fbpx .
أرفو بارت معازف تينتينابولي موسيقى كلاسيكية مسيحية Arvo Part Christian Classical Music Tintinnabuli MA3azef

مقامات آخر القديسين | موسيقى أرفو بارت المسيحية

محمد عمر جنادي ۲۰۱۹/۱۰/۰۷

الانطباع الأول عند رؤيتك لصورة أرفو بارت هو أنه ليس من هذا الزمان، وجه كوجوه القديسين كما تصورهم الرسوم المسيحية: لحية طويلة، وعينان تشعان نقاءً وألمًا، وفهمًا. صار هذا الملحن الإستوني نفسه أيقونة موسيقية معاصرة. 

يمثل أرفو بارت، المؤلف المولود في إستونيا عام ١٩٣٥، حالة فريدة في تاريخ الموسيقى العالمية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ربما المثال الأقرب له في الفن هو المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي، المولود قبل بارت بثلاثة أعوام. فنانان من نفس الجيل تحت سلطة الاتحاد السوفييتي، تمكّن كلٌّ منهما من وسيطه، وقدما أعمالًا مغايرة وتقدمية بالمعنى الفني، رغم شخصيتيهما المحافظة دينيًا. رحل تاركوفسكي مبكرًا، أما بارت، الذي أكمل عامه الرابع والثمانين أيلول الماضي، فيُعتبر اليوم أكثر موسيقار حي أُديت أعماله.

في حين لم يعبُر من تديُّن تاركوفسكي المسيحي إلى أفلامه سوى المشترك بين كل الأديان من روحانية والعلاقة بالإله، جاءت موسيقى أرفو بارت أكثر مسيحيةً. المثير للفضول في الأمر هو مدى كون هذا الوجه من شخصية بارت ردةً فنية إلى عصورٍ ماضية، ومدى كونه دافعًا للابتكار جعله ربما أهم موسيقارٍ حَي.

https://youtu.be/MmBrepbZji0

عقيدة | البحث عن الأسلوب 

التحق بارت بكونسرفاتوار تالين، العاصمة الإستونية، نهاية الخمسينات، وعمل حتى عام ١٩٦٧ في القسم الموسيقي في إذاعة إستونيا. لاقت أعماله المبكرة استحسانًا في أوروبا الشرقية، خاصة بعد فوزه بالمركز الأول في إحدى المسابقات المقامة للملحنين الشباب في دول الاتحاد السوفييتي. 

ثمة وجه لأرفو بارت غير معروف للكثيرين. أعمال أرفو بارت الرئيسية ومقطوعاته الأيقونية الأكثر انتشارًا هي المؤلفة منذ منتصف السبعينات وحتى مطلع الألفية الجديدة. المدهش أن بارت في بداية الستينات أبدى اهتمامًا متزايدًا بنظام الاثنتي عشرة نغمة، النظام الهارموني الذي ابتكره الموسيقار النمساوي الكبير أرنولد شونبرج مطلع العشرينات، بل وقام في أعماله المبكرة بالتأليف والتجريب ضمن نظام شونبرج شديد التعقيد. تأتي الدهشة من أن أعمال بارت البارزة تكاد تكون مناقضة تمامًا لأعمال شونبرج وتلامذته فيما يُعرف ﺑ مدرسة فيينا الثانية، من حيث تأثيرها وتناغمها وبساطتها.

عام ١٩٦٠، ألف بارت أول مقطوعة للأوركسترا بعنوان نكرولوج Nekrolog وفق نظام الاثنتي عشرة نغمة، لتصبح بذلك أول مقطوعة إستونية تستخدم هذا النظام. أثارت المقطوعة جدلًا وردود أفعال متباينة نظرًا لطبيعتها الحداثية المناقضة للنهج السوفييتي، ووصفها رئيس اتحاد الموسيقيين السوفييت بأنها “موسيقى الطليعة البرجوازية.” 

