.
قليل من سمع باسم أمين بك المهدي، وأقل القليل من أتيحت لهم فرصة الاستماع والاستمتاع بتسجيلات العزف المنفرد التي وصلتنا لأحد أهم عازفي العود الأفذاذ على الأسطوانات الحجرية ذوات ٧٨ لفة. ربما كان السبب الأساسي وراء ذلك أن فن العود المصري خلال النصف الأول من القرن العشرين، وما سبقه من إرهاصات، لم يحظ بوافر الحظ من الدراسة والتحليل والنشر مقارنة بفنون الغناء، ولعل الإصدار الذي أطلقته مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية بمناسبة خمسينية وفاة سلطان العود محمد القصبجي عام ٢٠١٦ هو الأول من نوعه ونتمنى أن تعقبه إصدارات أخرى.
فيما يلي نلقي بعض الضوء على عازفي العود في مصر خلال عصر النهضة بشكل عام، ونعرف بهذا العازف الفذ بشكل خاص.
“وقد اعتنى أهل مصر بالعود زيادة عن غيره من الآلات حتى أن أمراءهم وأكابرهم يتعلمونه لحظ أنفسهم وتتميمًا لمتنزهاتهم واستجماعًا لأنواع مسراتهم، وهذا لا يخلّ بمروءتهم فقد غنى به كثير من الخلفاء كاليزيد بن عبد الملك ومسلمة بن عبد الملك وإبراهيم بن المهدي وقد رزق من حسن الصوت وتمام هذه الصناعة وقد كان في درجة الأئمة في العلوم الشرعية وغيرها وأبو عيسى بن الرشيد وعبد الله بن موسى الهادي وإبراهيم بن عيسى بن جعفر المنصور ومحمد بن جعفر والمقتدر والمتوكل مع ما كان عليه من عظم الخلافة وقد رزق من ذلك حظوة عظيمة حتى أشرقت على الدنيا إشراق الشمس وكذا المهدي وولد المؤيد وطلحة الموفق والطايع والمقتدر رحمة الله عليهم أجمعين” (كامل الخلعي، الموسيقى الشرقي، ١٩٠٦/١٩٠٤).
على الرغم من إسهاب المستشرقين بدءًا من الحملة الفرنسية (١٧٩٨ –١٨٠١) وحتى منتصف القرن التاسع عشر في وصف الآلات الموسيقية وخوضهم في النظريات إلا أنهم لم يذكروا اسم صانع آلات موسيقية أو موسيقي واحد. بما في ذلك من ساعدوهم على تدوين بعض الأغاني أو من صناع الآلات التي اقتنوها ويقبع معظمها اليوم في متاحف العالم المختلفة أو ضمن المقتنيات الخاصة. كما لم تسهم كتابات ميخائيل مشاقة أو عبد الحميد بك نافع تعد الرسالة التي أفردها عبد الحميد بك نافع لصناعة آلتي القانون والعود المصري السبعاوي وأحجامهما وطرق العزف عليهما أحد أهم وأندر الوثائق خلال القرن التاسع عشر. وقد أدرجها محمد كامل الخلعي كمرجع أساسي لصناعة وعزف تلك الآلتين في كتابه الموسيقى الشرقي وغيرهم في تعريفنا ببعضهم.
يبرز اسم العواد مصطفى الصيرفي المتوفى قبل ١٨٤٣ كأحد أشهر عازفي العود خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. ومن المرجح أنه كان في أوج شهرته وقت زيارة إدوارد لين وهوريو لمصر. يذكر الشيخ شهاب الدين في سفينة الملك ونفيسة الفلك انتهى من تأليفه يوم الثالث والعشرين من ذي القعدة ١٢٥٩ هجرية (١٥ ديسمبر ١٨٤٣) بعض أبيات المديح التي قيلت في هذا العواد الذي اقترن اسمه بالمطرب الشهير سليمان النحاس:
العُودُ أَشْرَفُ آلَةٍ … فَاسْمَعْ رَنِينَ الأَشْرَفِ
فَسَمَاعُهُ زَيْفٌ … إذَا لَمْ يُنْتَقَدْ بِالصَيْرَفِي
كذلك محمد شعبان (١٨٠٣–١٨٩٧) صاحب أشهر تخت في مصر إبان حكم محمد علي باشا. كان الريس شعبان مغنيًا وعازفًا ماهرًا على القانون والعود وهو أستاذ كلٍ من عبده الحامولي وداود حسني (١٨٧٠–١٩٣٧) صاحب أكبر قدر من تسجيلات التقاسيم على العود في مطلع القرن العشرين، حيث سجل حوالي عشر أسطوانات خلال الفترة ١٩١٣–١٩٢١، ويُلاحظ من تراجم كبار الموسيقيين في هذا العصر أن عددًا من عازفي العود تخرجوا، خلال الطور الأول من التعلم على الأقل، على يد عازفي القانون أو العكس. حدث ذلك مثلًا مع أحمد الليثي ومحمد العقاد الكبير. ويعرف هذا النهج بطريقة “السمع” الذي يخالف طريقة “الأصبع” التي تعتمد بشكل أساسي على البصر بجوار السمع. كذلك كان معظم الموسيقيين يتخرجون على أكثر من أستاذ كل حسب تخصصه.
أما مشاهير فن العود خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين فنذكر منهم الحاج سيد السويسي الذي وصلنا عددٌ من تسجيلاته، الحاج حسن بيرم العواد كان زوج المطربة الشهيرة الحاجة سيدة السويسية وأستاذها ووالد محمد حسن السويسي عازف القانون.، الشيخ علي القصبجي (١٨٥٤–١٩٢٤)، إبراهيم القباني (١٨٥٢–١٩٢٧) وأحمد أفندي الليثي (١٨١٦–١٩١٣) الذي أجمعت المصادر على أنه كان أعظم أهل عصره ولقب بأمير العود. ويقترن اسمه دومًا بالعازف محمود أفندي الجمركشي. كتب عنه محمد كامل الخلعي في مطلع القرن الماضي: “له في ضربه فنون مطربة وذلك لخفة أنامله على أوتاره وحسن حركاته“. وتلامذة الليثي كثيرون لكن أشهرهم كامل بك رشدي (من مواليد القاهرة عام ١٨٧٩) وإبراهيم أفندي المصري (الحلبي المولد) الذي هاجر واستقر في تركيا. كما كان العواد الهاوي حسين باشا السيوفي من تلامذته.
