.
قال بيكاسو ذات مرة: “كل الأطفال فنانون، لكن المشكلة بأن نبقى فنانين عندما نكبر.” لدي سبب قوي لأعتقد أن كانيه قد قرأ هذا الاقتباس واعتمده في حياته. إلى جانب جبل من الأدلة على طفوليته المتعمدة والحصينة، كاستخدامه شخصية كرتونية في ألبوماته الثلاثة الأولى، وما بدر عنه في عشرات المقابلات ومئات التغريدات، أستمرُّ بالعودة إلى اقتباسٍ محدد من أغنية باور: “إبداعي الطفولي، نقاوتي وصدقي / للصراحة، هم محاصرون بهذه الأفكار الناضجة / الحياة الواقعية تلاحقني / تحاول سلبي الطفل في داخلي، أحارب لحق الحضانة / أحارب هذه المسؤوليات التي أودعوها فيَّ.” بالنسبة لكانيه، تحمّل المسؤولية وموت الإبداع هما الشيء ذاته، والإبداع هو كل ما لديه، هو الذي دفع العالم للتعامل معه خارج أي أطر جمعية، لا كشخص أسود ولا كابن مدينة أو مجتمع معين، بل ببساطة، كـ كانيه. لذلك نجد كانيه في حالة دفاع عصابي مستمر، دفاع عن نفسه إزاء كل من يحاول تحميله أي نوع من المسؤولية، وبالتالي سلبه خلاصه الفردي. يدافع كانيه عن نفسه ضد السود قبل البيض، الليبراليين قبل اليمينيين، المؤمنين به قبل غير المكترثين. يدافع كانيه عن نفسه ضد مقالات كهذه، ويضع رأسه على المحك في حرب مستمرة للدفاع عن الطفل في داخله.
منذ ٨٠٨ آند هارتبرايك، بدأ كانيه بتلقي رصاصات النضج. ظهر في أعماله بشكلٍ متزايد عمقٌ عاطفي جارف ووعيٌ واضح بالذات، وأصبحت معاركه للحفاظ على الطفل في داخله أكثر ارتباكًا وعنادًا وصخبًا. لكن كانيه أكثر من يعرف أن ما لا يقتله يجعله أقوى، وبالتالي يعرف كيف يحول كل رصاصة نضج أصيب بها إلى ألبوم كلاسيكي ذو لوحة ألوان ومعجم جمالي متفرد، يهز أساسات الراب والموسيقى المعاصرة، ويطلق صيحات في الإنتاج والتأليف تجعل كانيه موسيقي الجيل الأوَّل والأكثر تأثيرًا. في يِي يتعرض كانيه إلى رصاصة نضج جديدة قد تكون أشدّ وقعًا من كل ما سبقها، إذ أنه اليوم زوج، أب، ورجل مهدور الدم، وهذه الحقائق تحدد إلى مدىً بعيد صوت وخطاب الألبوم.
أعاد كانيه كتابة الألبوم وأحدث فيه تغييراتٍ جذرية في الشهر السابق لصدوره، ليتطرق فيه إلى حوادث شخصية كان الإعلام لا يزال مصروعًا بها عند صدور الألبوم. لذلك هناك روح سردية متينة ومركزة تدفعنا إلى الاستماع للألبوم بالترتيب ومرةً واحدة، الأمر الذي يتسق مع عدم صدور أي أغنية منفردة من الألبوم، لا قبل طرح الألبوم، ولا بعد صدوره حتى الآن.
يدعم ضرورة استماعنا إلى الألبوم بالترتيب أيضًا كون أول أغانيه، فكرت بقتلك، مدخلاً لا بد منه إلى عالم الألبوم. بإمكاننا تلقي نصف الأغنية الأوَّل، والذي يحكيه كانيه فوق إيقاعات تقليلية وعينة صوتية تكرر عبارة آي نو، كوقفة على الأطلال في مطلع قصيدة ملحمية. منذ اللحظات الأولى، تفوح رائحة مزاج هوسي قلق، المزاج الأكثر ظهورًا في كلاسيكيات كانيه من حيث الكلمات، ونجد كانيه مصفّدًا بهواجس وغليان في الأفكار حول علاقة سابقة أخذت منحًا عاطلًا، على نحوٍ يذكرنا بـ بلد أُن ذ ليفز. ينقل إلينا كانيه أفكاره كما تتابع: “اليوم فكرت بجدية بقتلك / تأملت بالموضوع / جريمة عن سبق إصرار وتعمد / وأنا أفكر بقتل نفسي / وأنا أحب نفسي أكثر مما أحبك بمراحل / اليوم، فكرت بقتلك، جريمة عن سبق إصرارٍ وتعمد.” للوهلة الأولى، قد نعتقد أن هذا يشبه مشاعر نعيشها دون أن نفهمها، ثم ندرك أن هذا ليس صحيحًا، فلا نحن نفكر بقتل أحد ولا أحد يفكر بقتلنا، لكن إلقاء كانيه الصريح والحقيقي استأجر مخيلتنا العاطفية وعشّش فيها.
