.
في بدايات التلفزيون العربي في الستينات، لم يكن أمام المشاهد العديد من الخيارات، السينما مكلفة، والإنترنت والقنوات الفضائية ما زالت في المستقبل البعيد، ما جعل المسلسل الذي يختاره التلفزيون المحلي هو الخيار السهل الوحيد لشعبٍ كامل، وفيه الذكريات المشتركة لأبناء هذا الشعب. عندما أصبح رمضان واجتماعاته العائليّة موسم المسلسلات، تكثّفت الذكريات المشتركة وتعززت مكانتها، كما انتقلت من المحلية إلى العربيّة ببث أول فضائية عربية عام ١٩٩٠. اليوم، أصبحت شارات المسلسلات هي التي تحمل كل تلك الذكريات، أمرٌ كانت الشارات أهلًا له لأن أوائل مؤلفيها كانوا من آخر السائرين على نهج الكبار، ولأن صناع المسلسلات أدركوا هذه الأهمية لها، ما جعل هناك تباينًا واضحًا استمر بالازدياد بين أغنية المسلسل وغيرها.
لهذا نجد مُعظم أساطير غناء الشارات إما لم يحققوا نجاحًا في غيرها كـ نوال سمعان، وإما تراجعت أمجادهم خارجها حتى اقتصرت عليها كـ علي الحجار. في الحالتَين استمر النجاح مع الشارات. ينطبق ذلك على التأليف الآلاتي، فعندما يحضر الناس حفلًا لعمر خيرت يذهبون بشكل رئيسي لسماع أعمال مؤلف ليلة القبض على فاطمة وصابر يا عم صابر وعم أحمد، لا المؤلف الذي سيُقدّم قطعةً جديدة لا صلة لها بصورةٍ أو كلمات. في الشارات، الدراما والسرديّة مطلوبتان لمنح القصة الوزن العاطفي الذي يجذبنا لمتابعتها والعودة إليها، كما في هذه الشارات من المحيط إلى الخليج.
https://www.youtube.com/watch?v=x4iISrqHadA
على غرار ليالي الحلميّة الذي انتهى آخر أجزائه عام ١٩٩٢، صدر عام ١٩٩٤ الجزء الأول من الملحمة الاجتماعية السورية حمام القيشاني، التي تستعرض الواقع السوري بعد الاحتلال الفرنسي وحتى انقلاب الثامن من آذار عام ١٩٦٣. ثلاثة أمورٍ لا تغادر ذاكرة من شاهدوا هذا المسلسل، نسونجيّة شوكت القناديلي، جمال عنايت، والبداية النوستالجيّة للشارة التي ظهرت مع الجزء الثاني واستمرت حتى الخامس، بلحن فاهيه دمرجيان، كلمات دياب عيد وأداء محمد هباش:
“لو جمّعوا كل الزهر من كل جنس ولون / وركّبوا منّه عطر أحلى عطر بالكون
رح قلهن أحلى عطر من كلشي قدامي / هبة نسيم العصر بياسميننا الشامي”
لم يكن فاهيه دمرجيان غزير الإنتاج، لكنه ترك علامتَين تضمنان استمرار ذكره، أولاهما شارة كان يا ما كان عام ١٩٩٢، والثانية هذه الشارة ببساطة ودفء لحنها، الملتزم بألا يجعل طول الكلمات ينعكس في طول الشارة. لذلك لا نجد لوازمًا، وإنما مُجرّد فواصل قصيرة جدًّا ولطيفة، مع تحويلات إيقاعيّة بين المتهادي والحماسي والراقص بحسب الكلمات. كل ما في اللحن يُؤكّد على العفويّة التي وُضع بها، ما يجعل مكانته اليوم تفوق كل ما حلم به دمرجيان.
يشكو الكثير من العمانيين حال الدراما الحالي عندهم، وللتدليل على المكانة المهمة التي بلغتها مسلسلاتهم يومًا يضربون المثل بأعمال المخرج والكاتب أمين عبد اللطيف الثلاثة: آباء وأبناء، وتبقى الأرض، وقراءة في دفتر منسي الصادرة بين ١٩٨٥ و١٩٩٥، كأفضل اجتماع للقيمة الفنية مع القابلية الجماهيرية لتقديم ناتج لم يُنس حتى اليوم، ما يُحمّل هذه الشارة وزنًا عاطفيًّا أكبر، كان مؤلف لحنها فوزي بن محمد الغمازي على قدره بتقديمه مقطوعة مفعمة بشجن التجوال في حارة بيتٍ أحببته وغادرته منذ سنوات.