اشتهر الليثي أيضًا بقدرته على مصاحبة عبده الحامولي في كافة انتقالاته المقامية أثناء الارتجال وبقدرته الفائقة على التصوير أي عزف أي مقام من مراكز غير مألوفة مما يستلزم أوضاع عزفية ومسارات أصابع معقدة. وقد تفوق في ذلك على عازفي القانون الذين عملوا بجانبه على تخت الحامولي. كما اشتهر بإكثاره من استخدم تقنية البصم المميزة للمدرسة المصرية وينسبها البعض له. وتجدر الإشارة هنا الى أن تعريف البصم الذي أدرجه كريستيان بوخيه في معجم الجروف الموسيقي (مادة العود) غير دقيق، وزعمه أن صديقه عازف العود العراقي منير بشير (١٩٢٨–١٩٩٧) قام بتطوير تلك التقنية مستخدمًا كلتا اليدين في تحقيقه عار من الصحة. والمدقق في الصورة التي أوردها بوخيه لمنير بشير يرى أنه يعزف ما يعرف بالنغمات التآلفية المصاحبة Les sons harmoniques. الناتجة عن جواب جواب الوتر ولا علاقة لها بالبصم من قريب أو من بعيد. والبصم هو استخدام أصابع اليد اليسرى، بجانب العفق، في توليد النغمات بالتبادل مع حركتي المضراب أو الريشة المسميين بالصد والرد. بالتالي تقفز احتمالات التفاعيل الثنائية والثلاثية والرباعية المتولدة من حركتي الصد والرد فقط من ٢٨ تفعيلة، يستخدم منهم ١٦، إلى ١١٧ بإضافة البصم. وقد تناولنا هذا الأمر في موضع آخر.
هناك أيضًا منصور أفندي عوض (١٨٨٠–١٩٥٤) صاحب ومؤسس المدرسة الأهلية للموسيقى بحي الظاهر عام ١٩٠٧ مع تلميذه وصديقه سامي أفندي الشوا (١٨٨٥–١٩٩٦٥) والتي استمرت حتى مطلع العشرينات كانت المدرسة تشترط تعلم التدوين الموسيقي وبعض نظريات الأنغام والأوزان. كما حرصت على تقديم محاضرات موسيقية أسبوعية. كما وردتنا شهادات مختلفة من بعض كبار العازفين وعلى رأسهم أمير الكمان سامي الشوا كان سامي الشوا أيضًا عازفًا ماهرًا على آلة العود وله بعض تسجيلات التقاسيم عن براعة سيد درويش (١٨٩٢–١٩٢٣) في العزف على العود وإتقانه لعزف البشارف التي كانت تمثل اختبارًا حقيقيًا لقدرات أي عازف خلال تلك الحقبة. ولا شك أن مصاحبة الغناء والارتجال تستلزم معرفة موسيقية معمقة خاصة في القوالب التي تعتمد على الارتجال بشكل كبير كالقصيدة والدور الذي يحتاج أيضًا الى بطانة (كورس). وقد برع كارم محمود (١٩٢٢–١٩٩٥) في مصاحبة نفسه على العود في أداء الأدوار منفردًا. ولعل أبرز مثال على ذلك هو تسجيله لدور ياللي قوامك يعجبني الذي يعد أول دور لحنه سيد درويش وكان وقتها في العشرين من عمره.
أما العازف جمعة سرحان المولود بدمياط عام ١٨٧٩ فقد لازم كبار الموسيقيين من أمثال محمد عثمان والشيخ يوسف المنيلاوي وأحمد الليثي وانتقل إلى دمشق عام ١٩١٨ واشتغل في المسارح الكبيرة ثم تنقل بين العراق وفلسطين وإسطانبول محترفًا قبل أن يستقر به المطاف في دمشق من جديد. كما تخبرنا المصادر عن عازف العود البارع مصطفى العقاد الكبير وأشهر تلاميذه ابنه عازف القانون الشهير محمد العقاد الكبير. وعن قسطندي خياط الذي تخرج على يده عازف العود والملحن إبراهيم شفيق (١٨٩٦–١٩٦٦) مؤسس معهد الاتحاد الموسيقي عام ١٩٣٤ أشهر خريجي معهد الاتحاد الموسيقي من العوادين هما جمعة محمد علي (١٩٢٤-١٩٧٥) الذي أصبح مدرسًا به عقب تخرجه وروحي الخماش (الفلسطيني الأصل) الذي درس بالتوازي في معهد الموسيقى الملكي . وعن محمد زكي الشبيني العواد الذي أسس بدوره معهدين للموسيقى في طنطا والإسكندرية عام ١٩٣٣.
من بين أشهر صناع الثلث الأخير من القرن التاسع عشر يبرز اسم المعلم حنفي الكيال أو حنفي الشهير كما اعتاد محمد كامل الخلعي واسكندر شلفون علي تلقيبه. وربما أسهم هذا الصانع الفذ في إرساء قياسات العود المصري المميز لتلك الحقبة بأحجامه الثلاثة (الكبير، المتوسط والصغير) كما يستدل من حديث شلفون عنه. كتب إسكندر شلفون في عام ١٩٢١ في معرض تعليقه على رسمه لعنق العود ومواضع النغمات عليه:
“وقد توخينا التدقيق والإمعان في وضع هذا الرسم. واتخذنا مثالًا وقياسًا لوضعه عودًا من أحسن العيدان وأدقها صنعًا صناعة المرحوم الأستاذ حنفي الكيال الذي كان في حياته أشهر وأنبغ صانع للعود بل الذي وضع للعود أدق المقاييس وأحسن الأشكال وأصلح النسب والأحجام. بل الذي ساوي في الشرق ستراديفاريوس الإيطالي في الغرب“.
ويبدو أن حنفي الكيال كان يحظى برعاية الخديوي حيث أنه الوحيد الذي كان يزين وجه أعواده بالتاج والهلال. وأكبر دليل على أهمية هذا الصانع وعلو قدره أن العود المصري المرجعي الذي يظهر بين يدي صفر بك علي في كاتالوج الصور المصاحب لإصدار مؤتمر الموسيقى العربية بالقاهرة عام ١٩٣٢ كان من صنعه. كما يحتفظ معهد الموسيقى العربية برمسيس بعودين لهذا الصانع الفذ وكلاهما سبعاوي. وقد خلط أحد الجهلاء المتطفلين بينه وبين صانع آخر يدعى حنفي محمد.
على ضوء الأعواد الأصلية التي وصلتنا يمكن ملاحظة التاج على ملصق بعض أعواد رفلة أرازي بدءًا من عام ١٩٠٩. وقد اعتبره محمد كامل الخلعي في مطلع القرن العشرين خليفة المرحوم المعلم حنفي الشهير. وأحد أهم أعواد رفلة أرازي الباقية هو العود الذي صنعه لسيد درويش بعد عودته من رحلته الأولى للشام والذي تم الانتهاء منه في شهر أكتوبر عام ١٩١٠. وهو من الحجم الكبير الذي يبلغ طول وتره ٦٤ سم. وخلال حقبة السلطنة يلاحظ التاج مزينًا الشمسية الوسطى لبعض أعواد هذا الصانع الذي اشتهر أيضًا بصناعة القوانين (صورة رقم ٣).
