.
في بداياته ظهر في صورة الشاب المليئ بالألحان والطموح، بحواجبه الكثيفة وغيتاره وقمصانه المفتوحة ذات الرقبة الكبيرة وترقق صوته ونظراته. بمتيّزه برشاقة جمله الموسيقيّة وبراعة حلياته وعُربه في الغناء، لفت الانتباه إليه بالأغاني الجريئة المباشرة في إعلانها الحب أو الكره (والتي ستتحوّل في مرحلة لاحقة إلى عنف لفظي ومعنوي).
كانت إحياء السمة اللحنيّة البورسعيديّة باستخدام آلة السمسميّة التي كانت نادرة الظهور في التوزيع الموسيقي التجاري من أحد لمحاته الذكيّة. تلك الحقبة فيما يخصّ التوزيع تميّزت بالرجوع إلى الآلات الشرقيّة الأصيلة مع القالب الغربي– التكنو والهاوس في الأغلب. والتي كان أبرز موزعيها: طارق مدكور، تميم، وفهد وغيرهم. حتي أن أغانٍ عديدة بعد ذلك نُفّذت بطريقة حيّة بآلات كالعود والقانون والناي والكولة والرق، بدلاً من استخدام توزيع أصوات الكيبورد الصناعيّة.
هذا الاتجاه الموسيقي لم يكن عودة إلى جذور، بقدر ما كان وعياً بالخريطة الموسيقيّة العالميّة وشروطها واتجاهاتها الجماليّة؛ فكان على الموسيقيين العرب الدخول إلى تلك الخريطة الموسيقيّة التي بدأت توحّد أشكالها وتقلّص مساحات تعبيرها بايقاعات محدّدة، وقوالب محسوبة ومؤثرات صوتيّة معمّمة. وفي نفس الوقت، وبحسب الشروط الجديدة، إعطاء البصمة الجغرافية الخاصة، النكهة المميزة للهويّة – “الشرقيّة” هنا. نجح تامر في أن يصل إلى شكل من أشكال الانتشار من خلال هذه المعادلة، حتى وصل في آخر عامين إلى تعاونه مع فنانين غربيين مثل: شاغي، وسنوب دوغ، وآكون. وتحضيره لأسطوانة بالانجليزيّة ستطرح في الولايات المتحدة تحت عنوان One little world.
****
بجانب الأسطوانة “الأميركيّة“، أصدر حسني أسطوانة “بحبك إنت” في آذار/ مارس هذا العام، وهي الأسطوانة الثامنة بعد العمل المشترك الأول مع المغنية شيرين عام 2002 للمنتج نصر محروس. تحتوي الأسطوانة على ثلاثة عشر أغنية من إنتاج نصر محروس (Free Music) أيضاً، الذي كتب كلمات بعض الأغاني فيه، وكتب تامر نفسه سبعة أغاني ولحّن أربعة منهم.
في أولى أغاني أسطوانة “بحبّك إنت” [كلمات نصر محروس وألحان محمد يحيى] بتوزيع طارق عبد الجبار التكنو نسمع كلمات مثل: “وبحبك يا حبيبي. بحبك أنت، ولو أنت مش حبيبي يا حبيبي، بحبك أنت“. بعدها يغني حسني جملة تتقمّص روح أغنية المطرب الراحل عبد الحليم حافظ “سواح” في مقطع “إن لاقاكم حبيبي سلمولي عليه” لحناً وكلماتاً: “سلملنا عليه كتير وقوله بنحبك قوي. وقوله يجي بألف خير دا القلب مشتاقله قوي“. وينطلق فوراً بموسيقى تكنو، لينقلب بعدها إلى موسيقى شرقيّة، فتشعر أنك تسمع استعراضاً لباقة أغانٍ وليس أغنية واحدة.
“اللي راح” [كلمات نصر محروس وألحان عمرو مصطفى] يبدأ الموزّع أمير محروس بصوت بيانو حزين، كمحاولة تسعينيّة لاجترار الأحزان بالانكسار المتسامح، سرعان ما تسيطر عليها الكمنجات لتأخذ القيادة: “أنا اللي ياما قلبه انجرح، وحبايبه خدوا منه. لا دقت يوم طعم الفرح ولا ناس يحنوا“. يلعب حسني في هذه الأغنية بقواعد خلطة الأغنية العاطفيّة الحزينة الناجحة، يهدج صوته ويترنم بكلمات بها “راح وجراح وسماح” بمصاحبة آلة القانون الذي يُعزف عليه بطريقة آليّة محسوبة. وفي الوصلات يستعين محروس بالأورغ ليرسّخ أجواء الثمانينيّات/التسعينيّات، في حين يلامس الملحن عمرو مصطفى مقام الصبا، ليدخل ويخرج منه بطريقة تحسب له في مقطع “ياللي شفت الدنيا زيك والحنان مكنش عندك“، وهو المقطع الأقوى في الأغنية.