على طول هذا الجزء من الأغنية، لا يطيل يِي لفظ كلمة، لا يزعق، لا يبالغ بعاطفة، لا يركِّز على زاوية من نفسه على حساب الأخرى. ما نحصل عليه هو ليس أداء، بل تدفق صاف، مونتاج عفوي ينقلنا من مشهد في رأس كانيه إلى آخر بقطعات قاسية تضرب التباين العاطفي للأغنية بعشرة: “فكر بكل الاحتمالات / لا تستثني خيارًا واحدًا / اليوم، فكرت بقتلك.” بعد هذه اللمحة على الطبقة الأساس في شخصية كانيه، محطمًا ومشوهًا بندوب مشاكل كبرى سابقة هناك في الأغنية ما يدفعنا للاعتقاد بأنها تتحدث عن نفس العلاقة التي تتحدث عنها هولد ماي ليكر، تصل الأغنية إلى الجسر الذي سيحملنا إلى بداية الألبوم، ويبدأ كانيه الحديث عن بدايته المتعمدة بإغضاب العالم خلال الشهرين الأخيرين: “اتصلت بالذين أحبهم، اتصلت بأولاد عمومي / اتصلت بكل المسلمين، تجهزوا لجنوني.” أخيرًا، تندلع الأغنية بصفقات معدنية جافة صناعية، فوق عينة من مقطوعة فرش لكريم لطفي، يعلقها كانيه في الخلفية كستارة محيطة مشرقة لجدران الأغنية التي كل ما فيها داكن. يدخل كانيه نفسه في مزيج محموم من الحديث والصياح والغناء، وتنقل مستمر بين التخبيص والتبرير والتخبيص مجددًا، يشبه كثيرًا، من حيث الإلقاء ومن حيث المواضيع، وصلة الخطابة المحمومة الأخيرة على تي إم زي.
قيل إن معظم أغاني يِي تحمل شيئًا من دارك فانتازي أو ييزس أو بابلو، لكن لو أردنا تقريب ثاني أغاني الألبوم، يايكس، لأحد ألبومات كانيه السابقة، فستكون قطعًا أقرب إلى واتش ذ ثرون. من إيقاعاتها التقليلية الخشنة البدائية، إلى كلماتها التي تجمع بين الدفاعية والسخافة. يرد كانيه في الأغنية سهلة الإدمان على التهديدات والعدائية التي تعرض إليها مؤخرًا، خصوصًا التهديد المباشر بالعنف الجسدي من عصابة الكرِبس: “أشعر بالأرواح تحيطني / برينس ومايكل (جاكسون) يحذرونني / يعرفون أنني أعيش في وسطٍ شيطاني / الشيطان يحاول حشد جيشِ متفاني / يضعون خططًا، يريدون أن يؤذونني / لا يعرفون أنهم يتعاملون مع رجلٍ زومبي.” المميز في الأغنية، على كل حال، هو سخافتها المفرطة. يتحدث معظم الرابرز عن النساء وأجسادهن بطريقة تسليعية فظَّة، لكن كانيه يتجاوز ذلك إلى مستويات متطرفة من السخافة تدافع عن كون الراب حالة خاصة عندما يتعلق الأمر بمواضيع مماثلة، وكأنه عندما يقول: “هل تعرفون كم بنت أخذتها معي إلى الـ تيتي شوب؟” يتوقعنا أن نجيب: “لا يا كانيه، لا نعرف كم بنت أخذتها معك إلى الـ تيتي شوب.”
تقع أول ماين، ثالث أغاني الألبوم وأكثرها شعبيةً حتى الآن، بين واتش ذ ثرون وييزس، ولنكون أكثر تحديدًا بين ذاتس ماي بيتش وباوند تو. بعد افتتاحية من الأورجن والآر آند بي من غناء آنت كلِمونس، يعزز كانيه الصوت الجاف الصناعي التقليلي للألبوم، ويقدم في ثلث الأغنية الأخير إيقاعًا فاجرًا يبدو كحازوقة روبوت صدئ. لا تعلِّق الكلمات على سلسلة الفضائح الأخيرة، بل تضيف إليها. فمثلًا، يذكر كانيه حركة #مي_تو وإمكانية أن تطاله، ثم يقول بعد دقيقة: “أحب نهديكِ لأنهما الدليلان الوحيدان بأنني أستطيع التركيز بشيئين في نفس الوقت.” وكأن كانيه هو هانيبال ليكتر عالم الترفيه، يريد أن يتم إلقاء القبض عليه، أو كما يقول جاي زي في واتش ذ ثرون: “أريد أن أبلغ عن نفسي لصحافة الفضائح.”