من الصعب على المستمع التعرف إلى أرفو بارت في هذه المقطوعة. تبدو نكرولوج أقرب إلى أعمال إيجور سترافنسكي المتأخرة المعتمدة على نظام اﻟ ١٢ نغمة. تتكون المقطوعة من موتيفتين، إحداهما تعبيرية، توحي بالنشاز والحدة ومتخمة بالأصوات الصاخبة، بينما تحتوي الأخرى على صولو أوبوا / مزمار، أكثر شفافية وتعبيرًا عن الألم. لا يسير بارت بصرامة وفق البناء النغمي لنظام شونبرج، إنما يسعى من خلاله إلى مزيد من البوليفونية. رغم الجدل المثار وقتها، أدتها أوركسترا موسكو السيمفوني عام ١٩٦١، وقُدمت بعدها بسنوات في لِننجراد وجنيف.

عام ١٩٦٨، قدم بارت عمله الكورالي كريدو Credo، مقطوعة للبيانو، الكورال، والأوركسترا. منعت سلطات الاتحاد السوفييتي كريدو، التي تعني عقيدة بالإيطالية، إذ تصرّح المقطوعة علانيةً بالإيمان بالمسيح بإنشاد الكورال في مطلعها: ” أنا أؤمن بالمسيح.” 

يستخدم بارت في كريدو التركيبات والإمكانيات والتآلفات الهارمونية التي يوفرها نظام شونبرج. عند منتصف المقطوعة يتزايد التنافر إلى حدوده القصوى، ربما لدرجة تجعلها عصية على الاستماع عند بعض المتلقين. ينزع بارت في توليفه الهارموني إلى تأكيد المقامية Tonality في موسيقاه. كأن المقطوعة تسعى إلى توحيد مقامها أو محورها المقامي، وهو ما يقاومه نظام شونبرج النغمي أشد مقاومة. المفهوم الرئيسي لنظام الاثنتي عشرة نغمة هو أنه لا توجد تفرقة بين التوافق والتنافر، كما يخلق الاستخدام المتزايد للتوليفات الهارمونية غير محددة المقام تدميرًا للمقامية، أي العنصر البنائي الأهم في موسيقى بارت اللاحقة.

لم تكن كريدو إعلانًا عن إيمان بارت المسيحي فقط، بل كانت إيذانًا بنهاية مرحلة التجريب والتأليف وفق نظام الاثنتي عشرة نغمة. ختمت كريدو محاولات أرفو بارت الشونبرجية، وكان قد سبقها تلحينه لسيمفونيتَيه: الأولى عام ١٩٦٤ والثانية عام ١٩٦٦. واجه أرفو بارت مأزقًا إبداعيًا بعد مقطوعته العقائدية. قطعًا، لم يكن الأسلوب الذي اختاره بارت مناسبًا للتعبير عما أراده من أفكار ورؤى، ويكتسب هذا اليقين وثوقيّته من معرفتنا بمجمل مسيرة أرفو بارت، وما توصل إليه من استغلال وجوه شغفه في تدعيم أسلوبه، وما عبّر عنه في موسيقاه.

قبل تحليل التناقض بين تصورات أرفو بارت والأسلوب الذي استعاره من شونبرج، يجب علينا أن نتناول تفاصيل أسلوبه، الذي لم يكن مجرد تكنيك تلحيني، إنما موقف من الحياة، نوع من العقيدة الشخصية، منها المستمَد من التراث المسيحي، ومنها ما يعتبر بحثًا ذاتيًا عن المعنى، وتأويلًا خاصًا للجمال.

سنوات الصمت | على طريق تينتينابولي

بعد منع كريدو، دخل بارت في فترة من انقطاع التأليف استمرت لعدة سنوات، عُرفت فيما بعد ﺑ سنوات الصمت، قام خلالها بالبحث في الموسيقى منذ بدايتها المبكرة ودراستها. أنمى بارت خلال بحثه ولعًا بنمط من الموسيقى الطقسية / الشعائرية للكنيسة الكاثوليكية يطلق عليه الإنشاد الجريجوري. تطور هذا النوع في القرنين التاسع والعاشر، ويقوم على مجموعة متنوعة من التراتيل لا يزال معمولًا بها في الكنيسة الكاثوليكية في جميع بقاع العالم. سُمي كذلك نسبة إلى جريجور الأكبر الذي تولى البابوية من عام ٥٩٠ إلى ٦٠٤ ميلادية، وتُنسب إليه إنجازات كثيرة فيما يتصل بالنظام المقامي الكنسي.