يُشعرك الغماري بأن كل جدارٍ في البيت وكل زاوية يُغنيان نغمة الذكرى ذاتها لكن بصوتٍ مختلف، فاللحن يبدأ ببيانو يعزف نغمةً بسيطة وقصيرة، تُعاد ذاتها طوال الشارة، لكن كل مرة بدخول آلةٍ مختلفة. بعد البيانو يدخل الإيقاع بالرق الذي يستمر وجوده مع البيانو حتى النهاية، ثم يتوالى الكمان والعود وصوت بشري على عزف النغمة ذاتها حتى تتغير في الخمسين ثانية الأخيرة بدخول مجموعة أصوات بشريّة معلنةً عن اقتراب نهاية جولة الذكريات.
مسلسل يستذكر زمنًا آخر بحب. أُخذت هذه الفكرة في عين الاعتبار لدى تأليف شارته البادئة بـ “يا روايح الزمن الجميل هفهفي / وخدينا للماضي وسحره الخفي” لتصبح من علامات زمنٍ “جميل” بالنسبة للتلفزيون المصري. ألف الكلمات سيد حجاب صاحب الحصة الكبيرة المُستحقّة من الشارات في تلك الفترة، غنتها الجميلة هدى عمار التي قدمت أعمالًا خارج الشارات لم تقابل بنفس الحب، ولحنها راجح داوود بشكلٍ يُشعرك أنه لم يبدأ عمله إلا بعد التأكد من أن هدى عمار ستُغنّي، فمن الواضح أن صوتها هو الآلة الأساسيّة وبقية الآلات من كمنجات وتشيلّوهات وجيتار ومُثلث جاءت لتدعم تلك الآلة وتزيد جاذبية وشاعريّة استرسالاتها وحتى همهماتها.
تجري أحداث المسلسل الكويتي في مدينةٍ متخيّلة تنتقل من حال “كانت مدينتنا ذهب والناس للناس” إلى حال “أغراب بين اهالينا” بعد دخول غرباءٍ نشروا الخوف. قضيّة هي الأكثر تأثيرًا في قلوب العرب، استطاع المسلسل مناقشتها بشكلٍ حافظ على استمراريته في ذاكرة مشاهديه. خاصةً مع شارته التي تشبه أسطورةً شعبيّة، كتب كلماتها عبد اللطيف البناي، لحنها أنور عبد الله، ورواها صوت رباب المتمكّن.
بعد بداية أوركسترالية فخمة تليق بأسطورة، يُضرب فيها الإيقاع على الطبول والدرَمز والمزمار والأورج، يتراجع عدد الآلات لإفساح المجال لـ رباب مع مشاركة رئيسيّة لإيقاع الطبل، وكمنجات في الخلفية تتقدم إلى الواجهة في كل لازمة. بالإضافة إلى ذلك نجد هارموني مؤثّر يتوسط الأغنية بين آهات رباب في مقطع “بجت المدينة والأرض الحزينة” وآهات الكورال. أتاح هذا التوزيع المدروس لإحساس رباب أن يبلغ قمة تأثيره في الختام “أغراب بين اهالينا.”
https://www.youtube.com/watch?v=35snaXNkiPU
على مدى ١٨ جزءًا لمسلسل مرايا الذي أصبح من علامات رمضان، تنوّعت الشارات بينهم، يبقى لحن هذه الشارة هو الأجمل والأكثر خلودًا، رغم أنه لم يُعد خصيصًا للمسلسل، بل واستوحي من مدينة هي القاهرة لا دمشق. اسم المقطوعة الأصلي هو إن أَ تايمليس بلايس In a Timeless Place، من ألبوم سونجز فرَم ذَ فيكتوريَس سيتي Songs from the Victorious Cityلـ جاز كولمان والفائزة بالأوسكار آن دَدلي، الصادر عام ١٩٩١ والمُسجّل بين القاهرة ولندن.
