.
لا يقتصر دور الشارات في الدراما العربية على كونها مقدمة تعرف بالقائمين على العمل، إذ أتاحت فرصة لإبداع موسيقى عوضت في كثير من الأحيان عن قلة الأعمال الجدية في الفضاء الرائج. استغل هذه الفرصة عدة مؤلفين تضم القائمة أهم ما قدموا.
كونه كفيفًا، أُبعِد عمار الشريعي أو “تم تجاهله” على حد تعبيره لمدة سنتين من صناعة الموسيقى التصويرية وشارات المسلسلات التلفازية، ولمدة أربع سنوات من موسيقى السينما، كان ذلك قبل أن يصبح أحد أهم صناع هذه الموسيقى في مصر، ليقدم مقطوعات مثل رأفت الهجان والأيام، وأغنية حديث الصباح والمساء التي كتب كلماتها الشاعر والسيناريست فؤاد حجاج. بدأها بكمان حاد صارم وأكملها بلحن ما إن يهدأ حتى يعود لغضبه، يتخلله العود كنوبات حنين لا منطقية تجد طريقها السلس ضمن موسيقى زخمة جذابة كالحياة.
في ثلاثية الأندلس التي كتبها وليد سيف وأخرجها حاتم علي، كان لطاهر مامللي نصيب الموسيقى التصويرية وشارة أول جزئين منها: صقر قريش، وربيع قرطبة التي غنتها رويدة عطية لتصبح أغنية ذات نَفَس أندلسي بعودها وإيقاعها وشعرها. طاهر مامللي حلبي درس الموسيقى في مركز بربيكان في لندن، وأضاف مخزونه الشرقي إلى ما تعلمه، ليترك طابعًا لا تضيعه في الموسيقى التصويرية في سوريا. خولته ثقافته الفنية الواسعة صنع أنماط موسيقية مختلفة ما بين تاريخي ومعاصر وكوميدي، كالعملين الكوميديين الساخرين ضيعة ضايعة وبقعة ضوء، وأعمال درامية أخرى كخان الحرير مع المخرج هيثم حقي، وغالبية مسلسلات حاتم علي كالفصول الأربعة وأحلام كبيرة والتغريبة الفلسطينية.
مع بداية السبعينات حين كانت شارات المسلسلات تأخذ خطواتها الأولى بالنضوج، ظهر مسلسل الوادي الكبير الذي قام ببطولته كل من صباح فخري ووردة الجزائرية، وأدوا أغانيه التي لحنها بليغ حمدي وكتب كلماتها نزار العظم. تسير الشارة على وتيرة واحدة مألوفة، إلا أنك حين تسمعها ستعرف أنها لبليغ، سيشي بذلك استخدام الأورغ بالطريقة الواردة، ولمحة راقصة لا تخلو منها أغلب أعماله.
دفوف تسير على إيقاع أشبه برقصة مولوية، كلمات تعرض الخطأ وتعترف به، صوت الكورال الأنثوي في قول القرارات، وصوت علي الحجار ينتقل بسلاسة بين الطبقات، معطيًا صورة الغضب من النفس في الطبقة العالية “مدينا في الكون خُطانا \ زدنا ف غلطنا وخطانا”، والندم في المنخفضة “واما زمانا عطانا \ صرنا لإبليس بطانة”. كل ذلك جعل من الأغنية التي ألفها ميشيل المصري حالة روحانية. ألف ميشيل إلى جانب عم آدم عددًا من الأعمال الأخرى أهمها ليالي الحلمية التي غناها محمد الحلو وكتب كلماتها سيد حجاب.
وضع ياسر عبد الرحمن الموسيقى التصويرية لفيلم الإمبراطور ونال عنها جائزة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي لأحسن موسيقى تصويرية، كذلك موسيقى مسلسلات فارس بلا جواد، السقوط في بئر سبع الذي كتبه والده، والمال والبنون التي خلقت موسيقاه للمستمع جوًا متقنًا آمنًا بصوت علي الحجار، وانسجامًا سلسًا بين الإيقاعات الشرقية والآلات الغربية.
إلى جانب عمله على الموسيقى التصويرية وشارات المسلسلات، تعاون ياسر مع عدة من المطربين خارج هذا الإطار أمثال آمال ماهر وعمرو دياب وحنان ماضي.
ما فعله طارق بن زياد على شواطئ الأندلس عندما أحرق سفنه وأعلن للجيش: “البحر من ورائكم والعدو أمامكم، فأين المفرّ؟” لا يقتصر على كونه تكتيكًا عسكريًا، هو خطوة بإمكان أي أحد تطبيقها على حياته. ما يكسبك إياه هذا الفعل وما يخسرك موضوع طويل، اقترح إجابةً له طارق معاصر، الأردني طارق الناصر الذي ترك الدراسة الثانوية والجامعية والتفت إلى العمل على الموسيقى، واصفًا ما فعل بقوله: “خلص على طول حددت المسار واشتغلت فيه، وأظن هذا سعد”. جعل هذا الجامعة تفتح أبوابها بنفسها أمام طارق على يد عميد الأكاديمية الموسيقية الأردنية آنذاك يوسف خاشو. تعلم خلال وجوده فيها بوقت لا يزيد عن السنة كتابة النوتة الموسيقية وقراءتها، ثم أسس بالتعاون مع أخته رُسُل الناصر مجموعة رم التي عرَّفت بالتراث الموسيقي الأردني.