على مستوى المضمون، لا يختلف عمل أرفو بارت الأخير، حينها، عن موسيقى الكنيسة المسيحية الوسيطة؛ وليس من قبيل المصادفة اختيار بارت كلمة كريدو كعنوان لمقطوعته، فهي أحد الأجزاء الخمسة في صيغة القداس العادي Ordinarium Missae، وتمثل قانون الإيمان “أؤمن بإله واحد” الذي قررته الكنيسة عام ٣٢٥ م في مؤتمر نيقيا. 

يختلف نظام الغناء الجريجوري (أو البسيط) اختلافًا عظيمًا عن نظام الاثنتي عشرة نغمة. النظام الجريجوري مقامي، قُسمت فيه المقامات إلى أصلية وفرعية طبقًا لبنائها الداخلي، كما يوضح المؤرخ الموسيقي ثيودور م. فيني. يبين فيني أن المقامات الكنسية الجريجورية أصبحت “الحلقة الهامة التي تربط بين الممارسة الموسيقية القديمة بأكملها وبين المقامية الحديثة.” أما نظام شونبرج فهو متنافر، لا مقامي، يقاوم “بلوغ التناغم”، بتعبير أدورنو؛ وبدلًا من تولد المواد التي يتكون منها البناء الموسيقي / الفورم من سلم مُحدد مسبقًا، تتولد من موتيف ينتخبه شونبرج من مجموعة من الأصوات لكل قطعة، كما يبين فيني في كتابه تاريخ الموسيقى العالمية. 

تسعى العقائد كلها إلى بلوغ حالة من التناغم، وتسعى العقيدة المسيحية، بصفة خاصة، إلى التناغم والانسجام والتوافق بين العديد من الثنائيات، بين الواحد والثالوث، بين الأرض والسماء، بين الإنسان والطبيعة، وبين الروح والجسد. من العسير الوصول إلى تناغم / توافق موازٍ في الموسيقى من خلال بنية نظام تقاوم التناغم وتنقضه.

ربما يفسر كل ما سبق حالة الصمت التي عاشها بارت لسنوات. حالة من الخلوة الإبداعية، بحث خلالها أرفو بارت بدأب عن صوته الخاص لا عن وحي سماوي يلهمه، عن لغة موسيقية تميزه، لغة تستلهم التراث وتسعى إلى التآلف بين التنافرات، إلى نوع من الوحدة. 

كانت النتيجة ابتكار أرفو بارت لما سماه أسلوب تينتينابولي Tintinnabuli style. الكلمة مأخوذة من تينتينابولام، وتعني الجرس الصغير باللاتينية. أسلوب بارت عبارة عن ثلاث نوتات من الأجراس، الجرس كطابع للصوت، ويقوم على نوعين من الأصوات: الأول صوت تتابعي يحدد التآلف الثلاثي Triad، والثاني دياتوني أي ناتج عن السلم الدياتوني (Diatonic Scale) المتدرج الذي يحوي خمس نغمات كاملة ونغمتين نصفيتين. يسير في حركة متدرجة على السلم الموسيقي. إيقاع بارت متمهلٌ تأملي، خلافًا لمؤلفات شونبرج مثلًا، فحتى أعماله المبكرة مثل السداسية الوترية ليلة التجلي، تثير القلق والتوتر كرد فعل تعبيري عن السياق التاريخي الذي كُتبت فيه، زمن صعود النازية والنزعات الشمولية. 

