.
يمكن للمتتبع مسيرة سميرة سعيد أن يلحظ التقلبات التي مرت بها أغنيتها، فهي بدأت في ظلال ملحنين كبار مثل عبد النبي الجيراري وبليغ حمدي ومحمد سلطان ومحمد الموجي وحلمي بكر، في أغانٍ مثل إيش جاب لجاب وعلمناه الحب وغيرها، قبل أن تنتقل إلى الخليج لتكون أول مطربة عربية تدشن ألبومًا خليجيًا، حيث تعاونت مع طلال مداح ثم عبادي الجوهر وعبد الرب إدريس.
واصلت بعد ذلك التحول تساوقًا مع الذوق الشاب. لذلك يمكن للمراقب أن يقيس مسافة طويلة بين أغنياتها الأولى الطربية مثل الدنيا كده، وأغنياتها الأخيرة التي تتربع على قمة قوائم البوب. يرى دارسون كثر، من بينهم الموزع الموسيقي محمد عزام، هذه القدرة على المجاراة تفوقًا، وقد عبر عن رأيه هذا في تقرير عُرِضَ في برنامج الحكم خلال حلقة استضافت سميرة سعيد. أرى بدوري أن هذا التفوق احتاج شجاعة كبيرة، فكثيرون من جيلها ظلوا ملتصقين بلونهم القديم، ما حدا بهم إلى استنساخ أغنيات جديدة من القديمة توسلًا لنجاح غالبًا لم يتحقق. مكنت هذه المعادلة الصعبة الديفا من إطالة عمرها وهيمنتها الفنيَّين. بالنظر إلى مسيرتها الطويلة وتقدمها في العمر نسبيًا، لا بد من التساؤل إلى أي حد ستكون المخضرمة سعيد قادرة على الجري لمواكبة التيار، دون أن تضيق أنفاسها وتنقطع؟
تجيب سميرة سعيد على هذا السؤال من خلال ألبومها الأخير. نجد في العنوان، عايزة أعيش، إصرارًا على البقاء في قلب المشهد، والنجاة من الغرق، المتمثلة في غلاف الألبوم الذي تظهر فيه الفنانة واقفة في البحر. هذه الإشارات كانت ستكون فارغة من معناها لو لم يكن مضمون الألبوم قادرًا على تَمَثُّلها وإحرازها بصورة مقنعة.
تضمن الألبوم، الذي باع ٢٠٠ ألف نسخة في أسبوعه الأول بحسب مجلة لها، ١٢ أغنية من أصناف موسيقية مختلفة، ساهم بها عدد من الملحنين والموزعين وشعراء الأغنية. تنوعت المواضيع والثيمات، وأساليب التلحين والتوزيع والمزج، وكان اللافت في كل ذلك براعة سعيد في تقمص شخصيات متعددة كل مرة بما يتوافق مع الأغنية، فمرة ظهرت بصورة السيدة المتماسكة بعد الفراق، ومرة أخرى ظهرت بصورة المرأة الشرسة التي تعرف كيف تدافع عن حقوقها بالكامل، ومرة ثالثة بصورة المرأة المكسورة والمخذولة، ورابعة بصورة العاشقة الشقيّة التي تجعل الحب عنوانًا لكل حماقة وسعادة معًا.
يظهر في أغنية هوا هوا التي تفتتح الألبوم، والتي جاءت على مقام الكورد، تأثرًا واضحًا بموسيقى هاوس مبنية على إيقاعات شرقية، تلائم الكلام الذي يصف حالة حب مفاجئة:
“أنا مكنش في مخططاتي يكون هو سبب انبساطي
الله الله إيه الجمال ده
الحياه احلوت إمتىسحرتني وفي يوم وليلة
بقيت شايفة الدنيا جميلة
الله الله إيه الجمال ده
الحياه احلوت إمتى
هوا هوا هوا هوا
هوا ملا قلبي وملا عيني هواه”
أما الأغنية التي حمل الألبوم عنوانها، فهي اجتراح جديد في الغناء العربي، ولعلها من أجمل تجارب البوب العربي في الترانس، ففي هذه الأغنية التي كتبها ولحنها محمود العسيلي ووزعها علي فتح الله، يمكن ملاحظة ضربات الإيقاع التي تصل سرعتها إلى ١٢٠ ضربة في الدقيقة الواحدة، مما يفرض تحديًا فيما يتعلق بالغناء بالعربي. كذلك كان هناك تحدٍ أمام الشاعر في اختيار الموضوع الملائم لهذا الطقس المفاجئ والرتيب في آن. في تقديري، لو لم يكن الشاعر هو الملحن ذاته، لما نجح في صناعة هذه التوليفة التي تطلبت على ما يبدو جهدًا مزاجيًا أبدع الموزع في مواءمته.