كما يعد عبد العزيز الليثي، نعمان راهبة، محمود علي ومحمد الحفناوي الكبير حصل محمد الحفناوي عام ١٩٢٦ على ميدالية المعرض الزراعي الصناعي الذي أقيم بالقاهرة في مجال آلات الطرب ويبدو أن محمود علي حصل عليها لاحقًا وخليل الجوهري من كبار الصناع خلال النصف الأول من القرن العشرين.
لا نعلم عن حياة أمين المهدي وفنه إلا القليل اليسير. بخلاف الترجمة المقتضبة التي خصصها له قسطندي رزق نقلها زين نصار باقتضاب في موسوعة الموسيقى والغناء في مصر في القرن العشرين لا نجد إلا شهادات متفرقة متأخرة امتزجت فيها الانطباعات الشخصية والخيال بالهزل والعبث لعل أكثرها فجاجة هو ما كتبه عنه الفنان التشكيلي حسن سليمان في 'صورة قلمية لعازف عود'. وهي صورة مشوهة تصلح قصة لأحد الأفلام السينمائية ركيكة المستوى.
ولد أمين محمد العباسي المهدي في القاهرة عام ١٨٩٥ وينحدر من أسرة عريقة أجلها من علماء الدين الأعيان. جده الشيخ محمد المهدي العباسي (١٨٢٧–١٨٩٧) الذي أسهب الجبرتي وأحمد تيمور باشا وغيرهما في ترجمته، كان أحد أعلام الفكر الإسلامي الحديث خلال القرن التاسع عشر وأول من جمع بين منصبي الإفتاء (بعد والده الشيخ محمد أمين) ومشيخة الأزهر هو الشيخ الحادي والعشرون للأزهر. وله مؤلف شهير يدعى الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية طبع في مصر عام ١٣٠١ هجريًا ويتكون من ثمانية أجزاء كبار.
وقد قام الشيخ العلامة الملا عثمان الموصلي (١٨٥٤–١٩٢٣) قارئ وشاعر وعالم متبحر في الموسيقى. أخذ عنه كامل الخلعي الموشحات الشامية والتركية (الموسيقى الشرقي، مكتبة مدبولي، ٢٠٠٠، ص ٩٢-٩٣)، كما أخذ عنه سيد درويش الذي التقاه خلال جولته في الشام نزيل القاهرة آنذاك بجمع ما كتبه الشعراء فيه وفي غيره من المشايخ الذين توفوا في نفس السنة من رثاء في رسالته المسماة المراثي الموصلية في العلماء المصرية. أما عن جد الشيخ محمد المهدي (المهدي الكبير) فقد كان قبطيًا. كتب أحمد تيمور أنه: “أسلم على يد الشيخ العلامة محمد الحفني، وقرأ عليه وعلى أخيه الشيخ يوسف الحفني وغيرهما حتى صار من كبار العلماء وترشح لرئاسة الأزهر بعد الشيخ الشرقاوي، ولكنها لم تتم له وتولاها الشيخ الشنواني“.
يحسب للشيخ الجليل محمد المهدي العباسي أنه كان من استصدر قانون الامتحان لطلبة الأزهر خلال عصر إسماعيل باشا. واللافت للانتباه أن هذا الامتحان كان شبيه إلى حد ما بامتحان “التحزيم“ كان الممتحن يتقدم إلى شيخ الطائفة فيجمع له الشيخ هيئة ممتحنة فإذا جاز الامتحان استقبلوه بكلمة يستاهل ثم يحزمونه دليلًا على النجاح كما ذكر محمود الحفني الذي كان يجريه شيخ طائفة الموسيقيين ومساعديه والذي ظل سائدًا حتى أواخر القرن التاسع عشر في مصر تناول محمود أحمد الحفني موضوع شيخ الطائفة من خلال مقالتين نشرا تباعًا في العددين الخامس والسادس من مجلة الموسيقى. كان الترخيص لمن يرغب احتراف الغناء أخص مهام شيخ الطائفة يعد عازف القانون أحمد أفندي خطاب الذي عمل على تخت الحامولي ومحمد عثمان هو آخر من شغل هذا المنصب في مدينة القاهرة وحمل لقب الشيخ. وقد كان معلمًا للموسيقى وآلة القانون في دائرة الأميرة نظلة هانم ودائرة الأمير حسين (الذي أصبح سلطانًا) ودائرة الخديوي توفيق باشا من خلال تقليد “الامتحان” ضارب الجذور في التقاليد الموسيقية العربية كما يتبين من مؤلفات كل من ابن الطحان (حاوي الفنون وسلوة المحزون) وحسن الكاتب (كمال أدب الغناء) وكامل الخلعي (الموسيقى الشرقي). وتخبرنا المصادر أن نظام المشيخة الموسيقية كان معروفًا في مصر منذ حقبة سلاطين المماليك وكان يعرف بضمان المغاني.
أغلب الظن أن أمين بك المهدي كان حاصلًا على البكوية من الدرجة الثانية التي كانت تمنح لكبار موظفي الدولة وللأعيان الذين قدموا خدمات للبلاد. وكان يُقدم في الأسطوانات المسجلة عام ١٩٢٧ بأمين بك المهدي، أما خلال عصر الإذاعة ووصلات العزف المنفرد فكان يقدم كعازف العود صاحب العزة السيد أمين المهدي بك.
تعلق أمين المهدي بالموسيقى منذ الصغر وتعلمها علي يد كبار أساتذة عصره. تلقى أصول الموسيقى والأوزان والضروب من محمد عبد الله بك رشيد العواد الهاوي ومحمد أفندي أيوب ثم تخرج بعدها علي يد محمد كامل الخلعي (١٨٧٩–١٩٣٨) كما أخذ بعض الموشحات عن الشيخ درويش محمد الحريري وعلي أحمد صادق.