تحدث أرفو بارت عن أسلوبه الجديد في عدة مناسبات: “أعمل بعناصر قليلة للغاية، مستخدمًا صوت، صوتين. أقوم بالبناء بأكثر المواد أولية / بدائية، بالتآلف، بمقامٍ محدد واحد. النوتات الثلاثة للتآلف تشبه الأجراس.” 

كانت فُر ألينا (١٩٧٦) أول مقطوعة يؤلفها بارت وفق أسلوب التينتينابولي. مقطوعة قصيرة للبيانو من مقام سي الصغير، وتعبر عن سمات الأسلوب الجديد من حيث توظيف التكرار والصمت وضبط العلاقة بينهما. تتميز المقطوعة بالبساطة المطلقة، نظرًا لبساطة الأسطر اللحنية (ما يقرب من ١٥ بار / مازورة فقط)، لكنها تحقق، في مجموعها، نقاءً إيقاعيًا شديد الوضوح رغم تحرره، نتيجة عدم توقيع بارت للوقت. 

يمثل أسلوب بارت الجديد نوعًا من الانتفاضة الأسلوبية على التعقيد المركب لبعض المذاهب الموسيقية الحداثية، ومنها موسيقى شونبرج ذات التناول العقلي المحض. من خلال تنويعات على أنساق بسيطة، سعى بارت إلى البساطة منتهجًا التقشف كأسلوب فني، أو ما بات يعرف بمذهب التقليلية. 

مرآة في مرآة | تقليلية أرفو بارت

قبل نهاية السبعينيات، قدم أرفو بارت أعماله الأيقونية الأوسع انتشارًا: فراترس (١٩٧٧)، تابولا راسا (١٩٧٧)، وشبيجل إيم شبيجل (١٩٧٨).

قدم بارت رائعته فراترس، وتعني أخوة باللاتينية، في أكثر من نسخة: كمقطوعة لرباعي الوتريات وخماسي النفخ / الرياح wind quintet، وكذلك للتشيلو والبيانو، ثم للكمان والبيانو، وهي المقطوعة الأكثر انتشارًا. في نسخة الكمان والبيانو، تبدأ المقطوعة بجملة تتابعية سريعة من الكمان، أقرب إلى الباريولاج في صيغته الباروكية. توحي البداية المطّردة للمقطوعة بالصراع، وتخلق كثافة يستحيل على المستمع أن يتجاهلها. يقطعها البيانو بضربة مفاجئة حادة، كمن يقاطع حديث الآخر. يمكن تأويل المقطوعة بوصفها محاورة أو جدال محتدم بين أخّين. ربما قابيل وهابيل. طوال أخوة نتعرف على نغمة هادئة، ربما تعبر عن رابطة الأخوة الواهية، ثم لا تلبث أن تتسارع وتحتد، مهددةً بقطع الرابطة نفسها، وتكون النتيجة النهائية هي الصمت. 

تُمثل أخوة تحديًا لعازفي الكمان، وكما تقول عازفة الكمان الشهيرة آني أكيكو مايرز عن المقطوعة: “إن أبسط الأشياء هي أكثرها تحديًا. تنظر إلى الصفحة أمامك وترى نوتات قليلة للغاية مكتوبة فوقه. عليك أن تفطن إلى الأطياف / الدرجات اللونية العديدة، بين ظلال اللون، والمتأصلة بعمق في النوتة، ويجب عليك أن تستنطقها وتجعلها تتكلم بأسلوب متمهل.”

في نفس العام، ألف بارت رائعته تابولا راسا، كونشرتو مزدوج لاثنين من صولو الكمان، بيانو معدل، وأوركسترا الحجرة، وهي التي قدمته إلى الجمهور الأوروبي خارج إستونيا والاتحاد السوفييتي. المقطوعة مُهداة إلى عازف الكمان جيدون كريمر، ومكونة من حركتين: الأولى عنوانها لودُس Ludus أو لعبة باللاتينية، والثانية سايلنتيُم، أي الصمت. الأصوات اللحنية في الحركة الأولى من مقام لا الصغير. تنتظم في الحركة التنويعات الوترية في علاقتها مع فترات الصمت. تبدأ الحركة بصولو الكمان وبعد فترة من الصمت نسمع الوتريات. يستمر الكونترباص في عزف النغمات المنخفضة. الحركة الثانية: صمت، مناقضة للأولى في ثيمتها وسرعتها، وهي من مقام ري صغير. قسّم بارت الآلات فيها إلى ثلاثة أقسام: صولو كمان، كمان أول وثاني، فيولا وتشيلّو. تحتوي الحركة على أصوات مختلفة تتحرك بسرعات إيقاعية متباينة.

