّهمين في قضيّة لوكربي؛ وعندما حلّ موسم الحجّ، رفضت السعوديّة استقبال الطائرات الليبيّة التي تقلَ حجّاجًا مباشرة من ليبيا، حتى سُمح لاحقًا للحجّاج بالسفر برًا إلى القاهرة، لاستقلال طائرات الخطوط المصريّة فقط.
إثر هذه الحادثة، كتب الشّاعر الليبيّ علي الكيلاني قصيدة طويلة بعنوان: مين يجرى (يجرؤ) يقول، نقل فيها ملحميّة قذّافيّة طال انتقادها الحكّام العرب على تخاذلهم تجاه العروبة وفلسطين. قامت التونسيّة ذكرى بغناء مقطع من القصيدة موجّهة إلى ملك السعوديّة، وفلسطين. بعد وفاة ذكرى (٢٠٠٣)، استقدم علي الكيلاني الأردنيّة أمل الشبلي لغناء مقطع جديد من القصيدة كتبه بعد إعدام الرئيس السابق صدّام حسين (٢٠٠٦).
إثر ثورة ١٧ فبراير ٢٠١١، بقي الكيلانيّ وفيًا لنظام القذّافي، لينتج أغنية جديدة تندّد بغزو قوّات الناتو، وتواطؤ الحكّام العرب، مرة أخرى.
عاد معطوب الونّاس إلى قريته توريت في عاصمة القبائل تيزي أوزو سنة ١٩٩٨ رغم التهديدات بالقتل من قبل الجماعات الإسلاميّة المتشدّدة. بعد عدّة أيّام، نفّذت الجماعات تهديدها وقتلته بالقرب من قريته وهو يقود السيّارة. هذه الأغنية الساخرة بالأمازيغية هي إحدى أسباب إثارة غضب مغتاليه.
قد تنطبق صفة الممنوع على معظم أغاني فرقة ناس الغيوان المغربيّة، وذلك لأنّها التعبير الأنقى والمباشر للشارع، ولخلوّها من شوائب التمويل، ومحاولات جرّ الموسيقى الشعبيّة إلى الطبقيّة وحبسها فيها. لهذا السبب، رفض أعضاء الفرقة: باكو، بو جمعة أحكور، العربي باطما، عمر السيّد، وعلال يعلى (آنذاك)، تسييس أغانيهم. ربّما القصد في ذلك التفلّت من ثنائيّة النظام / المعارضة التي ارتبطت – في وعينا العربيّ المعاصر – بإعادة إنتاج مراتب سلطويّة جديدة.