.
توقّفت عن توقّع الكثير من الموسيقى الأردنيّة “البديلة” منذ أكثر من عام. لكن من المؤسف أن تعيدني إلى الكتابة عنها حادثة الاعتداء الجسدي واللفظي على الموسيقيّة غيا ارشيدات وأعضاء فرقتها في حفلها ليلة الأمس بعد تعليق ساخر لأحد العازفين حول برودة القاعة، وتساؤله عمّا إذا كان “الديزل” ]للتدفئة[ سعره ارتفع على الحكومة أيضاً. فبينما وصل القمع النّفسي للعاملين في الثقافة إلى حدود الاعتداء الجسدي، يعود نفس التساؤل حول مصداقيّة هذا الإنتاج الموسيقيّ وارتباطه بالقضايا التي يدّعي الدّفاع عنها. ما يدفع لتخيّل آلاف ممّن يعانون من غلاء أسعار المحروقات خارج هذه القاعات للاحتجاج.
لم يكن “مسار الجحيم” الذي اخترعته قوّات الدرك لتضرب، بكل ما يمكن حمله، الهاربون من دوّار الداخليّة يوم 25 آذار 2011، أبشع ما مثّله قمع النظام الأردنيّ للمتظاهرين حينئذ. بعد ذلك اليوم، تجوّلت سيّارات وحافلات تسلّق عليها ملثّمون بأسلحة أوتوماتيكيّة في عمّان، معلنين “استعادة العاصمة”. بعدها بيومين، اجتمعنا لدى منزل صديقة هرباً من الأماكن العامّة والجو المثقل بالإحباط الذي لم نستطع إلا أن نهرّبه إلى الغرفة الباردة تلك. وبين الانفعال والغضب والبؤس، اتّصل أحد أعضاء فرقة موسيقيّة “بديلة” طالباً أن يرانا. مثّلت أعمال تلك الفرقة كل ما فقدناه في الطريق إلى التعرّف على هويّتنا، والتساؤل الأهم: إذا ما كانت هويّتنا هي هويّة المدينة الباردة. دخل الرّجل الباب وهو يغنّي الأغاني التي أسمعنا إيّاها المعترضون على الجانب الآخر من الدوّار، قائلاً وهو ينظر بعينين حمراوتين: “تستاهلوا”.
نشأت ما يسمّى بالموسيقى “البديلة” في الأردن من الحاجة إلى وصف الفراغ الثقافي في أحسن الأحوال. فمن الحانات غالية الثمن، إلى المقاهي التي تعلن عن معارضتها لاصطياد الحيتان والفقمات في المحيط الهادي، انتقل جمهور الموسيقى “البديلة” الأردنيّة ككتلة واحدة تماهت في منظومة صناعة هذه الموسيقى، وانعدمت المسافة بين المنتج ومنتجاته حتّى انعدم النقد والتأثير الأوسع المطلوب من هذا النوع من التعبير الفنّي. الأمر الذي أدّى، من ناحية أخرى، إلى ازدياد الفجوة بين ما يدّعيه هؤلاء الموسيقيّون، وبين ممارساتهم.
في 19 تشرين ثاني/ نوفمبر 2012، عادت مجموعة من المتظاهرين أثناء احتجاجات هبّة تشرين، ضد رفع أسعار الغاز والبنزين والديزل، من مخيّم جبل الحسين بعد ليلة حامية تعرّضوا فيها إلى الغاز المسيل للدموع، وللضرب واعتقال الزملاء. في نفس الليلة، ذهبت المجموعة، التي تفوح منها رائحة البصل، إلى حفل فرقة “المربّع” في إحدى الحانات غالية الثمن، لمشاهدة محمّد عبد الله وهو يغنّي بصوته الأثيري كأنّه يصف جزر بعيدة محاطة ببحر هادئ: “الغاز اتغلّى وتخصص، وانت ما عندك خبر”. والفجوة التي انهارت فجأة كانت صادمة: كان أثر هذه الجملة ليكون مدويّاً لو تم غناؤها في الشّارع، لكنّها انحبست في الحانة، وطفت على الرؤوس الغافية في أثيريّة الصّوت وتخديره.
