.
https://vimeo.com/groups/thearts/videos/239580677
مع نهاية الستينيات، صار هناك استعداد لتغيير معالم الروك الذي اتسم بالخفة والطابع الراقص. يرجع الفضل في ذلك لفرق مثل البيتلز وبروكل هاروم وذ مودي بلوز وبينك فلويد، الذين قاموا بكسر أسلوب بناء الأغنية المباشر المتعارف عليه في تلك الفترة، والتجريب في طرق التسجيل وبالآلات، وبتأليف ألبومات تتناول مفهوم موحد تصيغ منه عمل أشبه برواية أو مسرحية تمر بعدة فصول. عندما صدر ألبوم كينج كريمسون الأوّل إن ذَ كورت أُف ذَ كريمسون كينج عام ١٩٦٩، منح هذه الميول الجديدة في الروك الدفعة اللازمة لتتمساك وتدشن جنرا البروجريسيف روك.
إذا نظرنا إلى المعادلة الخاصة بالبروجريسيف روك، نرى أن إن ذَ كورت أُف ذَ كريمسون كينج كان بمثابة تعريف للجنرا. فمن حيث التوزيع، يظهر كل من الساكس والفلوت والكلارينت والفايبرافون والميلوترون إلى جانب آلات الروك الأساسية. الموسيقى معقدة ومتشابكة، تستعين بعناصر من الجاز والفولك والكلاسيكية، وتأتي على موازين مختلفة كما في افتتاحية الألبوم توينتي فِرست سنتشري سكيزويد مان. يستمر تعقيد وتضافر الألبوم في الجانب البصري، فغلاف الألبوم الخارجي يظهر عليه الوجه الصارخ ليعطي انطباعًا مظلمًا عن الرجل المهدد والمصاب بالفصام الذي تدور حوله الأغنية الأولى، والغلاف الداخلي الذي يظهر عليه وجه القمر الحاكم الظالم بابتسامته والحزن الظاهر في عينيه. يتذكر بيتر ساينفيلد، كاتب كلمات الفريق في تلك الفترة، متحدثًا في فيلم وثائقي للبي بي سي يحمل اسم روك بريطانيا: ”إذا بدا ما نلعبه مألوفًا، نقوم بتغييره، حيث من اللازم أن يكون معقدًا، ويشمل ذلك الكوردات. يجب أن يكون تأثير الأغاني غريباً على المستمع. إذا كان بسيطًا نقوم بتعقيده من باب الاستعراض.“
يبدأ الألبوم بعنف مع أغنية تونتي فرست سنتشري سكيزويد مان، التراك الذي قدّم الفريق قبل صدور الألبوم ببضعة أشهر لجموع تقدر بنصف مليون مشاهد في عرض الفريق الأول في هايد بارك. افتتاحية التراك التي تعزف بتناغم بين كل من البايس والجيتار والساكس كفيلة بخطف أذن المستمع، يليها غناء جريج ليك المشبع بالدستورشن مؤكدًا على كلماته السوداوية. يفسح هذا المجال لوصلة موسيقية طويلة يظهر بها تأثر الفريق بالجاز، ويتألق بها قسم الإيقاع بقيادة عازف البايس ليك والدرامر مايكل جايلز. هذا العزف المتقن والمعقد بموازينه المختلفة لم يشهده الروك من قبل، ما ساعده على إبهار المستمع في وقتها. على حسب ما جاء عن عازف آلات النفخ إيان ماكدونالد، تم تسجيل التراك على مرة واحدة بدون أي تعديلات، مع إضافة أجزاء قليلة كـ أوفردَب overdub.