قال عنه قسطندي رزق:
“يجيد العزف على آلة العود أيما إجادة وهو حلو البنان وقد انطبع على لوح حافظته خمسون قطعة ونيف من بشارف وموشحات وسماعيات تلقنها بالسماع من الأساتذة المذكورين آنفًا دون أن يلجأ إلى العلامات “النوتة” مما جعل الأستاذين محمد عبد الوهاب وصالح عبد الحي والآنسة أم كلثوم يعجبون به ويستغربون على حد ما حصل لكل من المرحومين إبراهيم القباني وداود حسني ومن في طبقتهما وقد عينه المعهد الملكي للموسيقى العربية مدرسًا للطلبة وتكلف محطة الإذاعة من حين لآخر بمزاولة العزف الخماسي له المكون من إبراهيم العريان القانونجي وجرجس سعد النافخ في الناي وأحمد العريان الكماني ومصطفى العقاد الرقاق لم يكن خماسي المهدي هو التخت الوحيد في الإذاعة المصرية، فلقد كانت هناك فرق أخرى منها التخت الشرقي بقيادة عازف العود عبد العزيز محمد. ناهيك بتقاسيمه الساحرة التي تنطق بسعة رأس ماله من بضاعة هذا الفن الجميل وكأني به على صغر سنه من الواقفين شخصيًا على ما كان لعبده الحامولي وأضرابه من روح وبديع الغناء وحيلة ودهاء في التصرف” (قسطندي رزق، الجزء الثاني، ص: ١٥٥–١٥٦).
والمرجح أن المهدي كان يحفظ عددًا أكبر بكثير من المقطوعات والألحان مما ذكره قسطندي رزق. فقد وردنا مثلًا أن صفر بك علي تلقى مائة وخمسين موشحًا على يد الشيخ درويش الحريري. بالإضافة للموشحات والبشارف والسماعيات، كان المهدي يحفظ بعض أدوار عبده الحامولي ومحمد عثمان (١٨٥٥–١٩٠٠) وقصائد الشيخ سلامة حجازي.
كان أمين المهدي معروفًا لأوساط الفنانين حيث كانت داره بباب الخلق منتدىً فنيًا يحضره كبار الموسيقيين والأدباء. كذلك كان قبله موسى بك صادق: “الذي كان له في ضرب العود القدح المعلى” حسب قول إسكندر شلفون. وقد شارك المهدي رسميًا في العملية التعليمية منذ عام ١٩٢٦ ومن أهم تلامذته وأكثر المتحيزين لفنه الأستاذ الراحل عبد المنعم عرفة (١٩١٦–٢٠١٥) ولد عبد المنعم عرفة بالقاهرة في فبراير من عام ١٩١٦. توفي والده وهو في الخامسة من عمره. عشق الموسيقى وحفظ الأناشيد منذ الصغر الأمر الذي أدى لاختياره للانضمام للمعهد الملكي للموسيقى ضمن أول دفعة، وضمت اللجنة التي اختبرته كلًا من مصطفى بك رضا وحسن بك أنور والموسيقار محمد عبد الوهاب. درس العود على أمين المهدي والقصبجي وصفر بك علي الذي درسه أيضًا القواعد الشرقية وعلم تحليل الأنغام. أخذ الهارموني عن الأستاذ كوستاكي والموشحات على يد الشيخ درويش الحريري والأدوار على يد محمود رحمي وتاريخ الموسيقى على محمود أحمد الحفني. تخرج عام ١٩٣٣ بدرجة جيد جدًا وعين مدرسًا بالمعهد في السنة اللاحقة. التحق بالتوازي بقسم التخصص في المعهد فمكث يدرس أربع سنوات إضافية. عين بعدها مفتشًا للموسيقى بوزارة المعارف وله عدد من المؤلفات الهامة مثل كتاب 'دراسة العود' مع صفر بك علي (١٩٤٤)، كتاب 'أستاذ الموسيقى العربية' عام ١٩٤٤، الألحان المختارة (١٩٤٥)، 'تاريخ أعلام الموسيقى الشرقية' (١٩٤٧). الذي التحق بالمعهد الملكي ضمن أول دفعة وهو في سن العاشرة وكان من أوائل خريجيه عام ١٩٣٣. وكذلك المؤلف عازف العود عبد الفتاح صبري الذي خلف القصبجي في فرقة أم كلثوم.
اختلف المهدي عن أقرانه من العازفين بكونه مؤديًا بحتًا وليس بملحن أو مؤلف موسيقي كصفر بك علي (١٨٨٤ – ١٩٦٢)، وقد تساوى في ذلك مع كامل بك رشدي وثلاثتهم من الهواة. كما أنه خاض تجربة التسجيل بعد تربع محمد القصبجي على عرش العود بلا منازع، في نفس الوقت الذي بزغ فيه اسم رياض السنباطي كعازف ماهر والعراقي عزوري هارون.
كان على الموسيقيين خلال الثلث الأول من القرن العشرين التعامل مع معوق كبير للإبداع والابتكار فرضه واقع الوسيط التسجيلي المتمثل في الأسطوانة ذات ٧٨ لفة التي لم تكن تسمح بأكثر من ثلاث إلى أربع دقائق على كل وجه ، إلى جانب ظروف التسجيل. لم يؤد هذا القيد الزمني إلى تجزئة الوصلة المصرية التي ارتكزت على الوحدة المقامية وتعدد القوالب والضروب الإيقاعية وثنائية الملحن والمرتجل فحسب، بل جزّأ أيضًا بعض عناصرها البنائية كالبشارف بأنواعها والسماعيات وأيضًا التقاسيم في بعض الأحيان. قيد ذلك الأداء والارتجال ووضع لهما حدودًا. كما استوجب تحضير مسبق يستلزم من أعضاء التخت القيام ببروفات لكل عمل لقياس مدته قبل التسجيل واختيار السرعة المناسبة ومكان للتوقف قبل تغيير الوجه إذا لزم الأمر. فإذا كان العمل طويلًا قُسم إلى جزئين أو تم عزفه بسرعة كبيرة أو اختصر. يمكننا على سبيل المثال ملاحظة ما يلي:
لم يحظَ أي عمل آلي بأكثر من أسطوانة وسبب ذلك اختصار بعض الأعمال مما أثر لاحقًا على التدوين الموسيقي لها، وأبرز مثال على ذلك هو البشرف المسمى بإسحاقي البياتي المؤلف على أطول ضرب إيقاعي المسمى بضرب فتح (١٧٦ ضربة في الدورة). فلم يسجل أو يدون منه لاحقًا إلا ثلاث خانات بدلًا من خمس كما يستدل من مجموعة قطع موسيقية شرقية لتوفيق صباغ (١٩٣٥) والموسوعة الموسيقية لعبد الرحمن جبقجي (١٩٨٣).
على الرغم من القيود التي فرضتها، والسياسات التجارية المعيبة لشركات الأسطوانات، سمحت الأسطوانة للموسيقي لأول مرة بسماع أدائه وألحانه وارتجاله وقتما شاء، واطلاعه على إنتاج أقرانه من معاصريه أو من أساتذة الجيل الأسبق من بلدان أخرى والتأثر بهم. بالتالي تحولت الأسطوانة إلى وسيلة تكميلية للتعلم وإحدى أهم وسائل التثاقف.