ربّما نستطيع استعراض العشرات من الأسباب التي تؤدّي بموسيقيّ أردنيّ “بديل” إلى الانغماس في المتاجرة بالأعمال التي تحمل بعداً سياسيّاً واجتماعيّاً تقدّميّاً. أهم تلك الأسباب: الموسيقيّون، كغيرهم من العاملين في مجال الثقافة، لم يعد باستطاعتهم تحمّل ثمن البقاء خارج رأسملة حياتنا.
لكن أقسى ثمن يدفعه هؤلاء الموسيقيّون هو الحاجة إلى الدولة: من بثّ الأعمال على التلفزيونات والإذاعات، وحتّى استغلال المسارح والقاعات الفنيّة المملوكة لها. وهذا هو الثمن الذي دفعته الموسيقيّة الأردنيّة غيا ارشيدات وفرقتها في حفلها الأوّل الذي أقيم في مركز الحسين الثقافي ليلة الأمس.
الأخبار المتناقلة أن عازف العود طارق الجندي ألقى مزحة خلال تقديمه لإحدى المقطوعات في الحفل بقوله: “بدّي أحكي بس ميّت برد، شكله الديزل مرفوع حتّى عالحكومة”. وعند الانتهاء من الحفل، تهجّم بعض رجال أمن المركز على الجندي بعبارات مثل: “الحكومة على راسك”، و”أنتَ لست ابن هذه البلد”، “الحق على الحكومة التي وفّرت لك المسرح بالمجّان”. وينتهي الموقف بالاعتداء الجسدي. وتبدأ المطالبات بإقالة مدير المركز عبد الهادي راجي المجالي المؤيّد لمواقف النظام، والمعارض والمشوّه لحركات الاحتجاج الأردنيّة والعربيّة. وحتّى مقاطعة نشاطات المركز وغيره من المسارح والقاعات الحكوميّة.
على مدار الثلاث سنوات السابقة (2011، 2012، 2013)، لم تكن الصدفة وحدها التي وسّعت في الفجوة بين ما يدّعيه الموسيقيين “البديلين” والشّارع، كان الازدياد الجنونيّ في أسعار المحروقات هو ما يحدّد علاقة الموسيقيّين بالمجتمع. وبشكل أوضح: الغلاء هو ما يذكّر الموسيقيّين بأنّهم جزء من الشّعب الذين يضطّرون لدفع ثمن احتياجهم إلى الدولة يوميّاً: مقعد في حافلة متأخّرة، تدفئة الغرفة الثانية في المنزل، فاتورة الكهرباء بعد إضاءة سطح منزل أقيم فيه حفل زفاف أحياه مطرب شعبيّ.
قد تبدو أعمال غيا ارشيدات أبعد عن وصف الموسيقى “البديلة” في المثالين السابقين. إذ تنجز ارشيدات مقطوعات موسيقيّة متوسّطة الطول: لطيفة ولا تزعج أحداً، لكنّها تحمل رسائل جادّة أيضاً في عناوينها، وفي أسباب تأليفها. إلّا أن المطالبات التي بدأت بالظهور في مقاطعة مرافق الدولة الثقافيّة لن تحمل أثراً واضحاً. فالدولة قادرة على استنبات عشرات الفرق المسرحيّة التي تقتبس مشاهد أردنيّة باهتة، وعشرات الفرق الموسيقيّة التي تغنّي للوطن أو أجهزته الأمنيّة، وعشرات الفنّانين والكتّاب الذين يعتاشون على رعاية الدولة، وفي حمايتها.
لذلك، أصعب ما يمكن أن تقوله لموسيقيّ تعرّض للضرب للتو بسبب موقف سياسيّ تقريباً هو أن “جروحك ضروريّة”. لا لأن “كل عمل ثقافيّ هو عمل همجيّ بالضرورة” كما قال فالتر بينيامين، بل لأنّ مطالبة الدولة بالحريّات التي يجب علينا جميعاً أن نفرضها، مضيعة للوقت.
ولأن الوقت قد حان لإعادة تشكيل حراك ثقافي مستقل وصادق لما خارج القاعات المغلقة، ويعي بأن أسعار المحروقات هي الثمن المشترك الذي ندفعه جميعاً، موسيقيّين ومتلقّين، يوميّاً. وبأنّه إذا لم يمنح الفن صوتاً للبؤس والتخدير والحديث المستمر عن الهجرة، سيكون فنّاً انعزاليّاً واصطناعيّاً لن يجد من يدافع عنه أو يحميه.
الصورة من تصوير علي الحسني.