يخلق الغنى الداخلي للمقطوعة تأملات متنوعة عن الشك والإيمان والمعرفة. ضمن دلالات العنوان ما تعتبره بعض نظريات الإبستمولوجيا (المعرفة) الحالة البكر أو الخام للعقل الإنساني، قبل أن تنطبع عليه أي تفاعلات أو تصورات ناتجة عن الحواس والتجربة وإدراك العالم الخارجي، أو ما يُعرف ﺑ الصفحة البيضاء أو اللوح الفارغ (الترجمة الحرفية لاسم الكونشرتو). كأن موسيقى بارت محاولة للوصول إلى حالة من الصفاء، بحث عن البراءة المفقودة، أو الرجوع بالعقل والروح ومعهما بقية الحواس إلى الصفحة البيضاء. تؤمن موسيقاه بإمكانية تحقيق ذلك، لأنه، حسب إيمانها، ليست كل الجوانب الشريرة في الإنسان مسبقة أو أصلية، وتأتي روح الإنسان إلى العالم نقية، كالصمت.

أما المقطوعة الأثيرة الشهيرة شبيجل إيم شبيجل، وتعني مرآة في مرآة، يقدم فيها بارت موسيقى أشبه بالمرايا في بنيتها، حيث الصورة الواحدة لها أكثر من انعكاس. يحقق بارت ذلك من خلال العلاقة التي يكونها بين نوعين من الأصوات: اللحني الدياتوني، والجرسي tintinnabula الذي يحدد نفسه من خلال تآلف تُعد نوتته الأساسية من الدرجة الأولى، أو كورد من الدرجة الأولى (Tonic Triad)، كما هو مُتبع في أسلوبه. 

يبني بارت المقامية من سلسلة توافقية بسيطة، وأصوات تتابعية. وتترافق نغماته في تآلف يشبه، في رأيي، الكورد أو التآلف التصوفي، الذي ابتكره سكريابين. ليس من قبيل المفارقة أن كلًا من سكريابين وبارت رأيا الموسيقى كألوان. 

صوت الكمان تصاعدي وتنازلي، وفي الخلفية جملة البيانو الهادئة، متتابعة ومتصلة بلا انقطاعات، مع إيقاع باعث على التأمل.

تكتسب موسيقى بارت عالميتها من لغتها الشعرية الفريدة، فهي، رغم استلهامها للتراث المسيحي، لم تمثل ردةً فنية إلى عصور فائتة أو توظيفًا للموسيقى في خدمة الدين، قدر كونها محاولةً لإضافة أبعاد تأملية وروحانية إلى الموسيقى.

الغفران | الإيمان أسلوبًا

في حواره مع المغنية بيورك، يخبرنا بارت عن أسلوبه قائلًا: “إنه يتكون من خطين، أحدهما هو خطاياي ، والثاني يمثل المغفرة. صوتين، أحدهما معقد والآخر بسيط.”

يخلق أرفو بارت مقاربة موسيقية للمقدس. يمكننا أن نرى في الكورد الثلاثي، بين الثلاث نوتات، معادلًا للعلاقة بين الوحدانية والثالوث بالمعنى اللاهوتي. أي أنه يسعى إلى نوع من الوحدة في موسيقاه كموازاة أو محاكاة لمعضلة العلاقة بين الواحد والأقانيم الثلاثة (الأب والابن والروح القدس) في المسيحية. إذن، العلاقة بين الخطين علاقة غفران، والعلاقة بين النوتات قائمة على الوحدانية. 