تخلص العازفون خلال عصر الإذاعة التي تم افتتاحها في ٣١ مايو عام ١٩٣٤ من القيد الزمني حيث كانت وصلات العود المنفرد وسواه من الآلات تمتد لحوالي خمس عشرة دقيقة. ومن أكثر العازفين الذين نقرأ أسماءهم في برامج الإذاعة المصرية: رياض السنباطي وصفر بك علي وكامل بك رشدي وأمين بك المهدي.
تشير التسجيلات الأولى لأهمية البشارف بأنواعها العديدة إلى جانب التقاسيم في الحياة الموسيقية المصرية وموسيقى التخت. كما تُظهر الإصدارات المتخصصة من كتب ومناهج أهميتهما في العملية التعليمية.
يرى إسكندر شلفون أن “الموسيقى العزفية مضمار كبير للقرائح وميدان فسيح لإظهار ضروب المهارة وفنون الإبداع” وقد وجه شلفون اللوم والعتاب لكبار الملحنين من أمثال كامل الخلعي، داود حسني وسيد درويش وإبراهيم القباني لعدم اهتمامهم بالبشارف في حين يستلزم تلحين الدور (الملقب بسيد السهرة) عدة أشهر في بعض الأحيان. كتب إسكندر شلفون في روضة البلابل:
“ولو فكر المؤلفون والملحنون في مصر قليلًا في البشارف ودرسوا قواعدها، ووضعوها موضع اهتمامهم لأمكن لهم بسهولة أن يتحفوا الموسيقى المصرية بالمدهش منها ولكنهم انصرفوا إلى تلحين (الطقاطيق) الساقطة والأدوار المملوءة بمعاني التصبب والتغزل والتأنث مما كان سببًا كبيرًا في أن يجعل كل الناس تعتبر الموسيقى كاعتبار مواد الملذات والملاهي وجعلها في الترتيب بين العوامل المحركة للشهوات وأسباب فساد الأخلاق.”
خصص الباحث محمود عجان في كتابه من تراثنا الموسيقي واحدة من أكمل الدراسات لصيغة البشرف اعتمد فيها على تحليل عدد كبير منها اشتملت البشارف التركية والعربية القديمة مجهولة المؤلف والمؤلفات العربية الأحدث. تناول عجان فيها بإسهاب: أنواع البشارف، المضمون اللحني والفني لصيغة البشرف، الإيقاع في البشرف والناحية النفسية في تأليف هذه الصيغة اللحنية. واستخلص ما يلي:
“[…] أن طريقة ترتيب الألحان في صيغة البشرف ليست موضوعة بطريقة عفوية أو اعتباطية بل هي موضوعة بعد دراسة طويلة علمية وفنية ونفسية واضحة، نلمس ذلك من تبويب المراحل اللحنية، وما يجب أن تتضمن خاناته من الشروط، في سيرها الخاص والعام من حيث عرض شخصية المقام ومن حيث الأصوات الطويلة أو القصيرة في مددها الزمنية، ومن حيث مناطق الأصوات الحادة والمنخفضة، ومن حيث الإثارة والهدوء، ومن حيث التركيز العلمي والتطريب المباشر وغير المباشر ووضع الترتيب اللازم أو اللائق في كل خانة من خاناته، ووظيفة التسليم، وربط كل هذه الإجراءات بعضها ببعض، ومراعاة المتانة والجمال في تماسك وحدة الموضوع، وغير ذلك من الملحوظات الكثيرة، التي قد لا ترد إلى ذهن المستمع للوهلة الأولى، لذلك أردنا التنويه.”
تتفق صيغة البشرف مع الموشحات في استخدام أوزان وضروب إيقاعية متعددة واللجوء للإيقاعات الطويلة والعرجاء في تأليفهم. واستمدت بعض صيغ البشارف أسماءها وتصنيفها من الأوزان التي ألفت عليها، فهناك بشرف المخمس، وبشرف الشنبر وبشرف المربع. كما تتحد بعض البشارف مع فن التقاسيم المقيدة بوزن إيقاعي التي تشبه التحميلة لكنها أكثر تعقيدًا. لذا يمثل البشرف بصيغه المتعددة امتحانًا رفيعًا لقدرات المؤلف والعازف. وقد كان محمد ذاكر بك (١٨٣٨–١٩٠٦) له عددٌ من المؤلفات النظرية الهامة منها منهج لآلة العود يدعى تحفة الموعود بتعليم العود المنشور في عام ١٩٠٣. وقد كتب أحدهم أن سيد درويش تعلم العود من خلال كتاب اسمه الأيام السود في تعليم العود ونسبه للشيخ الحريري وهذا عبث، من أوائل المؤلفين العرب الذين اهتموا بتأليفه، كذلك عازف العود السكندري محمد فخري (١٨٨٧–١٩٥١) وصفر بك علي ومنصور عوض والشيخ درويش الحريري والشيخ محمود صبح (١٨٩٨–١٩٤١).
ومن أشهر البشارف المصرية التي سجلت في مستهل عصر التسجيلات (١٩٠٣) بشرف شنبر حجاز وبشرف المربع البياتي وبشرف النظير المصري وجميعهم مجهولو المؤلف. والشنبر من الإيقاعات الطوال (٤٨ ضربة في الدورة) أما المربع يمكن الاستماع إلى موشح يا عذيب المرشف من ألحان سيد درويش الذي لحن على المربع (٤/١٣). فمن الإيقاعات العرجاء (١٣ ضربة في الدورة) . وقد كان شلفون من أكثر المتحمسين للبشارف المصرية، فكتب يقول:
“لا أقول أن بشرف مربع البياتي المصري أحسن من الإسحاقي البياتي الذي تعودنا أن نعزفه في فصولنا الموسيقية البياتية ولا أدعي أن بشرف شنبر الحجاز المصري أفخر من حجاز سالم بك أو الهمايون ولكني أقول فقط أن مربع البياتي مع صغره وبسيط عبارته يسلطن نغمة البيات في الأسماع بأقوى مما يسلطنها عشاق عثمان بك والإسحاقي. وكذلك شأن شنبر الحجاز. وما ذلك إلا لأن الموسيقى المصرية تتجلى فيها ورقتها تشع منها من خلال عباراتهما. ورشاقتها تتمثل في كل مقطع من مقاطعهما فليفقه لما أقول المؤلفون“، (روضة البلابل، السنة الثالثة، العدد السادس، ١٩٢٣، ص: ٢–٣) لا نعلم مدى دقة نسبة تلك البشارف لمؤلفين مصريين.
