.
قبل 182 عاماً، نشر الموسيقي روبارت شومان المقال النقدي التالي تحت عنوان “أوبوس اثنان” (Opus II) في المجلة العامّة للموسيقى (Allgemeine Musikalische Zeitung) باللغة الألمانيّة. تداول المقال معزوفة فريدريك شوبن المرقّمة بـ“أوبوس الثاني” ذات مبنى “الصيغات” (variations) والتي كتبها عام 1827 وعمره 17 عاماً. يتخلّل مبنى “الصيغات” عدّة أجزاء يتكرر فيه اللحن بشكل مختلف بكل جزء. تناول شوبن في هذا العمل لحن مقطوعة “Là ci darem la mano”، وهي ثنائيّة لدون جوفاني (Don Giovanni) وزيرلينا (Zerlina) من أوبيرا دون جوفاني لأماديوس موزارت.
تظهر في النص، ولأوّل مرّة، الشخصيات الخياليّة التي اعتمد شومان على جزء منها عدّة مرات لاحقاً في نصوص نقديّة أخرى وهم: يوليوس بدور الراوي (Julius)، يوسابيوس العازف المتميّز ذو الخيال الواسع (Eusebius)، فلورستان الموسيقي الفصيح والمستشرف (Florestan) والسيد رارو (Master Raro). تشكّل هذه الشخصيات وجهات مختلفة لشخصيّة شومان (alter ego). أما ردّة فعل شوبن بعد قراءة النص وردت في رسالته لصديقه التي كتب فيها أن “الخيال الألماني جعله يضحك بشدّة“.
تعود أهميّة نصوص شومان في “المجلة العامة للموسيقى” إلى أنها شكّلت منصة لمحلنين جدد شباب كشوبن وبرليوز، وذلك إلى جانب مقالات نقديّة حول كبار الملحنين والموسيقيين كموزارت وبيتهوفن وهايدن.
أوبوس أثنان. روبارت شومان
7 كانون أول/ ديسمبر 1831
أخرج يوسابيوس نصّاً موسيقيّاً نشر على ما يبدو من قِبل “Haslinger” وهو يقول: “ارفعوا القبّعات أيّها السّادة: عبقريّ“. لم يسمح لنا يوسابيوس بالنّظر إلى العنوان، فتصفّحته شارد الذهن، ثمّة أمر سحريّ لهذا الاستمتاع المبرقع بالموسيقى الصامتة. إضافة إلى ذلك، يبدو لي أنّه لكل ملحّن طريقته الخاصّة بترتيب النوتات على الورقة: الطريقة التي يرتّب فيها بيتهوفن النوتات تختلف عن طريقة موزارت، كما يختلف النّثر من جان بول عن غوته.
لكن أشعر الآن كما لو كنت مراقباً من قبل شخص غريب، بأعينه المتسائلة، بعيون الزهور، عيون مخلوق الباسيليسك، العيون على ذيل الطاووس، عيون طفلة صغيرة. بدا الضوء أوضح في أماكن قليلة، وظننت أنّني أستطيع تمييز مقطوعة موزارت ”Là ci darem la mano” مغلّفة بمئات الأكوردات. رأيت ليبوريلو يرمقني، ودون جوفاني يطير بارتفاع منخفض مرتدياً عباءة بيضاء.
قال فلورستان ليوسابيوس ضاحكاً: “اعزفها الآن، سنصغي بأعين مغلقة ولن نزعجك“. وافق يوسابيوس، وأصغينا ملتصقين على عتبة الشبّاك. عزف يوسابيوس وكأنّه ممسوس، مستحضراً عدداً لا يحصى من الشخصيّات بدقّة وحيويّة، وكأن روح اللحظة علت بأصابعه فوق وظائفها الميكانيكيّة.
باعتراف الجميع، لم يحتوي الثّناء على فلورستان، عدا ابتسامة مبتهجة، أكثر من ملاحظة أن مقطوعة الـ“الصيغات” قد يكون كتبها بيتهوفن أو فرانتس شوبرت لو كان أيّ منهما عازف بيانو متفرّد (piano virtuoso). ولكن عندما قلب الصفحة وقرأ: “La ci darem la mano, صيغات للبيانو المتفرد لفريدريك شوبن – أوبوس اثنان” صرخنا باستعجاب: “أوبوس اثنان!”، وعندما أضاف ليوسابيوس: ” فينا، دار نشر Haslinger”: توهّج وجهينا باستغراب نادر، وألقينا بعبارات تعجّب بالكاد يمكن تمييزها. مثل: “حسناً، وأخيراً شيء لائق– شوبن – لم أسمع به من قبل – من يكون؟ – بجميع الأحوال – عبقري! – أليست هذه زيرلينا تضحك؟ أو حتى ليبوريلو (1)؟“، ووقع مشهد لا يمكن فعلاً وصفه.
ثنائية دون جوفاني وزيرلينا “Là ci darem la mano” من أوبيرا دون جوفاني لأماديوس موزارت.
مشحونون بحرارة النبيذ، والحديث المليء بالطاقة وشوبن، ذهبنا إلى السيد رارو الذي ضحك كثيراً لكنّه أظهر القليل من الفضول حول أوبوس اثنان: “لأننّي أعرفك وأعرف حماسك المتقلّب لأشخاص مثل Herz وHünten، ولكن لماذا لا تحضر مقطوعة شوبن(ك) للمنطقة؟” وعدته بأن أريه إياه في اليوم التالي.