المشكلة في وودنت ليف، رابع أغاني الألبوم، أنها استجابة لفكرة واضحة ومباشرة للغاية: كانيه يريد كتابة أغنية لـزوجته، ولأهمية الولاء والدعم في العلاقات. لا تمتلك الأغنية الزخم العاطفي أو الموسيقي لمنافسة أغانٍ سابقة لكانيه حول الموضوع نفسه، مثل باوند تو أو حتى جولد ديجر، ولا تستطيع حتى منافسة ٤:٤٤ الأخيرة لـ جاي زي. من جهة، تحمل وودنت ليف رسائل مباشرة لدرجة مملة، خاصةً خاتمتها: “لكل امرأة وقفت بجانب صاحبها / في أفضل الأوقات وفي أسوأها / هذه الأغنية لكِ.” ومن جهة أخرى نسمع عينات وإيقاعات متوقعة وسهلة، لا تتفق وسمعة كانيه في المجال. لا يعني هذا أن الأغنية لا تمتلك جاذبيتها الخاصة، لكنها تبقى دليلًا مدينًا على استعجال كانيه وتسجيله لألبوم في مدةٍ غير كافية لنزعته الكمالية التي عودنا عليها.
يشارك كانيه في نو ميستايكس، أقصر أغاني الألبوم، بالإجهاز على درايك، بعد صدور دس ذ ستوري أف أديدون بوشا تي. فبعد بضعة أسطر تشير إلى انبعاثه من فترة نكسة على مستوى السمعة والمستوى المالي، يسلخ كانيه درايك بأحد عشر سطرًا قصيرًا قاسيًا، يفصلها عن بعضها عينة صوتية تزيد الوضع مهانةً: “صدق أو لا تصدق (نور الرب لا يزال يشرق عليك)”. لو كانت معركة الديسات بين بوشا وكانيه من جهة ودرايك من جهة ثانية هي نزال ملاكمة، فإن الضربتين القاضيتين هما: “هذان الخطآن سيصوبانك يقول المثل الأمريكي: two wrongs don't make it right، أو لا تستطيع تصويب خطأ بخطأ آخر. يشير كانيه إلى أن الصواب بالنسبة لدرايك هو أن يسكت، وأن الأخير ارتكب خطأين، التعدي على بوشا تي والتعدي على كانيه، وهذان الخطآن سيصوبانه” و”اهدأ، يا فاتح البشرة!”.
جوست تاون أغنية كانيه وستية كلاسيكية على كافة المقاييس، تكتسب روعتها من أضعف عناصرها. ما نحصل عليه هنا هو مائة بالمائة من كانيه الطفل. فمن حيث الخطاب، يصف كانيه جنَّته، حقبة سيرضخ العالم فيها أخيرًا إلى عناد كانيه، يقبله كما هو وكما فعلت زوجته، حقبة سيستطيع فيها كانيه أن “يتحدث كشخصٍ شرب كل النبيذ”، أو كما يقول لاحقًا على لسان نجمته الصاعدة، ٠٧٠ شايك، أن يكون ببساطة: “حرًا.” لا يفكر كانيه بهذا الفردوس بشكلٍ مجرَّد حالم، بل يعتقد أنه شيء سيتمكن من تحقيقه بالفعل، بعد أن يصدر من الأعمال الكلاسيكية ما يكسبه استثناءً من أي مسؤولية، وبعد أن يعتاد هو وأسرته على أصوات الكراهية التي لن يسكت بعضها على الإطلاق. موسيقيًا، نحصل على ذات الطفولية العنيدة، عينات نافرة وطلقات إلكترونية كأننا في وسط لعبة أتاري، وصلات جيتار كهربائي بلوزية ضخمة وفظَّة، وخمسة مغنين يتعاقبون على أغنية طولها أقل من خمس دقائق. كل عنصر يبدو مقلقًا خلال الاستماعات الأولى للأغنية، يصبح سببًا في عظمتها في الاستماعات اللاحقة.