أغنية “تعالي نعيش” [كلمات عصام حسني وألحان علي شعبان] وضع لها شعبان لحناً حزيناً ومنكسراً بدون مبرر واضح. فالكلمات تتحدث عن شخص يحب إنسانة سعيد بها ويطلبها للزواج أو العيش معها للأبد ويوعدها بالاخلاص والسعادة: “جاي أقول وأعلن لكل الناس بحبك، حب يمكن مرة في العمر تلاقيه، بوعدك هافضل لآخر عمري جنبك، وابقى أجمل حلم عشتي بتحلميه“.
يحاول الموزع محمد هارون في القرار وقرب نهاية الأغنية التعبير عن جيشان المشاعر بإدخال آلة الإليكتريك غيتار مع غناء حسني، مختتماً الأغنية في النهاية بصولو يعبّر عن تدفق المشاعر كاملة الذي يستدعي الصمت، ربما يكون وهذا الجزء هو الجزء المنطقي الوحيد في الأغنية.
“خلينا أخوات” [كلمات وألحان تامر حسني أيضاً] يبدأ حسني بصنع أغنية تقليديّة تماماً يضرب بها على أزرار النجاح التجاري المضمون. إلا أن اللحن والغناء يبدءان في التصاعد بعد منتصف الأغنية، بداية من مقطع “سامحني أنا فعلاً مش هاقدر أكون قدامك ومبحبكش“، ليصلا للذروة في جملة “أنا بكرهك يا قلبي. مابتروحش غير للي بيجرحك“، ويوضح فرق اللحن والغناء والتوزيع مع السذاجة الكبيرة الواضحة للكلمات. توزيع طوني مجدي جاء جيداً إلى حد كبير (أفضل توزيع في الألبوم) باستخدام متميز لآلات الساكسفون والباص جيتار والكمنجات (بأداء قوي في الخلفية)، والمعالجة الصوتيّة بخاصية الـdoubling والـ choralization المستخدمان لإعطاء زخم أقوى لمشاعر الغناء. كما جاء القطع الموسيقي في جملة “هو في أصلاً بعدك حد؟” للتعبير عن الفراغ والخواء والوحدة رداً على السؤال، كحركة ذكيةّ وموفقة، وأيضاً البناء الموسيقي المتصاعد حتى الذروة التي حافظ على طاقتها حتى نهاية الأغنية كان موفقاً للغاية.
(حبيت اتنين) [كلمات تامر حسني وألحان عبد الرحمن شوقي] أغنية كلاسيكيّة عن حيرة شخص يحب اثنين، لحن عبد الرحمن جاء رشيقاً لكنه لم يرفع مستوي الكلمات المكررة إلي موضع بعيد عن مكانها، التوزيع أيضاً جاء عادياً من جلال فهمي وحسين البيجرمي. الأغنية هي تكرار لتيمة عاودها حسني باشكال مختلفة علي مدي ألبوماته السابقة.
“ياريت ترضي” [كلمات نصر محروس وألحان محمد يحي] بتوزيع أحمد ابراهيم الذي اختار لها موسيقى إسبانيّة هادئة بالغيتارات، تتحدث عن المصالحة والمسامحة بعد الخصام. مرة أخرى، يلعب حسني على الخلطة التقليديّة مضمونة النجاح من دون أي إضافات أو خروج عن النَص يحسب كبصمة له أو للقائمين على الأغنية.
“غربة” [كلمات وألحان تامر حسني] هي أغنية “وطنية” يحاول حسني أن يقلبها رومانتيكيّة باستغلال مساحة الحنين والغربة كمدخل للموضوع، لتخرج بالنتيجة الأغنية في غاية السطحية: “من فينا اتغرب بمزاجه. حضنك يا بلادي محتاجة. صدقيني صدقيني وحشتيني وحشتيني. آه من الغربة آه“. حاول حسني عكس إحساس الحنين في اللحن، لكن اللحن خرج تقليديّاً أيضاً لا جديد فيه، كما جاء توزيع أمير محروس بنفس الطريقة.