لا يُظهر أرفو بارت الموضوع كما يتبدى مباشرة، إنما يتمثل المضمون، وهو الإيمان المسيحي في هذه الحالة، ويضفي تصوراته الذاتية. صار المضمون شكلًا. في الوقت الذي اتجه فيه بارت إلى أسلوب أكثر بساطة من حيث الشكل والبنية، صار مضمونه أكثر ثراءً، مقارنة بالتعبير المباشر والدعائي في كريدو، عمله الكورالي ذي التركيب الشكلي المعقد. 

فن أرفو بارت عبارة عن تجسيد أسلوبي للإيمان. في هذا التجسيد الأسلوبي توجه نحو التجريد الموسيقي، لذلك يكتسب الإيمان أبعادًا أخرى، وينطلق من فضاء المعنى اللاهوتي إلى فضاءات أكثر إنسانية.

توضح عازفة الكمان مايرز أن أصولها اليابانية تمكنها من فهم واستيعاب الطبيعة الروحانية لموسيقى أرفو بارت. يمكننا تفهم تصريحها، رغم المسافة الكبيرة بين اليابان والمسيحية، لأن جوهر التناغم يظل واحدًا. يمكن للمسعى التناغمي عند بارت أن يُنتج دلالات أخرى، لها أصولها أو ما يدعمها في ديانات وعقائد وفلسفات غير المسيحية، منها السماوي والإنساني.

في تلقي موسيقى بارت، يمكن إحلال مجموعة مختلفة من المفاهيم عبر التأويلات المختلفة. مثل السعي إلى الانسجام بين الإنسان والعالم والإله، أو الروح والجسد والعقل، أو الإنسان والطبيعة والزمن.

الملاك الحارس | مرثيات وصلوات

تتسم أعمال أرفو بارت الكورالية، وكذلك مقطوعته الخلابة عن الموسيقار البريطاني بنجامين بريتن، بأجوائها الجنائزية، وتُشكل، مع أعماله اللاحقة، مرثية إنسانية هادئة. 

استمر بارت في أستخدامه لأسلوب تينتينابولي، وفي مقاربته التقليلية للموسيقى طوال العقود الماضية. لكن تبدو التقليلية التي انتهجها بارت مغايرة ومتمايزة عن مجمل الإنتاج الفني لهذه الحركة أو المدرسة الفنية. في ماجنيفيكات (أنشودة الروح – ١٩٨٩)، عمل كورالي من خمسة أجزاء، نلحظ التكرارية في تكوين المقطوعة، والتي تعزز الإحساس بالأبدية. في تي ديوم (١٩٩٣)، أو إليك، أحد أعمال بارت الكورالية الهامة، يقدم بارت صيغة كورالية تُحاكي في بناءها وأصواتها بنية القداس في المسيحية المبكرة وعصر النهضة، ويحاول أن يخلق زمنًا لا نهائيًا في مقطوعته من خلال الأهمية المركزية للطنين drone الناتج عن صوت قيثارة / هارب الرياح. متبعًا أسلوبه المميز في خلق الهارموني، يخلق بارت تفاعلًا بين الجمل اللحنية، في محاكاة للبوليفونية الكورالية لعصر النهضة. أما دا باسم دومين – صلاة السلام (٢٠٠٤)، التي كتبها بارت بعد تفجيرات مدريد كذكرى للضحايا، مكونة من حركة واحدة، ترنيمة من القرن السابع مأخوذة من آيات من سفر الملوك وسفر المزامير.

بين السيمفونيات الأربعة التي لحنها بارت، الرابعة هي الوحيدة المؤلفة وفق أسلوب الهارموني الخاص به. ألفها بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا على سيمفونيته الثالثة، والتي تعتبر عملًا تجريبيًا اختبر فيه بارت الأساليب المتاحة، وتعتبر مرحلته الانتقالية بين نظام الاثنتي عشرة نغمة ونظامه الخاص. قُدمت السيمفونية الرابعة للمرة الأولى في لوس أنجلُس بواسطة أوركسترا لوس أنجلُس الفيلهارموني عام ٢٠١٠، وهي معروفة بسيمفونية لوس أنجلُس، وتقدم معالجة لفكرة الملاك الحارس في النصوص المقدسة.