يتكون بشرف شنبر الحجاز من خانتين ألفت كل منهما على دورتين إيقاعيتين ولا يحتوي على تسليم. أما ما يميز بشرف النظير المصري فهو أن خاناته الأربعة غير متساوية من جهة عدد الدورات الإيقاعية. كما أن الخانة الثانية منه تضاف إلى الخانة الرابعة أي يعاد عزفها مرة أخرى بعد الخانة الرابعة مباشرة قبل الانتهاء بالتسليم.
من أشهر البشارف التي يتخللها تقاسيم نذكر بشرف قرة بطاق السيكاه الشهير المُسجل مرارًا وتكرارًا. كذلك بشرف اﻷليسبار الذي يتكون من مقدمة طويلة تدون على إيقاع الدويك (٤/٤) يعقبه تقسيم موقع على الوحدة (من مقام الجهاركاه) وينتهي بخانة تعزف بسرعة المارش وتدون على إيقاع ٤/٢. وهذا البشرف لا يحتوي على تسليم وكان من أوائل الأعمال التي سجلها تخت أوديون الذي كان يرأسه عازف العود الحاج سيد السويسي حوالي ١٩٠٤. كما أن عازف العود الهاوي كامل بك رشدي (رئيس القسم الفني بمصلحة الأحوال المدنية) سجله على أسطوانة بيضافون بمصاحبة عازف الكمان مصطفى ممتاز. ولدينا تسجيل منفرد لأمين المهدي وقد تحول القسم التقسيمي فيه إلى ما يشبه الرقصة حيث يدوم حوالي دقيقتين.
أما السماعي فيشبه البشرف التام بنائيًا ويختلف معه في الإيقاع المستخدم الذي منحه اسمه وهو السماعي الثقيل المكون من عشر ضربات. يتكون السماعي من أربع خانات يفصلهم لازمة تتكرر بعد كل خانة تعرف بالتسليم. كما أن الخانة الرابعة من السماعي تُألف عادة على إيقاعات من فصيلة السماعي العرجاء (سماعي دارج أو سنكين سماعي). إلا أن عددًا من المؤلفين استخدموا إيقاعات مختلفة على سبيل التجديد. ولعازف القانون إبراهيم العريان سماعيان من مقام البياتي لم يشتهر إلا أحدهما. وقد جاءت الخانة الرابعة من سماعي العريان غير المشهور على إيقاع الأقصاق (٨/٩). كما أن مصطفى بك رضا لديه سماعي من مقام السوزناك تنتهي خانته الرابعة بإيقاع الجورجينا (١٦/١٠). وهناك مؤلفات تنتمي لقالب آخر يعرف بالسماعي الدارج وأشهرها سماعي دارج بياتي ودارج راست.
ولا تزال السماعيات منشودة من قبل المؤدين والمؤلفين من عازفي العود رغم التغير الكبير الذي طرأ عليها بينما تراجع دور صيغة البشرف وتقلص دور الارتجال المقامي إلى حد كبير.
كما ازدهرت خلال العشرينات المؤلفات التي تنتمي لما يعرف بالموسيقى الوصفية: ” التي تمثل حوادث الطبيعة وسواها على اختلاف أنواعها. تلك الموسيقى التي يجب أن تكون خاضعة لقانون حسن التمثيل والتشبيه والوصف” حسب تعريف شلفون. ومن المقطوعات التي تنتمي لهذا النوع نذكر لقاء الحبيبين التي ألفها السنباطي وسجلها لشركة أوديون بمصاحبة عازف الكمان إسماعيل رأفت.
ظهر منذ مطلع السبعينات اهتمام بحثي كبير بتقاليد الارتجال الموسيقي وكانت الريادة في هذا المجال للباحثات ونخص منهن بالذكر سمحة الخولي وسلوى الشوان. أفردت سمحة الخولي بحثًا مميزًا هو “الارتجال وتقاليده في الموسيقى العربية“ سمحة الخولي، “الارتجال وتقاليده في الموسيقى العربية”، مجلة عالم الفكر (المجلد السادس، العدد الأول)، ١٩٧٥، ص ١٥-٣٢ المنشور بالعربية في مجلة عالم الفكر. وكان قد سبق لها تقديمه بالإنجليزية خلال المؤتمر الدولي للموسيقى بموسكو في أكتوبر عام ١٩٧١، واستعانت خلال المؤتمر بعدد من التسجيلات القديمة كان من بينها تقسيم بياتي لأمين المهدي. كما نشرت سلوى الشوان عدة أبحاث بالإنجليزية والفرنسية تمركزت حول نفس الأمر وقد حذرت من تراجع دوره في الحياة الموسيقية المعاصرة. ترى سمحة الخولي أن تناقل الموسيقى الشرقية بالتواتر الشفاهي كان عنصرًا حاسمًا في تطور القدرات الارتجالية وشددت على أهمية “المؤدي المبتكر” ودوره كقوة رئيسية دافعة وراء ارتقاء فن الارتجال في التقاليد الموسيقية المشرقية. كما رأت أن تقاليد الترتيل الديني المنغم تمثل صلب الارتجال في الموسيقى العربية حيث يمثل اللحن العنصر الأساسي.
كان لانتشار التدوين الموسيقي وظهور الفرق الموسيقية الكبيرة واختفاء التخت أثر كبير في تراجع فنون الارتجال. أدى ذلك لتبسيط اللحن والزخارف وتوحيد الأداء وتثبيت التفاصيل. كون التخت جماعة من العازفين المنفردين يحظى كلٌ منهم بقدر من الحرية في تأويل النص الموسيقي فينتج عن ذلك النسيج الهيتيروفوني المميز لأداء الموسيقى العربية.