بعد ذلك بقليل، تركنا يوسابيوس، داعياً لنا بهدوء ليلة سعيدة. بقيت برهة مع السيد رارو. فلورستان الذي كان لفترة ما من دون منزل، أسرع في الشارع المقمر إلى منزلي. وفي منتصف الليل وجدته في غرفتي، متمدّداً على الكنبة بأعين مغلقة. “شوبن مقطوعة الصيغات“، استهل، وكأنّه يتكلم في منامه، “ما زال يدور في رأسي، الأكيد، أن جلّ الأمر دراميّ جداً وشوبنيّ، حتى وإن وجدت أداء يوسابيوس خالياً من الخطابة الباغانينيّة (2) ومن اللمسة الفيلديّة (3) ـ بما أن المقدّمة مكتملة، – (هل تذكر قفزات ليبوريلو ذات البعد الثلاثي؟) – تبدو لي أنّها غير مناسبة قليلاً للمقطوعة الكاملة، ولكن الثيمة – (لماذا كتبها بسلّم سي بيمول؟) – الصيغات، والخاتمة والجزء البطيء، عليّ الاعتراف بأنّها أكثر من كافية – عبقري يحدّق بك من كل المحاور“.
“بالطبع، العزيز يوليوس، فكل من دون جوفاني، زيرلينا، ليبوريلو وماسيتو (4) هم الشخصيّات التي تتكلم (من دون ذكر الغناء الجماعي). يمثّل جواب زيرلينا في الثيمة الغرام الكبير، وقد يكون من الممكن وصف الصيغة (variation) الأولى كالنبيل واللعوب– النبيل الإسبانيّ يتغزّل بالفلاحة بود“.
“ولكن هذا يتحول إلى برهان ذاتي في الصيغة الثانية، والتي هي أكثر حميميّة وإضحاكاً وصخباً بكثير، بالضبط كما يحاول عاشقان الإمساك ببعضهما، ويضحكان أكثر من العادة. ولكن كيف يتغيّر كل شيء في الصيغة الثالثة؟ أنا أقول لك، هذه الصيغة ممتلئة بضوء القمر وسحر جن، صحيح أن ماسيتو يقف على بعد، يشتم بصوت مسموع، ولكن من دون أن يلاحظه دون جوفاني بتاتاً“.
“وبالنسبة للصيغة الرابعة، ما هو رأيك يا يوليوس؟ – (عزفه يوسابيوس بطريقة ممتازة) – ألا تعتقد أنّه كالصبيّة الجريئة مكتنزة الخدّين تحثّ الخطى لتلتقي بحبيبها؟ رغم أن الجزء البطيء (يبدو لي تكرار شوبن للمقطع الأوّل أمراً طبيعيّاً للغاية) يكمن في سلم سي بيمول مينور، وهو مناسب جداً، إذ تقدّم البداية نوعاً من الوعظ الأخلاقي لدون جوفاني– بينما يتجسّس ليبوريلو من وراء الشجيرات بطريقة مشاغبة وجميلة، بضحكه وسخريته، تفيض آلتي الأوبوس والكلارنيت في إغراء ساخر، بينما يجب أن يرمز تبرعم سلم سي بيمول ميجور إلى قبلة الحب الأولى“.
“على الرّغم من ذلك، كل هذا هباء عند المقارنة بالحركة الأخيرة – هل بقي لديك نبيذ يوليوس؟– هذه هي كل خاتمة موزارت– ممتلئة بأصوات فتح غطي زجاجات الشامبانيا الفلينيّة، وقرقعة الزجاجات– يأتي صوت ليبوريلو بين هذه الأصوات، بعدها الملاحقة والإمساك بالأشباح، وهروب دون جوفاني– وأخيراً النهاية الجريئة الموكّدة بشكل جميل، والحاسمة حقّاً“.
خلص فلورستان بالقول أنّه لم يختبر نفس الشعور إلّا في سويسرا، حيث يصعد ضوء الشمس، في نهاية يوم جميل، إلى القمم العالية، ملوّناً الأنهار الجليديّة باللونين الأحمر والورديّ قبل أن يرفرف فجأة بعيداً ويختفي. وتعبق جميع الجبال والأودية بعطر ناعم، بينما تبقى الأنهر الجليديّة هادئة وباردة وثابتة كعملاق يستيقظ من أحلامه.
“والآن عليك أن تستيقظ لأحلامٍ جديدة يا يوليوس وتنام” – أيّها العزيز فلورستان” أجبت، “ربما قد تستحق هذه المشاعر الذاتيّة الثناء، وحتى لو لأنّها ملوّنة فحسب، لكن بقدر ما تكون أفكارك ذاتيّة، بقدر ضآلة الحاجة لأن تقصد موهبة شوبن هذه النوايا. أنا أيضاً أنحني لعبقريّته، لسعيه الدؤوب وخياله“. عندئذ سقطنا في النوم.
هوامش:
الترجمة عن النص المترجم للإنجليزيّة: http://www.pianostreet.com/blog/files/schumann-article-on-chopin-opus-2.pdf
(1) ليبوريلو (Leporello): هو خادم دون جوفاني في الأوبيرا.
(2) المقصود الموسيقي الإيطالي نيكولو باغينيني
(3) المقصود الموسيقي الإيرلندي جون فيلد
(4) يوليوس – الراوي، والمقصود فيه هو عازف البيانو يوليوس كنور (Julius Knorr )، والذي عزف مقطوعة صيغات شوبن في بلدة شومان بضعة أسابيع قبل ظهور “أوبوس اثنان“.
ماستو Masetto شخصية الفلاح في الأوبيرا.