يشترك بارت مع التقليلية في سماتها العامة، من توظيف الحد الأدنى من المواد في البناء الموسيقي، والتكرارية والإيقاعات المتمهلة، وكذلك أنساقها العامة في الكيفية التي تتخلق منها الهارمونية. لكن يتمايز بارت عن بقية التقليليين بكونه يضمّن موسيقاه أبعادًا سردية مستمدة من النصوص الدينية. كما يعمل التكرار في مقطوعاته، وهو سمة في النصوص الدينية المكتوبة، على الوصول إلى نقطة توافق وتناغم بين الأصوات. أي يبدأ من التنافر dissonance وغايته الوصول إلى نوع من التوافق consonance، وقاعدته في ذلك بدائية وهي حكم الأذن. ربما تكون توافقات بارت غير تامة ناتجة عن رنين صوتين معًا، ويحتفظ كلاهما بشخصيته المستقلة. لذلك نراه، في أحد الأفلام الوثائقية التي تصور حياته وأسلوبه، يضع يديه خلف أذنيه ويصيخ السمع لصوت المطر ودقاته على الطبيعة من حوله، على الأشجار والزرع والمصاطب الرخامية في الحديقة. 

يحقق أرفو بارت مقامية جديدة، لا يؤسسها فقط بواسطة طنين يُسمع على مدار المقطوعة، كما هو شائع في التأليف التقليلي، إنما من خلال تشككه في حقيقة اللامقامية. اللامقامية ظاهرة ناتجة عن عجز الأذن عن إدراك المقامية الأساسية Fundamental Tonality، بتعبير ثيودور فيني، والتي هي موجودة في الواقع، ويبحث عنها بارت كمتصوفٍ مخلص، ويحاول أن يخلقها بعذوبة دون هيراركية أو تراتبية صارمة بين الأصوات.

تراجيديا آدم | نزع الهالة أم إعادة إنتاجها؟

يوضح الناقد والمفكر الألماني فالتر بنيامين أن للفن الغربي أصوله في الإيمان الديني. في العصور الوسطى كان الرسم والموسيقى يعبران عن إلهام سماوي وكانا جزءًا لا يتجزأ من الطقوس والشعائر الدينية. بفضل هذه السماوية نتج ما يسميه بنيامين هالة العمل الفني: عندما صار من الممكن في الحقبة المعاصرة إنتاج الأعمال الفنية إنتاجًا جماهيريًا من خلال النسخ الآلي عن طريق التسجيل والتصوير الفوتوجرافي وغيرهما. لم تعد صفة الأصالة في العمل الفني متعلقة بكونه العمل “الأصلي” الموثوق ، بل صارت مرتبطة بمدى ما يحققه أي عمل من فرادة، إذ تفقد قاعة الموسيقى الصفة المقدسة المصبوغة على الكنيسة والكاتدرائية. يفضي توفر نسخ كثيرة من العمل الفني إلى الحد من هالته. 

هنا يجب أن نطرح سؤالًا حول موسيقى أرفو بارت، ما إذا كانت تحاول إكساب نفسها قيمة من خارجها، أو دفع محبيها إلى إسباغ صفة الأصالة عليها من خلال ربطها بهالة المقدس. بمعنى آخر: كيف تكتسب موسيقى أرفو بارت أصالتها وقيمتها؟ 

