.
يعيش مقاطعة خارج الإعلام وخارج النجوميّة. فمنذ بداياته مع رام الله أندرغراوند، اختار مساراً خاصّاً به: الكلمات الحادّة، والإيقاعات التجريبيّة، والقدرة النادرة على التعقيد اللغوي. بعد إطلاق أسطوانته الأخيرة حيوان ناطق، تنشر معازف هذا الحوار الذي دار على مدار أشهر: وجهاً لوجه، على الهاتف، وعلى الإيميل.
معازف: كيف ومتى بدأت؟
مقاطعة: كانت البداية على الكمبيوتر وأنا عمري 12 عاماً. وصل الكمبيوتر إلى البيت وبدأت أكبّس من دون أن أفهم ما الذي كنت أفعله. اكتشفت برامج موسيقى بسيطة تقوم فيها بتركيب عينات مسجلة مسبقاً. هذه البرامج، وإن كانت بدائية جداً، فتحت لي عالماً، وعرفت أن هذا شيء أحبه وأرغب بعمله. وصرت أبحث عن برامج جديدة أكثر تعقيداً. أخي كان يعزف الغيتار وكنت أنا أتعلّم البيانو، فكان هناك دوماً موسيقى في البيت.
معازف: ولماذا انجذبت إلى الكمبيوتر كوسيلة لعمل الموسيقى؟
مقاطعة: كنت أستمع دوماً إلى ما يستمع أخي إليه، وأعتقد أن هذه الموسيقى التي كان يسمعها أخي – داون تيمبو وتريب هوب وجاز – أثّرت بي كثيراً. لم تكن هذه الأنواع من متوفرة، ولكنّنا تمكنا من بناء مكتبة صغيرة من الأشرطة. كنا نحصل عليها من مكان في عمّان كان اسمه (نامبر ون) في منطقة الشميساني، الذي كان يستورد أشرطة لموسيقى جيّدة لم تكن موجودة في أمكنة أخرى. بعد تلك الفترة من سماع التريب هوب والموسيقى الإلكترونيّة، عدت إلى الراب الذي كنت أستمع إليه عندما كنت طفلاً لم أبلغ العشر سنوات بعد. عند عودتي للراب اكتشفت “Wu- Tang Clan“ و“Gravediggaz” و“RZA” ورابرز من هذا النوع. ثم اكتشفت “Mos Def” و“Talib Kweli” و“DMX“. كنت أسمع كل شيء ولم أكن أعرف بعد ما هو الراب المفضّل لدي. ولكنني كنت عرفت أنني أحب الراب وأريد أن أمارسه.
“أفكار بتلف كأن دماغي عالسيخ
فا كل مخ لتشبع“
مربعات أمنية
لم أكن أعرف أبداً أن هناك راب عربي. كان هناك دي جيز حفلات، ولكن هؤلاء كانوا يختارون أغاني مشهورة لترقيص الناس، لم يكونوا دي جيز بالمعنى الحقيقي للكلمة. ولم يكن هناك إنترنت، فكنت وحيداً تماماً باهتمامي بالراب. وفي عام 2000 انتقلت إلى رام الله، وفي عام 2002 تعرفت على “عاصفة” في المدرسة. وهكذا بدأنا أنا وعاصفة و“أصوات” (أخي) مشروعاً كان اسمه رام الله أندرغراوند. كانت الخطة هي عمل موقع إلكتروني تُنشر عليه كل أنواع الأعمال الثقافيّة. ولكننا وجدنا إنه لا يوجد أحد غيرنا يقوم بإضافة الأعمال.
بعد فترة صارت تأتينا دعوات لأداء عروض وكانوا يسموننا على البوسترات رام الله أندرغراوند. وهكذا وجدنا أن الأمر حصل بطريقة طبيعيّة وصرنا فرقة. وأصبحنا ننشر كل أعمالنا تحت هذا الاسم حتى لو كانت أعمالاً فرديّة لأي منا. استمر هذا حتى عام 2009 عندما ذهب كل منا في طريقه. كان لقائي بـ“عاصفة” مهمّاً، لأنّني كنت أعمل بعزلة شبه تامة قبل هذا. كان هو مهتماً بالموسيقى الإلكترونيّة وكان يحب الراب أيضاً ولذا كان تعاوننا طبيعيّاً ومفيداً جداً.
“ما بمثّل فلسطين، أنا الحقيقة“
الناطق الرسمي
كان هناك أيضاً هؤلاء العائدين من أميركا والذين كانوا يفهمون ما كنت أحاول عمله، ولكنهم كانوا أيضاً يسخرون من فكرة الراب بالعربي. كانوا يقولون: “بزبطش، هذا حكي فاضي“. نصحني الكل أن أشتغل بالإنجليزيّة. وذلك للشهرة والانتشار. عندها لم أكن أعرف إن أردت الشهرة أم لا. ولم أعرف ماذا كنت أريد أن أفعل أو أقول. كنت فقط أجرب وأكتشف. كان الأمر مجرد هواية. كان الرّاب شيئاً أحبه وأمارسه بعد المدرسة/ ولذا لم يكن هناك أي نوع من الجديّة تجاهه أو الشعور بالمسؤوليّة.