اجتهد دَدلي وكولمان في استلهامهما من المشهد الموسيقي الذي لاحظاه في القاهرة، سواءٌ بالإيقاع، باستخدام مقام النكريز وركوزاته بطريقة نادرًا ما نسمعها في الغرب، أو بصدارة الكمنجات كحال الكثير من موسيقى الثمانينات المصرية وخاصةً في المسلسلات. رغم كل هذا، من الصعب التفاعل مع مقطوعتهم بالشكل الذي تخيلاه، فهي تقابل في ذاكرة السوريين: “ياسر العظمة في مرايا. إعداد وتأليف ياسر العظمة، مما قرأ وسمع وشاهد.”
https://www.youtube.com/watch?v=Lz2qToF11Dk
عبادي الجوهر، محمد عبده وطلال مدّاح أهم ثلاث أعمدة للموسيقى السعوديّة، ولا يُمكن لشارة أي مسلسل أن تغري أحدهم بالمشاركة فيها. كان أصابع الزمن إلى جانب ساق البامبو المسلسلَين الوحيدَين اللذَين كُرِّما بصوت الجوهر في شارتَيهما حتى الآن، وبمكانة الأول الكلاسيكيّة اليوم يُمكن فهم استحقاقه لذلك.
تفوّقت شارة أصابع الزمن بكون صوت عبادي الجوهر فيها أكثر شبابًا وحيويّة، فيه شبهٌ كبير من صوت محمد عبده لكن أكثر طلاوةً، وإيقاع الوحدة الكبيرة على الدفوف منحه حريّةً أدائيّة وانفعاليّةً أكبر جعلت اقتصار الآلات المرافقة على الدفوف وبعض الكمنجات في القسم الأكبر من الأغنية أكثر من كافٍ، بالإضافة إلى كون لحن محمد شفيق حرص على استعراض جمال الكلمات وتدعيم وقعها.
يشكّل كلٌّ من عمر خيرت، سيّد حجاب، وعلي الحجار ختم جودة بالنسبة لشارات المسلسلات، وفي مسلسل المال والبنون يمنحهم الكاتب محمد جلال عبد القوي مادةً دراميّة غنيّة ليستلهموا منها، واضعًا حجاب في مساحته المفضّلة من ناحية اللهجة كونه من أهالي مطرية الدقهلية، أصحاب ما يُسمى بلهجة الفلاحين البحاروة، والمسلسل تجري أحداثه في أحد قرى الصعيد.
أما خيرت فأفاد من بيئة الأحداث وكلمات حجاب لتقديم مزيج بين ما يُناسب أغنية شعبيّة صعيديّة في لحن المذهب: “في الليل وفي التباريح / يتلملموا المجاريح / والغُرب يتقاربوا يوقفُم فوش الريح”، وبين أناقته المعتادة في الأغصان التي يُغنّيها الحجّار، التي تبلغ ذروة جمالها في الختام: “الحب مش سهم طايش / الحب زاد اللي عايش / دنا كنت مت وحَيِتني / ست الصبايا غوايش.”
عام ١٩٩٢ دخلت الدراما التونسية الموسم الرمضاني بمفاجأة سارّة مع مسلسل الدوّار للكاتب والممثل حسين المحنوش والمخرج عبد القادر الجربي، مفاجأة شملت لحن منذر الديماسي للشارة الذي أصبح تدريبًا ممتعًا لعازفي الآلات المختلفة، ببدايته المنذرة التي تتلوها نبرة حسرة وندم تصدر عن نايٍ جميل يمنحك إحساس بخصوصية محليّة، يتناوب مع أورج يُغذّي هذا الإحساس، بين كمنجات وتشيلّوهات وإيقاعٍ مُهيب، وعودة للنبرة المنذرة في ختام كل نغمة جديدة بمعركة وتريّات.
فيما يلي حرق لنهاية المسلسل. “نظامي بكرا أحلى كان انقلاب، كأنو حدا ضربنا كف تلفزيوني” علق صديقي خالد على ما كانه هذا المسلسل وقت ظهوره. كان الأعلى مشاهدة في سوريا في رمضان ٢٠٠٥ لظرافته وكوميدياه النابعة من بؤس الواقع، دون انتظار المشاهدين أن جزء الواقعية في المسلسل سيكون المسؤول عن نهايته بشكل غير مسبوق في أعمال مشابهة.
الغريب في الأمر أن الشارة لم تكذب كالعنوان، بل بينت كذب أبطاله على أنفسهم، فبعد الحديث عن القسوة والغدر والزمن اللي “ماله أمان” والطماع اللي “مبقا يفيده الدمع”، نسمع: “لا بكرا أحلى”. ربّما لم ننتبه لذلك وقتها لأن لحن سعد الحسيني تآمر مع كلمات أسامة سعود وصوت رشا رزق. لحنٌ مفعم بالحيوية والرومانسية، نسمع في بدايته صوت محمد عبد الجبار “آه من الصبر / يا زمن مالو أمان”، ثم لازمة جذّابة كباقي اللوازم التي تحار ستُهَمهِم بأيٍّ منها، تُعاد آهاتًا بصوت رشا رزق الذي ملأ طفولتنا في شارات مسلسلات الكارتون، والذي يستمر في خلفية الأغنية باعثًا على اطمئنانٍ لكون ختام أسامة سعود كل مقطع بـ “لا بكرا أحلى” صادق.