“كأني عايشة من غير أمان
في أوضة كبيرة مالهاش باب
ملل خانقلي حياتي زهق فوق أي احتمال
أنا عايزة أعيش زعل مفيش
وكفاية خلاص تعبانة ليه
كآبة ليه أنا عايزة أطير فوق السحاب
هستنى إيه”
في أغنية إنسانة مسؤولة تستشرس سميرة سعيد لتخلص حقوقها من يد رجل شرقي طاغية، يلغي دورها وكيانها:
“أنا مش كتاب تقراه وترجع تحبسه جوه الدولاب
أنا مش رسمة ع الحيطة
مش حاجة في الأوضة عشان تقفل عليها
أنا مش خزنة تحرسها ولا قطة هتحبسها
بحجة خوف مالوش أسباب
أنا إنسانة مسؤولة
مش هقبل أكون متراقبة طول الوقت
لأني قادرة بسهولة أراقب نفسي من غير وصاية حد”
اختار شريف قطة لهذه الكلمات لحن جاز، ووظف قطة بذكاء الميل الاحتجاجي لهذا الصنف، بينما وزع أحمد رجب الأغنية بطريقة تنسجم مع اللحن حيث استخدم صوت سميرة بعد مزجه كآلة موسيقية، كأنه يصور رفضها على لسان النغم أيضًا. في نهاية كل جملة، يكرر صوتها الممزوج بالموسيقى آخر كلمة، كأنه يعيد التأكيد على موقفها، كما أن أصداء صوتها في اللازمة تفرض حضورها طوال الأغنية، كصورة من صور تأكيد الوجود، والدور الكامل والريادي الذي تستطيع المرأة أن تأخذه.
لم يخلُ الألبوم من أغنيات السوق، اللون التجاري العادي. باستخدام مقام النهاوند والإيقاعات الرومانسية التي تمتزج مع البيانو والجيتار، مثل أيوة تغيرت كلمات عصام حسني وألحان شريف إسماعيل وتوزيع محمد مصطفى، وما أضمنش نفسي كلمات نادر عبد الله وألحان وليد سعد وتوزيع طارق عبد الجابر، واحتمال وارد كلمات وألحان نادر عبد الله وتوزيع طارق عبد الجابر. أضعفت هذه الأغنيات الألبوم إذ أنها لم تضف جديدًا على مستوى اللحن والتوزيع، كما أنها تشابهت فيما بينها.
في أغنية يا لطيف، تمكن الملحن بلال سرور بالتعاون مع الموزع هاني يعقوب من تقعيد كلمات شادي نور على موسيقي الدبستِب، وهذا أيضًا من التجارب النادرة والمحببة على مستوى الأغنية العربية، كما أن دلال سميرة سعيد منح الأغنية لطافة جذابة.
“أيوه باين على وشك إني أضعف وأحن
صوتك في وداني وبيرن يا لطيف يا لطيف
دق القلب وما بالك لو دق القلب
سهرانة بفكر على جنب وبنام تخاطيف
ده أنا كنت قربت أنسى الإحساس الحلو اللي حساه
إنت اللي أثبتلي إنه في الدنيا ناس حلوة لسه
ده أنا كنت قربت أنسى الإحساس الحلو اللي حساه
جيت فجأه شغلتلي قلبي خرجت كل اللي حبساه.”
جرالك إيه هي محاولة موفقة للدمج بين الميلوديك هاردكور والدبستِب، قام بها الملحن والموزع محمد عزام. التجربة منسابة ولائقة، خصوصًا بالنظر إلى كلماتها التي تعاتب بقوّة وزهو. أما أغنية أوقات كتير، كلمات بهاء الدين محمد وألحان محمود العسيلي وتوزيع أمير هداية، فجاءت على مقام العجم الذي افتقدناه في الفترة الأخيرة، ربما بسبب الانتشار المهول للستايل التركي الذي يعتمد غالبًا على مقامي الكورد والنهاوند، واللذين ينسجمان في حالات عديدة مع مقام الحجاز، الأمر الذي يبرر حضوره في مجمل الأغاني الجديدة. ساعد الإيقاع البلدي مقامَ العجم في هذه الأغنية على إنتاج البهجة، وامتازت هذه الأغنية بجرأة في التجريب بالكلمات، والقدرة على توصيف مشهد عادي بشكل غير عادي:
“أوقات كتير وإنت معايا بفكر فيك
وأقعد كده اتأملك فرحانة بيك
وأفضل أراقب كل تصرف ولا حركة
وأنا مبسوطة وباهتمام ميبانش ليك
وإنت بتقرا وإنت بتشرب فنجان شاي
وإنت بتاكل وإنت رايح وإنت جاي
وبتبقى فرصة وإنت مركز أوي مع حاجة
بقعد كده أتفرج عليك.”
اختتمت الألبوم أغنية حب، كلمات وألحان محمد رحيم وتوزيع مينو، جاءت الأغنية معتمدة على الكولد جاز، وهو الصورة البرجوازية للجاز. يتواءم هذا اللحن بشكل لائق مع الكلمات التي ترسم شخصية امرأة متعالية، وجدت حب حياتها الذي بدأ يسيطر على أوقاتها بكل المعاني الإيجابية للأمر.
المبهر في الألبوم، ليس تنوع الموسيقى إنما قدرة سعيد على إتقان كل هذه الألوان. هناك شخصيات صوتية عديدة احتاجها الألبوم لتأخذ الأغنيات حقها، تمكنت سميرة سعيد من التعامل معها بمساواة وعدل مدروس، فلولا أننا نعرف خامة صوتها جيدًا لما عرفنا أن كل هذه الأغاني لمطربة واحدة، المطربة التي عاشت عمرها الفني في المسافة اللونية الطويلة الفاصلة بين أغنياتها الأولى وآخر إنتاجاتها.