سجَّل كانيه أغنية من نوع خاتمة الألبوم فيولنت كرايمز في كل من ألبوماته الأخيرة. غنية إنتاجيًا وإيقاعيًا، مزدحمة بمقاطع غنائية، لا يشقها سوى مقطع راب واحد من حوالي دقيقة، مركَّز وشاعري، مشحون عاطفيًا عن ألبومٍ كامل، رصين ومشذَّب بأسطر موحدة الطول متقاربة القوافي نادرًا ما تتسع لصيحات أو استعراضات صوتية. في دارك فانتازي كانت هناك لُست إن ذ ورلد، في ييزس كانت هناك هولد ماي ليكر، في بابلو كانت هناك وولفز، وفي يي، هناك فيولنت كرايمز. تبشّر أسطر السِّنث المحيطة بأغنية واسعة، ثم تعدُنا مقاطع ٠٧٠ شايك بأغنية حميمية، وأخيرًا يدخل كانيه. عندما يتحدث يِي من منظور كونه أبًا، ينسف آخر عشرين سنة من حياته ويعود شابًا مرتبكًا. هذه المسؤولية الوحيدة التي يتقبلها، مسؤولية تأتي من داخله لا تفرض عليه من الخارج. بصوتٍ مضطرب يحتلنا عاطفيًا، يلقي كانيه كلمات تقف كتفًا بكتف إلى جانب قصيدة صلاة إلى ابنتي لـ ويليم بتلر يايتس: “الرجال همج، الرجال كـ وحش / الرجال قوادون، تجسدٌ للفحش / حتى يحملون بناتهم، الآن يريدون حمايتهم / ربي، سامحني، أخاف انتقام المذلة / الآن آرى البنات كشيء يجب أن نرعاه / لا أن نحتلَّه (…) وأنا رجل، أعرف ماذا يريد الرجال / أصلي ألا تقعي ضحية الاحتيال / كل المنحرفين على الإنترنت، يبحثون عن الجسد تحت الثوب / كل التعليقات، يا للغثيان / هذه ابنتك التي تحبها للموت.” بمرافقة البيانو والإيقاعات التقليلية والخلفية المحيطة، يلقي كانيه أحد أفضل مقاطعه وأكثرها نضجًا في الألبوم.
رغم قوة كل أغنية على حدة، إلا أن الألبوم ككل يتفوق على مجموع أجزائه. فبينما تذكرنا بعض الأغاني بألبومات سابقة لكانيه، لا يذكرنا الألبوم دفعةً واحدة سوى بنفسه. لا يواجه يي لا صعوبةً ولا حرجًا في خلق منظومة جمالية وصوت مكتمل جديد، أكثر تركيزًا وتقليلًا من أيٍ من أعماله السابقة، سواء عندما يصب هذا التركيز في مصلحة الأغاني أو عندما لا يفعل. هناك على كل حال هامش موجود وواضح بين يي والكمال، وبعض التردد قبل وضعه إلى جانب ألبومات ما بين ٨٠٨ وبابلو، لكن باعتقادي أن هذا الهامش لا يدل بالمرة على استنفاذ أو نضب إبداعي، لكن ربما يدين قصر فترة التسجيل التي لم تسمح للصوت الجديد المكتمل والغني أن يأخذ وقته، فجاءت بعض الأغاني أكثر نضجًا من بعضها.
السؤال الأبرز الذي يخلفه يِي بعد سماعه، هو سؤال عن الفردوس الذي تأمل فيه كانيه في جوست تاون التي يمكن اعتبارها إيماجين كانيه وست. هل سيعتق الناس كانيه وست من مسؤولية كونه عبقري آتٍ من فئة مضطهدة؟ أعتقد أن المنطق يشير بوجوب ذلك، فمن غير المنطقي افتراض أن شخصًا لم يشعر بالمسؤولية اتجاه أبناء جلدته بشكلٍ تلقائي، سيستيقظ شعوره بالمسؤولية نتيجة تعييرٍ مستمر وتهديداتٍ بالقتل وتصريحات لا نهاية لها بخيبة الأمل. إذا كان الغرض من كل ذلك إفهام كانيه بصوتٍ مسموع وواضح كيف يشعر أبناء جلدته إزاءه، فكانيه قد سمع وفهم. أما إذا كان الهدف هو فرض ضريبة انتماء: إما أن تحمل هم القضية أو نجعل قضيتنا تدميرك، فهنا ينشأ الجحيم المعاكس لفردوس كانيه، الجحيم الذي احترق فيه العديد ممن رزخوا في نهاية المطاف مضحين بحريتهم الإبداعية. قال كانيه في مقابلة تي إم زي أنه يخاف أن يقتل على يد أحد إخوته السود كما حصل لـ مالكم إكس، ولا أعتقد أن من مصلحة أي طرف أن تنتهي الأمور بقتل كانيه، إبداعيًا أو جسديًا. فعليًا، كل ما يريده الرجل هو أن يكون حرًا، أن يرقص على طاولة القهوة.