عن رواية الأرض للفرنسي إميل زولا كتب شفيق السحيمي نص هذا المسلسل، وأخرجه بالاشتراك مع رضوان قاسمي، راويًا قصة عن علاقة الإنسان بالأرض، تُفتتح بهذه الأغنية التي تبدو آتيةً من عمق الريف، بإيقاع الوحدة الكبيرة المعزوف بما يشبه طَرق واحتكاك أطباقٍ خشبية، كلماتٍ عاميّة قروية مثل التي نسمعها في الحكم والأمثال، ولحن عبد الفتاح النكادي الذي يبدأ بمقدمة من جزأين، الأول هو لحن المذهب الذي سيُغنيه الكورال لاحقًا “شكون لكاد سيدي احمد لعمامة / رآه ما حنا فيوم لزمان قامة”، والثاني إعادة للحن ذاته من درجة أعلى، مُذيّلة ببضعة ضربات على أزرار بيانو تُكمل جمال الافتتاح. يدخل بعد ذلك صوت خديجة العمودي التي تُنحّي نبرة الحكمة في الكلمات وتُغنيها بإحساس غامر. بعد الغصن الأول يُعزف المذهب ثم يُغنيه الكورال، يتلوه الغصن الثاني “وسط الريح والمطار شحيح / خبار الناس يا خويا في الناس انبيح” الذي يُعاد مع المذهب مرتين مُشكّلًا ختامًا مثاليًّا.
https://www.youtube.com/watch?v=RjMYqOoHTxY
أعادت كوميكات الفيسبوك إحياء قصة حب سي عبده وفاطنة وحِكَم المعلم سردينة، بعد ٢٠ عامًا من العرض الأول للمسلسل المقتبس من رواية لـ إحسان عبد القدّوس، والذي أصبح من أساسيات الدراما العربية لكل متابع. بالإضافة لغنى القصة، كان لموسيقى حسن أبو السعود دورٌ كبير في استمرارية أثر المسلسل، وهذه الشارة عيّنة نوستالجيّة لا تُنسى منها، تُثبت مرة أخرى قدرة أبو السعود – ملحن بنت السلطان وآسف حبيبتي ولو بتحب – على تقديم ألحان مشغولة وسهلة التعلق بالذاكرة.
يُخصص أبو السعود لكل آلة مقطعًا ونغمةً خاصّة، والجميل في الأمر أن كلًّا من هذه المقاطع أصبح محفوظًا اليوم لدى شريحة كبيرة من الجمهور العربي سواءٌ عرفوا مصدره أم لا، خاصةً مقاطع الأكورديون المتراوحة بين الرومانسي والراقص بطابع محلي، مقطع القانون، ومقطع الكمنجات الأشبه بالتشيلّوهات.
في سبعينات وثمانينات القرن الماضي كانت الدراما الأردنية البدوية هي المنافس الأبرز للدراما المصريّة، واستقطبت أكبر النجوم العرب كـ يوسف شعبان وعبد الرحمن آل رشي. يعتبر هذا المسلسل مع وضحا وابن عجلان أكثر ما عاش من تلك الفترة، ويتفوق راس غليص بموال شارته المعروف باسم “تقول حمدة من حر ما جرى بها.”
ما يُميّز هذا الموّال يُظهر القصور في شارات المسلسلات البدويّة الحديثة. مع عودٍ فقط، تغني سلوى كلمات محمد ياسين بلحن سهيل عرفة، دون أي سعي لفخامة تتنافى والبساطة البدويّة، بأسلوب يُشعرك أنك غادرت بشكلٍ ما مكانك وأصبحت عند مدخل خيمة تُغني صاحبتها قصّتها. يصعُب تخيّل مدخل أفضل لمسلسل بدوي، خاصةً بعد تكثيف الأثر في الأداء واللحن عند المقطع الأخير: “خلّا لي واحد البيت طفلٍ صغيَّر / ويحن حنين وما يخلوج بواد بواد.”