بدأ طارق العمل على شارات المسلسلات والموسيقى التصويرية مع نهاية رجل شجاع الذي أُنتج عام ١٩٩٣، حيث انتقل إلى دمشق وقتها حارقًا سفنًا أخرى في الأردن، محققًا نجاحًا عزاه إلى حماسه ونضارة أسلوبه في بداياته، واستخدامه لآلات وأساليب دمج غير معتادة أسماها بالأصوات الجديدة، كاستخدام الصوت البشري الكورالي في الموسيقى التصويرية بأسلوبٍ أخذه عن إنيو موريكوني.
من أعماله الملك فاروق للمخرج حاتم علي، حيث نال عنه الجائزة الذهبية لأفضل موسيقى تصويرية في القاهرة، وآخر أيام التوت بنسختها الأبطأ إيقاعيًا مقارنةً بالأصل، حيث يقود القانون بقراره حينًا وجوابه حينًا آخر الحوارية الآلاتية والصوتية فيها.
يشير طاهر مامللي في مقابلة له إلى المطربين غير المشهورين – أو “ليسوا نجوم أغنية” على حد تعبيره – الذين غنوا معظم الشارات التي صنعها: “كل حجر بمكانه قنطار”. ينطبق ذلك على عامر خياط الذي أدى شارة التغريبة الفلسطينية بصرامة مجدولة مع غضب وحزن لا استعطاف فيهما ولا استعراض لقوة واهية. حقيقة موجودة فحسب، ما يليق بموسيقى الأغنية. الناي إلى جانب الطبول، بزق وقانون إلى جانب آلات نفخية، وكلمات ابراهيم طوقان “صامتٌ لو تكلمَ \ لفظ النار والدمَ \ قُل لِمن عابَ صمتَه \ خُلقَ الحزمُ أبكما”.
باستطاعة الموسيقى التي يصنعها سمير كويفاتي نسج حالة دافئة متكاملة، يرافقها صوت زوجته ميادة بسيليس الذي لا تنقص قدرته شيئًا من روحه، مُشبِع غربيًا وشرقيًا، وكلمات – كتب أغلبها سمير طحان – تحقق معادلة العاطفة دون ابتذال. كذبك حلو، هوى تاني وحنين هي بعضٌ مما قدمه الزوجين.
ما ينقصهم هو إنتاج يمنح أعمالهم راحة ومساحة أكبر للعمل ضمنها. حيث أنهم ينتجون لأنفسهم، يوزعون لأنفسهم، وموسيقاهم منهم وفيهم. فيعزف سمير على البيانو وابنتهم مرح على التشيللو والغناء بلا منازع لميادة، وحين تصبح الحالة المادية أفضل تدخل آلات لعازفين آخرين.
لا نجد في حنين شيئًا مختلفًا عن قديمهما رغم قدرتهما على التجديد، تحافظ مسيرتهم على طريق أفقي واحد لا نقط تطور فيه ولا انعطافات، إلا أننا نرى الجمال على طوله.
دقيقتان من الموسيقى الآلاتية في شارة عودة الروح كافيتان لتتركا بصمتهما في ذهن المستمع، حتى ولو كنّا – كما قال الشريعي – “بنحب الغُنا وما نستحملش المزيكا (الآلاتية) كتير”. إلا أنه ربما عدل عن رأيه حين أخذ اللحن نفسه وحوله إلى حوارية طويلة بين العود والأوركسترا، عالج فيها الثِمة الرئيسية للحن بطرق مختلفة ضمنها تقاسيم على العود، فكانت النتيجة تصفيق الجمهور واقفًا لمدة ثلاث دقائق.
وشاء الهوى، تخت شرقي، نزار قباني، الأميمي، الحصرم الشامي، بالإضافة إلى موسيقى مسلسلات كوميدية مثل جميل وهناء وعيلة ست نجوم. ليست كل أعمال رضوان نصري ذات صنعة مهمة، إلا أنها علقت في الأذهان أحيانًا لرومانسيتها المرغوبة، وأحيانًا لملامستها الواقع السوري حتى ولو كانت ملامسة ركيكة، كما في شارة مسلسل العناية المشددة التي ينتقل فيها الكلام من الفصحى إلى العامية، واللحن من حزين إلى إيقاعي راقص بشكل فج. كل هذا لا يلغي كون طالع الفضة حالة مميزة في أرشيف نصري، بإيقاعها الذي يستخدم الدف بما يشبه الموسيقى الصوفية، بإدخال الكمان بطريقة متقنة على الدف، باستخدام صوت الكورال الرجالي في تشكيل الموسيقى، وبصوت صفوان عابد المختلف وملاءمة إلقائه للموسيقى الموضوعة ونطقه الرنان للأحرف.