في تراك آى توك تو ذَ ويند، يتحول صوت ليك كاشفًا عن مداه الصوتي وتعدد طبقاته، وهو ما يتّضح مرة أخرى في تراك إبيتاف. في الأغنية الأولى، يحاكي صوته الهادئ الإحساس بالوحدة والعزلة التي تظهر من خلال حديثه مع الريح. يلعب ماكدونالد العنصر الحيوي بآلات النفخ ويتألق دوره في سولو الفلوت في واحدة من أفضل لحظات الألبوم، بالإضافة إلى لعبه للفايبروفون الذي يعطي طابعًا حالمًا للأغنية التي تكتسب عناصرها من الموسيقى الفولك وقليل من الجاز. أما الأغنية الثانية، فيذهب بنا لايك بصوته إلى طبقات عالية، كاسرًا الشحنة الغاضبة في التراك الأول، لكن مازال غارقًا في توجسه من المستقبل وتخبطه الآتي من حديث ذكي ومقل عن السياسة والسلطة. يعد التراك واحدًا من أفضل ما غنى ليك. إنتاج التراك وتوظيف الآلات يأتي بشكل أوركسترالي يعتمد بشكل أساسي على الميلوترون وجيتار روبرت فريب الذي يزيد من نغمية الأغنية بشكل خفي. تتغير الديناميكية بين عدة مقاطع تشترك جميعها في طابع جنائزي وملحمي يصل إلى ذروته بنهاية الأغنية، وهي الأغنية الأكثر مباشرةً وسهولةً على الأذن.
لا يكف ليك عن تغيير طبقات صوته في الألبوم، فيظهر هذا أيضًا في تراك مونتشايلد الذي يعود بنا إلى موضوع آي توك تو ذَ ويند. إن كانت تراكات الألبوم محكمة البناء، فيكسر مونتشايلد هذه المعادلة بعد دقيقتين من بدايته ليفصح عن وصلة ارتجالية حرة تقترب من العشر دقائق، يشترك بها جيتار فريب الذي يتنقل من mode (مقام غربي) إلى آخر ويتخلى عن النغمية، مقابل جوابات ماكدونالد على الفايبرافون التي يتخللها إيقاعات متقطعة من جايلز. يكشف هذا التراك عن الخط الذي سيستمر عليه روبرت فريب أثناء قيادته للفريق في ألبومات أخرى مثل لاركس تانجز إن أَسبيك وستارلس آند بايبل بلاك، الذين سيتّبع فيهما أسلوبًا يميل إلى الجاز ويبعد عن الفولك والكلاسيك.
يختتم الألبوم بتراك جنائزي يحمل اسم الألبوم، يعود الفريق فيه إلى الطابع الملحمي الخاص بأغنية إِبيتاف، والمتمثل بعنصرين جديدين هما الأداء المسرحي لليك وغناء الكورال. تتكرر المعادلة الخاصة بالميلوترون والجيتار الأكوستيك ويضاف إليهما الجيتار الكهربائي، فيما يتنقل عزف البايس بين توليه المدى المنخفض وإضافة بعد نغمي للتراك. يأتي أيضًا صدى آي توك تو ذَ ويند عن طريق سولو ماكدونالد على الفلوت، وهي صفة أساسية للبروجريسيف روك، حيث تظهر ثيمة أو مجموعة نغمات أو مقاطع بأجزاء مختلفة بالألبوم الواحد، وتُلعب بتنويعات مختلفة مؤكدةً على مفهوم الألبوم الموحّد.
بعد مرور خمسين عام على صدوره، وعند الاستماع إليه الآن، لا يزال ألبوم كينج كريمسون الأوّل جيدًا كما لو كان قد صدر مؤخرًا. هذا ما يجعل أي ألبوم كلاسيكي كلاسيكيًا. لكن مع نظرة أكثر تمعنًا، نستطيع تبين أسباب هذه الكلاسيكية.
لا يكتفي الألبوم بكونه يضع أساسيات جنرا بعينها، بل يحلق فوق أي جنرا بفضل رؤية تنظر إلى المستقبل وترفض الحاضر. بالإضافة إلى تمرده على موسيقى الستينيات ومواضيعها، فإنه يتمرد على البروجريسيف روك نفسه. ظهرت فرق عديدة مثل يس وجنيسز وإي إل بي وجثرو تل وغيرها من فرق البروجريسيف بفضل هذا الألبوم، لكنهم انغمسوا في تعقيد الجنرا والتخلي عن الواقع لصالح اعتمادهم على مواضيع وثيمات ترجع إلى الماضي، ما جعل أدائهم يتسم بالنخبوية. أدت كل هذه العوامل إلى ظهور البَنك روك الذي اعتمد على صوت خام وعناصر مبسطة من حيث الإنتاج وطرق التسجيل كثورة على البروجريسيف. بالرغم من اعتماد كينج كريمسون على الحرفية في العزف على عكس البَنك، إلا إن رؤية الألبوم المستقبلية حاضرة بفضل اشتراكه مع معالم خاصة بفرق البَنك.