تقسم سمحة الخولي الارتجال إلى ثلاثة أنواع رئيسية: أولًا، ارتجال اللفتات اللحنية الزخرفية للموسيقى المؤلفة، ثانيًا، القوالب والصيغ الموسيقية التي تعتمد على الارتجال أو التقاسيم على أساس بناء إيقاعي أو إيقاعي ولحني معًا، ثالثًا، الارتجال الحر (التقاسيم) الذي لا يلتزم بإيقاع معين. كتبت سمحة الخولي عن التقاسيم المرسلة:
“والواقع أن هذه التقاسيم بكل حريتها المنطلقة تمثل أرفع اختبار لبراعة العازف التقنية (في العزف على آلته) وأصعب امتحان لمعارفه النظرية (التي لا ترتبط حتمًا بإتقان قراءة النوتة)، فهو مطالب بأن يبتكر، عفو الخاطر، جملًا لحنية مقنعة وأن يتصرف فيها بالتحول من مقام لآخر تحويلات شيقة ومبتكرة، متجانسة أو متقابلة في طابعها النفسي، وهو مطالب بعد رحلته عبر المقامات أن يعود إلى المقام الأصلي عودًا مقنعاً ومحبوكًا، ولذلك تعد هذه التقاسيم بمثابة بحث مجرد في آفاق الجمال الرنيني الموسيقي، يستلهم فيها العازف نفس الروح التي تلهم الفنون التشكيلية الإسلامية في تقسيم كل فراغ –سواء كان حوائط المساجد أو الأبواب أو الطنافس أو أغلفة الكتب وغيرها– تقسيم كل فراغ إلى رسوم هندسية مجردة ومتداخلة، وهكذا يتحول فن الزخرفة إلى جزء لا يتجزأ من صميم تكوين هذا التقسيم للفراغ في الفنون التشكيلية الإسلامية، أو التقسيم للزمن في الفنون السمعية الموسيقية.”
كان أصعب التحديات هو تسجيل تقسيم مرسل واحد على وجهين، وقد خاض هذه التجربة كل من محمد القصبجي وكامل بك رشدي العواد الهاوي. كما مثل غياب الجمهور مشكلة أخرى وإن استعاضت شركات الأسطوانات عن هذا بوجود “المطيباتي” الذي كان يحفز العازفين ويعرف المستمع بهم.
كانت العشرينات عصرًا ذهبيًا لتسجيلات العزف المنفرد وأصبحت السماعيات جزءًا هامًا من تسجيلات العود بالإضافة إلى التقاسيم. ونذكر هنا مؤلفات كل من شحادة سعادة (سماعي بوسيلك) والشريف محي الدين حيدر (سماعي عراق) المُسجلين بالتزامن حوالي عام ١٩٢٥، حيث كانت الاستراتيجية المتبعة متشابهة وهي أن يحتوي الوجه الأول على تقسيم مرسل بينما يسجل السماعي كاملًا على الوجه الثاني. وقد سبقهما في ذلك المؤلف والعازف التركي الفذ جميل بك توفيق الشهير بالطنبوري.
قرر أمين بك المهدي في عام ١٩٢٧ تقريبًا، خوض تجربة التسجيل وقام بتعبئة خمس أسطوانات لشركة أوديون تمثل جل إنتاجه الفونوجرافي كما أن له أسطوانة لم يتم تداولها تجاريًا سجل على وجهيها تقاسيم من مقامي العجم والصبا.. اكتفى المهدي، بعد سنوات من استخدام محمد القصبجي للعود السبعاوي والعود السداسي في تسجيلاته الأولى (١٩٢١) وانتشار هذا الأخير كما تشير تسجيلات السنباطي وكامل رشدي، بعود يشد عليه خمسة أزواج من الأوتار يضبطها دومًا بالطريقة المعتادة خلال تلك الحقبة وهي من الغلظ إلى الحدة كالتالي: يكاه (صول١)، عشيران (لا١)، دوكاه (ري٢)، نوا (صول٢)، وكردان (دو٢). استوجب هذا الدوزان خططًا أدائية مغايرة لبعض المؤلفات التي تستوجب النزول إلى ما قبل نغمة أغلظ الأوتار (اليكاه/صول ١) ويظهر هذا جليًا في مؤلفات جميل بك الطنبوري خاصة في تسليم سماعي فرحفزا. كما هو الحال في عزف المواضع المتقدمة (بوزيسيون) انظر التمرينات التي خصصها عبد المنعم عرفة لعزف المواضع في كتابه 'أستاذ الموسيقى العربية' لتأدية النغمات الحادة.
علينا التوقف قليلًا عند اختيارات المهدي واستراتيجيات النشر المتنوعة التي اتبعها وتفرد ببعضها. كما يتبين من جدول رقم ١، تحتوي الخمس أسطوانات على خمسة سماعيات إلا أن الكاتالوج الذي أصدرته شركة أوديون عام ١٩٣٦ يطلق على تلك المؤلفات لفظ بشرف وخمسة تقاسيم، مسجلين وفقًا لثلاث إستراتيجيات مختلفة يمثل اليكاه والفرحفزا والشد عربان نصف عدد المقامات التي تستقر على درجة اليكاه/صول ١ وكلها مقامات مركبة يسيطر عليها المسار اللحني الهابط ومبدؤها من الجواب. :
١) أن يخصص كل وجه لسماعي مختلف، ٢) أن يخصص الوجه الأول لتقاسيم قصيرة يتبعها عزف الخانتين الأولى والثانية والتسليم، على أن تعزف الخانتان الثالثة والرابعة على الوجه الثاني ٣) أن يخصص كل وجه لتقاسيم من مقام مختلف.
يلاحظ هنا التنوع المقامي وتعدد البنى اللحنية لكل من هذه السماعيات من جهة عدد الدورات الإيقاعية للأجزاء المكونة (جدول رقم ٢). كما يلاحظ تنوع أساليب الضرب كاستخدام الريشة المزدوجة خاصة في الخانة الرابعة (أي التعبير عن كل نغمة بضربتين صد ورد) وهو ما كان يعرف بالتضعيف في المصطلحات القديمة، والريشة المقلوبة أو الضرب المنتظم والترعيد (الفرداش)، والزحلقة (الزحف).
في سماعي فرحفزا يلجأ المهدي إلى تقنية الفرداش (أي الضرب المستمر بالريشة بسرعة) والتهزيز (التريل أو الزغرودة) منذ بداية العمل للتعبير عن النغمات الطويلة ربما تأثرًا بأداء مؤلفه جميل بك الطنبوري الذي سجله (وربما ألفه أيضًا) على آلة الكمنجة وليس على آلة الطنبور. ويستعمل المهدي الريشة المقلوبة مرارًا في تسليم سماعي شد عربان كما يستخدم الزحلقة بأصابع اليد اليسرى بشكل سلس وناعم لعزف النغمات الحادة. في سماعي الحسيني يوظف الريشة الثلاثية (صد–رد–صد) المميزة لتفعيلة التريوليه. كما يلاحظ استخدامه للأصبع الرابع على بعض الأوتار لاستبدال نغمات الوتر المطلق بحيث تكتم النغمة عقب ضربة النغمة التي تسبقها دون ضربة ريشة مستقلة. ينتج عن هذا نغمات لها رنين مستملح مميز يختلف عن صوت الوتر المطلق.