أعمال أرفو بارت منتجة للهالة بالفعل، لكنها لا تربطها بقيمة العبادة أو الطقس. يمكننا القول إنها تسعى نحو الهالة بمعناها الأساسي. تعني كلمة أورا aura التي يستخدمها بنيامين “العبق أو الشذى أو الفيض الذي ينبعث من الأشياء الحية، الشيء الجوهري الذي يتفرد به شخص أو شيء” كما يشرح الكاتب أحمد حسان، مترجم مقالات بنيامين. يؤكد بنيامين نفسه على أن “تفرد عمل فني لا ينفصل عن كونه منغمسًا في نسيج التقاليد”، لأن التقاليد ذاتها متغيرة بصورة بالغة وفقًا للسياق التاريخي. يضرب بنيامين مثالًا بتمثال فينوس، فهو موضوع للتبجيل عند الإغريق، بينما “ينظر إليه كهنة العصور الوسطى باعتباره صنمًا مشؤومًا.” 

لذلك يمثل انغماس موسيقى بارت في التقاليد، واستلهامها للموسيقى الكنسية وموسيقى النهضة، تحديًا لا استسهالًا، لأنه يأتي في عصر أعلن نهاية القداسة، وينظر فيه كثير من مُعاصري بارت إلى الفن بوصفه نقيضًا للمقدس.

في عمله الأخير، حتى الآن، يرجع أرفو بارت إلى الأصل المشترك لكل الإنسانية، آدم. ينسج أرفو بارت من التراجيديا الإنسانية لآدم مقطوعته مرثية آدم، لأوركسترا الجوقة والوتريات. يرى بارت آدم كرمز موحد للمعاناة الإنسانية، وكيف واجه عاقبة الخطيئة، وتعذب بسببها دون أن يجد عزاءً من أحد. مرثية آدم مأخوذة عن نص للقديس سيلوان الأثيني، الذي كان راهبًا أرثوذكسيًا شرقيًا من أصل روسي. 

عودة أرفو بارت إلى آدم ذات دلالة كبيرة، إذ تخبرنا عن غاية الموسيقى عنده. لا تسجّل قصة الجنة “سقوط الإنسان وحسب، بل سقوط اللغة كذلك”، كما يوضح ديفيد لودج. يقول الكاتب الأمريكي بول أوستر على لسان شخصيته الشهيرة، بروفسور اللغويات ستلمان، إن إحدى مهام آدم فى الجنة خلق اللغة، وإعطاء كل خلق وشئ اسمه، كان لسانه ينطلق مباشرة إلى قلب العالم، ولم تكن كلماته مجرد لواحق بالأشياء التى يراها، وإنما كانت تكشف جوهرها وتبعثها إلى الحياة، ثم يضيف: “وبعد السقوط، تغير الحال. انفصلت الأسماء عن مسمياتها وتحولت الكلمات إلى مجموعة من العلامات التعسفية، وانفصلت اللغة عن الخالق.” 

يمكننا القول إن موسيقى أرفو بارت تحاول محو نتائج الخطيئة الأولى لآدم، وتسعى إلى الاستعادة المستحيلة لحالة البراءة التى كانت موجودة قبل السقوط، حين كان الشئ واسمه واحدًا. موسيقى خلقتها الحاجة إلى النفاذ إلى قلب العالم والأشياء.

https://www.youtube.com/watch?v=UCx-Meklym0

تنقل بارت بين عدة أماكن. انتقل إلى فيينا عام ١٩٨٠، ثم استقر بعدها في برلين لسنوات. لكنه في العودة النهائية إلى إستونيا، حقق التناغم في الواقع كما حققه في الموسيقى، عن طريق المنزل ومركز الموسيقى اللذَين أقامهما وسط غابات إستونيا وسكونها وطبيعتها الخلابة. 

ينسج بعض الموسيقيين الموسيقى من الضوضاء، الضجيج، لكن أرفو بارت ينسجها من الصمت. لا ينطلق بارت من السكون، إنما يصل إليه من خلال ضبط التنافرات، ليصل إلى حالة من التوافق تشبه حالة السكون الأولى التي كان عليها الكون، فيما مضى، كل الكون. تلك الحالة من النقاء التي تسعى إليها كل الموجودات، بما فيها الإنسان.

المزيـــد علــى معـــازف