يظهر ذلك في تخلي الألبوم عن نخبوية الفرق التي تلته بأسلوب غير متكلف يتضح في نسخة الاستوديو وفي العروض الحية التي تتساوى فيها أدوار أعضاء الفريق وآلاتهم. لا يحاول عضو مزاحمة الآخر في العزف أو الظهور. بالإضافة إلى تخلي روبرت فريب عن سولوهات الجيتار الخاصة بالفرق التي سبقته وفرق البروجريسيف التي تلته، تلك السولوهات التي ثار عليها البَنك بدوره.
عند الانتباه لتفاصيل المزج والإنتاج غير المثالي للألبوم، وعدم اعتماد الفرقة على صوت لامع على عكس باقي فرق البروجريسيف، تبدأ ملامح الصوت الخام لـ كينج كريمسون بالاتضاح، وهو ثيمة مستقبلية أخرى لفرق البَنك والبوست بَنك. تم تسجيل الألبوم خلال عشرة أيام على جهاز تسجيل شرائط متعدد التراكات بثمانية قنوات 8-track tape recorder والقليل من المؤثرات، مستغلين انحصار الإمكانيات لمزيد من الإبداع، وهو أسلوب اتبعته فرق البَنك أيضًا.
على خلاف روك الستينات، جاءت مواضيع الألبوم مترابطة وغير مباشرة، محملة بطابع سياسي سوداوي بسبب الحرب الفيتنامية وتتحدث عن استغلال السلطة والعزلة والوحدة، وبتحذير من مستقبل قريب. عاكست تلك الصورة الدرامية ما سبقها من ثيمات التمرد والرؤية الثورية التفاؤلية التي تجسدت بوضوح في وودستوك. قد تشبه كلمات كينج كريمسون تقاليد البروجريسيف روك شكليًا، من حيث كونها ناضجة ومقلة وسياقية، إلا أنها كانت واضحة ومباشرة وبعيدة عن الألغاز والملحمية المفرطة. هذه الميول المظلمة السوداوية والمباشرة استمرت في فرق الجوثِك روك والبوست بَنك والنو وايف في الثمانينات.
حتى استعانة الفريق بعناصر الجاز والارتجال الحر، مع تواجد روح جون كولترين بالألبوم، فجاءت بشكل مقل وساعدت الفريق على التحرر من بنية الروك المعتمدة على النغمية. لم تأتي استعانة الفريق بالماضي من منطلق نوستالجي على الإطلاق، ولا من انبهار، بل بغرض دفع الجنرا إلى المستقبل وإفادة الروك من عنصري الارتجال واللا نغمية. يظهر ذلك في تراك تشايلد مون. تلك السمة الارتجالية ظهرت بدورها عند فرق النو وايف والنويز روك والموسيقى الصناعية.
تبخر تأثير فرق البروجريسيف عند ظهور البَنك، فيما عدا عن موجات استعادية في التسعينات وفي الألفينات. على كل حال، ظلّ تأثير كينج كريمسون بشكل عام، وهذا الألبوم بشكل خاص، مستمرًا. ألهم الألبوم العديد من فرق الروك، والذي لم يستمد الإلهام منه فقد نظر إليه بتقدير. أتاح الألبوم الفرصة للعديد من الفرق للتجريب في الروك، وأعلن أن البحث عن ما هو جديد والإتيان بعمل كلاسيكي يكمن في التحرر من الماضي والحاضر وتوقع المستقبل، والتحرر من أي جنرا محدد بما في ذلك الجنرا الذي يقوم بتدشينها بنفسه، وهو ما اتضح أكثر في ألبومات كينج كريمسون التالية.