يختتم تامر الأسطوانة بأغنية الثنائيّة “يا ريته يستاهل” [كلمات وألحان تامر حسني] مع المغني بهاء سلطان الذي داوم تامر على الاشتراك مع في ثنائّيات ناجحة جماهريّاً السنوات الماضية، أولها وأشهرها “قوم أقف“. والأغنية غير الصادرة “راجعلي ليه” التي غنتها بعد ذلك أصاله في أسطوانة “حياتي“. الأغنية بتوزيع تقليدي راقص لأمير محروس يغمرها إحساس التمرد والتحدي المعروف به تامر حسني: “وأنا بعمل في نفسي كده ليه. وعشان إيه. أنا ليه في حقي بتساهل؟ هو العمر فيه أصلاً إيه عشان أبكي عليه. وياريته حد يستاهل“، لكن كان تفوّق سلطان علي حسني في الغناء واضحاً.
يعاود تامر تكرار تناول نفس الموضوعات بنفس الطريقة، بنفس الرؤية الموسيقيّة بلا تغيير بصورة مدهشة على مدار مشوار فنيّ يمتد لـ11 عاماً. هذا التكرار يستدعي الوقوف أمامه، لماذا هذا التكرار وكيف؟
التكرار هنا ليس سمة جماليّة، بل ثقافيّة، كتكرار قهري جمعي مشترك بين صانعي الأعمال الفنيّة والجمهور المتلقي/المستهلك. فعل التكرار هذا لا يعني فقط ثباتاً على منطق معين مُصدّر للأمور وتناول وحيد لها، بل يعني أيضاً وبالأهم وسيلة دفاع وحصانة ضد متغيرات الحياة نفسها. هو قرار داخلي يحسب آليات السوق ومكوّنات الذائقة التي تتشكّل بصورة تبادليّة بين الطرفين، وذلك بتجاهل التغيرات الجمّة الجذريّة التي طرأت في آخر عقد من التاريخ الأكثر التصاقاً وقرباً، والتي استدعت وفرضت أشكالاً جديدة من الإبداع والتعبير والتصور، للوصول في نهاية الأمر للثبات على صورة واحدة رسميّة داخل فضاء رموز يتم قبولها واستساغها وتداولها والقياس عليها. في هذه الحالة لا يكون الفنان عبداً لما يطلبه المستمعون، ولا المستمعين عبيد لمواصفات فنيّة مصّدرة لهم، بل أسري للاثنان لعملية التكرار التي يتم الاشباع من خلالها عن طريق تنفيذ المتوقّع وما تم استهلاكه في كل مرة.
يلاحظ أن حسني طرح الأسطوانة كاملةً على قناته الرسميّة على موقع اليوتيوب. هل هذه وسيلة جديدة للدعاية، أم تسليم للأمر الواقع في وجود حركة واسعة لتحميل وسماع أغاني الأسطوانات التجاريّة على الانترنت مجاناً؟ أم، وهو احتمال قائم أيضاً، أن الأسطوانة كانت مجرّد إثبات وجود محلي – الأغنيات مرفقة بترجمة إنجليزية – حتى يثبّت صورته في الخريطة العالمية كمغنٍّ يمثّل طليعة الثقافة الموسيقيّة المحليّة (الشرقيّة) ويوازن بها عمل الأكبر والأهم بالنسبة له، أي الأسطوانة الأميركيّة التي سيصدر هذا العام؟
البدء بموهبة ما بلا طموح لإنجاز خصوصيّة جماليّة أو طريق يتخذ من المخاطرة والتجريب وسيلة للعب والمتعة، يجعلها تسقط بالتدريج فى التبعية لفخاخ كالشكل، والكليشيه والإنجاز “بالمعني السلبي“، والخوف على النجاح والتكاسل نتيجة ضمان قبول الجمهور المستهدف للمنتج الفني على أى حال بخلطة محددة سلفاً. مما يؤدي في النهاية إلى السقوط في الشكل الأكثر بؤساً للتكرار القهري المفرّغ من أي ابداع أو تجديد.
من الممكن إطلاق مسّى “المحدوديّة النفسيّة والفكريّة” على هذه الحالة، والتي تتعلق ببنيّة الثقافة ككل، كجسد أقرب للعشوائيّة وعدم التجذّر والتساوق في أبسط معانيه. ليس غريباً أن يكون خطاب تامر حسني الشخصي، بجانب خطابه الفني، محافظاً تقليديّاً علي كل المستويات رغم تلك الصورة التي يصدّرها كشاب متمرّد خارج عن الأطر والتقاليد.