كما برع المهدي في توظيف التدعيم الديواني بنغمات القرار الذي يضفي عمقًا على الأداء ويستلزم استخدامه في المقطوعات المؤلفة حس إيقاعي رفيع. بينما يكثر من استخدام البصم في تقاسيم البياتي والراست ولا يلجأ للتدعيم الديواني إلا نادرًا (رسم بياني رقم ١)MADEO is awesome!. كما يلاحظ أن المهدي لا يكثر من الإقامات (أي الوقوف على النغمة وتكرارها).
تفنن المهدي في تقاسيم الاستهلال التي أسميها التقاسيم العارضة، أي التي تهدف للعرض المختصر لأهم عناصر المقام الُمقسم منه (سير وأجناس وعقود) بهدف إبراز شخصيته. وقد اختار المهدي ثلاثة مقامات وهي الفرحفزا والشد عربان والحسيني. تتكون تقسيمتا الفرحفزا والحسيني من ثلاثة مقاطع بينما يتكون تقسيم الشد عربان من خمسة مقاطع. تتكون كل خانة في سماعي الفرحفزا من ثمان دورات إيقاعية بينما يتضمن التسليم أربع دورات فقط. كما أنه يُعزف بسرعة بطيئة مقارنة بسماعي الشد عربان وبالتالي، تعسر أن تمتد التقاسيم لأكثر من نصف دقيقة بينما امتدت تقاسيم الشد عربان لأكثر من دقيقة.
وفي التقسيم المرسل يُلاحظ ثراء المادة النغمية الموجودة في كافة مقاطع التقسيمة والمدى النغمي الواسع الذي تتحرك فيه الأفكار اللحنية المتعاقبة وقوة ترابطها، والقفلات المحبكة المستوحاة من الغناء (الموال والليالي)، والقفلات المعلقة التي تتخلل بعض المقاطع الطويلة نسبيًا.
سمحت الإذاعة منذ افتتاحها بازدهار ونشر كافة أنواع الموسيقى الآلية. لذا اعتبر العازف جورج ميشيل (١٩١٥–١٩٩٨) تلك الحقبة عصرًا ذهبيًا للموسيقى البحتة. كان المهدي من رواد حفلات العزف المنفرد على العود منذ بداية عصر الإذاعة التي ظلت تذيع أسطواناته المسجلة لشركة أوديون. ومن حسن الحظ أن لدينا أثر لبعض تسجيلات الهواة لوصلات المهدي الإذاعية (١٩٣٦). تظهر تلك التسجيلات حرص المهدي على تقديم البشارف (بشرف النظير) بشكل منفرد في إطار وصلة مصغرة اشتملت على قالب الدولاب (مقدمة لحنية قصيرة) وتنتهي بالتقاسيم التي امتدت لقرابة التسع دقائق.
ساهمت الإذاعة المصرية في تقديم الآلات الجديدة للجمهور وشهدت حقبة العشرينات والثلاثينات العديد من الابتكارات الجديدة على صعيد الآلات الموسيقية نذكر منها مثلا آلة القيثارة العربية التي اقترحها الشيخ حسن المملوك حوالي عام ١٩٢١. وهي عبارة عن جيتار مزدوج الأوتار خالي من الدساتين أو العتب. وقد تم الإعلان عنها في مجلة روضة البلابل لصاحبها إسكندر شلفون (١٨٨١–١٩٣٤) من خلال مقال بقلم الشيخ المملوك (روضة البلابل، السنة الثالثة، العدد الثالث، الأول من ديسمبر ١٩٢٢، ص: ٤٠–٤٢). بيد أن تلك الآلة لم تلق نجاحًا يذكر فيما يبدو. واخترعت في تركيا آلة الجُمبُش التي اختبرها المطرب وعازف العود جميل عزت، وهذه الآلة أقرب للطنبور ذي الرقبة الطويلة.
اخترع جورج بيروتي حوالي عام ١٩٣٤ آلة من فصيلة العود قصير العنق أطلق عليها الجوزيتا وهي أول عود له مشط متحرك. وتتكون الآلة من صندوق صوتي محدب الزوايا به ثلاث فتحات (شمسيات) على شكل نجمة خماسية ينتهي بعنق قصير وبنجق مصمت منفصل للملاوي (المفاتيح) ويشد عليها ستة أزواج من الأوتار المعدنية. وقبيل البث المباشر لحفل السيدة أم كلثوم الشهري من قاعة إيوارات الملكية، في تمام الساعة التاسعة وأربعين دقيقة من مساء يوم الخميس الثاني من ديسمبر عام ١٩٣٧، منحت الإذاعة الفرصة لجورج بيروتي لتقديم اختراعه لجمهورها العريض.
لاقت هذه الآلة اهتمامًا كبيرًا بين أوساط المحترفين وعلى رأسهم محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش ومحمد القصبجي الذي اقتنى إحداها وضمها إلى مجموعته الضخمة من الآلات الوترية التي نجهل مصيرها بكل أسف. ومن الهواة أمين المهدي. ويمكننا الاستماع هنا إلى تقاسيم من مقام الحجاز لجورج بيروتي على تلك الآلة.
ختامًا، كان أمين المهدي مؤديًا مبتكراً نشأ على القوالب الغنائية وعلي رأسها الموشح والدور والقصيدة والآلية كالدولاب والبشارف بأنواعها والسماعي والرقص والتحميلة بالإضافة إلي فن التقاسيم. وتميز بأسلوب عزفي خاص لم يقلد فيه أحدًا. اتصف أمين المهدي بخفة حركاته وريشته وعذوبة نغماته وإتقان التضعيف في مواضعه والتوفيق ما بين طريقة المضراب والبصم بمهارة. كما كان “حلو البنان” كناية عن حلاوة النغمات التي يعفقها و/أو يبصمها بأصابع يده اليسرى وعكسها في مصطلحات أهل عصره هي “صباعه مالح” والعياذ بالله، وتشهد تقاسيمه المختلفة على شخصيته الموسيقية المستقلة والمتفردة وسعة رأس ماله وحظه من الطرب. وسوف تظل تلك التسجيلات كأثر خالد لفن العود المصري ومسيرة تطوره خلال الفترة ما بين ١٩٠٤–١٩٣٧.
مارسيليا، ٢٠١٨/٠٤/٠١
– صورة الغلاف: أمين بك المهدي يعزف على آلة الجوزيتا (من مجموعة أحمد الصالحي)
– الشكر موصول للأستاذ الباحث فريديريك لاغرانج الذي أمدني بدايات ٢٠٠٩ بتسجيلات أمين المهدي وبياناتها التي مكنتني من استخدامها في إطار رسالة الماجستير. كذلك للصديق العزيز الفنان والباحث مصطفى سعيد ومؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية والباحث أكرم الريس وأحمد الصالحي وياسر عبد الله.