موسيقى هذا المسلسل وشارته من أفضل ما أُلّف في تاريخ الدراما العربيّة، وأفضل ما وُزّع. بين الكمان والناي والتشيلّو والمزمار والأصوات البشريّة، يستلهم طارق الناصر موسيقاه من تنهُّدات ابن الوهّاج (بطل المسلسل) وصيحات فخره وأنّاته، مقدِّمًا ملحمة.
في القسم الأول من اللحن تُروى قصة أطلال مجدٍ عظيم على مقام النهاوند، يُغالبها الفخر بذكريات ذلك المجد في القسم الثاني البادئ بمقام النكريز بتحويلة عبقريّة لا هي سلسلة ولا هي حادّة، نقلة معلنة وجذأبة بالأجواء على أرضية كمنجات تعزف النغمة المشتركة بين النهاوند والنكريز، ثم بعد جولة بين النكريز والحجاز والعجم نعود إلى النهاوند بنبرة مأساويّة بين الكمنجات والتشيلّوهات والناي تُجهّز لنهاية مؤلمة للقصة التي سنشاهدها. في لحن الناصر خصوصية غير مسبوقة للفانتازيا التاريخيّة، استطاع وليد الهشيم الاقتداء بها في موسيقاه لـ البواسل، في حين افتقد ما قدمه سعد الحسيني في الفوارس لها رغم جمال ما قدّم.
رسّخ هذا المسلسل سمعة السوريين في الدراما التاريخية في الوطن العربي، وبدأ سلسلة اكتسبت بها قصة ابن الوهاج مكانةَ قصص الزير سالم وعنترة وأبو زيد الهلالي عند السوريين، دون امتلاكه بأسهم وفروسيّتهم، لكن بحمل قصته ثقلَ الزمن وتقلباته.
https://www.youtube.com/watch?v=0g7W27cBZWI
محمد خوجلي مصطفى من أبرز الكتاب السودانيين في التلفزيون والمسرح والمسلسلات الإذاعية. بين كثيرٍ من نجاحات خوجلي في الإذاعة بقي مسلسل وادي أم سدر المذاع عام ١٩٨٣ بصمته الأبرز، ما دفعه لنقله إلى التلفزيون بعد ثلاث سنوات ليحقق نجاحًا أكبر ويُعتبر دليلًا على مرحلةٍ كانت فيها الدراما السودانية منافسة مهمة فنيًّا.
يصعُب اليوم الحصول على حلقات المسلسل، لكن شارته شاهدة على قدرٍ كبير من الجمال في الصوت والصورة، بلهجة الكلمات القرويّة غير المتداولة كثيرًا اليوم، والتي تمنح الأغنية خصوصيّة ووقعًا محبّبَين، أفاد منهما محمد آدم المنصوري لتقديم لحن كترنيمةٍ للأجداد يُغنّيها الرُّحَّل في الصحراء. رغم أن أصوات آلاتٍ كالربابة ستقفز إلى الذهن في أجواء كهذه، إلا أن اللحن معتمد على الكمان والعود بشكل رئيسي، ويزيد وضوحهما في اللازمة البديعة في الثانية ١:١٤، دون أي إحساس بغرابة صوت الكمان في هذه الأجواء أو الحاجة لأي آلة أُخرى.
تعذّر العثور على اسم المغنية والمغني، كما سيتعذّر إخراج صدى صوتيهما من رأس كل من يسمعهما، خاصةً في مقطع:
“وانت شن رجّف قليبك / غير مقافاة الرحل
خلالك الصي اليحولقن / فوقو صقار السهل”
رغم أن اسم المسلسل الصادر عام ٢٠٠٠ وحده كافٍ لإغراء عمار الشريعي بالذهاب مع ميله الأوركسترالي بعيدًا، بل وتُنبئ نفخيّات المقدّمة بأنه بالفعل رضخ للإغراء، إلا أنه فعل هنا ما فعله عمر خيرت في غوايش، قدم مزيجًا متوازنًا بين الوتريات الشريعيّة الدراميّة، لمحات الهارموني والبوليفوني، والخفة والروقان التي يتطلبها الحديث عن بطل المسلسل سيد أوبرا، الموصوف بكلمات سيد حجاب على أنه “زي جميع الاسكندارنية / نفسه غنية وصافي النية / وحنانه يساع البشرية”، مع مقاطع أوبراليّة بصوت الكورال وعفاف راضي بعيدة عن الإقحام أو ادعاء الفخامة، بل تضيف لظرافة الأغنية التي تستمر طوال دقائقها الخمسة، الطويلة نسبيًّا.