معازف: فأنت إذاً تشعر بالمسؤوليّة الآن، أي نوع من المسؤوليّة؟
مقاطعة: بما أن الرّاب هو عملي الآن، فأنا أشعر بمسؤوليّة مهنيّة أولاً وبمسؤوليّة تجاه قضيتي كفلسطيني، وأخيراً تجاه المجال الذي أعمل به. أنا لا أدّعي أنني أُمثّل فلسطين أو أنني أمثّل مشهداً. ولكنني أشعر أنه من مسؤوليتي ومسؤوليّة كل “رابرجي” أن يصبح الراب الفلسطيني والعربي على مستوى عالمي.
معازف: أنت طورت تقنيتك بالكتابة في ظل غياب راب عربي تقتدي به. أي أنّك اضطرّرت للتعلم بنفسك. والعربيّة مختلفة بشكل جذري عن الإنجليزيّة التي كانت لغة كل الراب الذي سمعته. كيف شققت طريقك؟
مقاطعة: في البداية كنت أكتب بالإنجليزيّة. خصوصاً أنّه في عمّان كانت الكتابة دوماً بالإنجليزيّة – مثلاً في المدرسة التي كنت بها، مدرسة عبد الحميد شرف. أول مرة كتبت بالعربيّة بها كانت في عام 2002 عندما كتبت أغنية “ممنوع التجوّل“. كتبت هذه الأغنية تحت منع التجول الذي حصل تلك السنة عندما اجتاح الإسرائيليون الضفة الغربيّة. كانت رام الله مليئة بالدبّابات والمجنزرات، وكان هناك قصف واشتباكات. وكنت محبوساً في المنزل وشغلت نفسي بعمل الموسيقى. كنت منزعجاً بشكل كبير، إذ كان جيراني قد حُبسوا واعتُقلوا ورُميوا بالرصاص. كانت فترة مرعبة. عندها شعرت أنه يجب علي الكتابة بالعربيّة. فهي اللغة التي تخاطب المكان الذي أنا فيه والأحداث التي أُعايشها. شعرت أنّه علي الكتابة بالعربيّة كنوع من الاحترام للناس الذي عانوا من حولي. كان يجب علي أن أتحدث لغتي، لغتنا.
“تفَرَفر عليه، قنديل البحر انلسع، زجل الشجع،
لاقط انتزع/شاعر السجع/لمّ البجع قرأ ومزع“
رز أظن
في ذلك الوقت كنت قد سمعت بعض مجموعات الراب من الجزائر والمغرب، كما تعرفت على أعمال فرقة “MWR” (فرقة من عكا غنت بالعربية) و”دام” التي عرفني عليهما ابن عمتي. كانت أعمال هذه الفرق أول راب أسمعه بالعربيّة. كانت أعمالاً بدائيّة بعض الشيء ولكنها أعطتني الكثير من الحماس. شعرت أن كتابتي بالعربيّة لا تأتي من فراغ، وتأكدت أنه يجب علي أن أكتب جديّاً بالعربيّة. في ذلك الوقت كانت أيضاً أول مرة أقوم فيها بعمل “بيت” باستخدام عينات عربيّة. كانت العينة من أغنية “توبة” لعبد الحليم حافظ. للأسف ضاع “البيت” مع أني بحثت عنه كثيراً. المهم أنني سجلت أغنية “ممنوع التجوّل” آنذاك، وعندما انفك الحظر نزلت لتوزيعها في الشارع. حينئذٍ، كانت الشوارع والعمّارات مدمّرة، والخراب مستشرياً، وخرج الجميع في وقت واحد من منازلهم لشراء الخبز واللوازم، بينما ذهبت لشراء ما يقارب 150 إسطوانة. بعد ذلك ذهب إلى مقهى إنترنت لأطبع الملصقات، ثم عدت إلى المنزل لألصقهم واحدة واحدة. نسخت على الأسطوانات أغنية “ممنوع التجوّل” ومقطوعة أخرى كان اسمها “أيوا هيك” من عيّنة لأم كلثوم. كان التجاوب جيّداً. كان هناك من سخروا مني طبعاً وقالوا “ماله هذا“، وكان هناك من تحمّسوا وشجعوني. وتعرّفت على كثير من الشباب الذين ما زالوا أصدقائي حتى اليوم. أخذ هؤلاء نسخاً ووزعوها في الشوارع لمساعدتي. كانت العملية شوارعيّة تماماً.
معازف: وزعتها بالمجّان؟
مقاطعة: منذ ذلك الوقت وحتى الآن وأنا – ولاحقاً نحن كـ“رام الله أندرغراوند” – مقتنعون أن الموسيقى يجب أن تكون مجانيّة، وكنا دوماً نصر على أن تكون أعمالنا متوفرة مجاناً للكل. لا أقصد أنه كان يوجد من سيشتريها في ذلك الوقت، ولكن المبدأ كان موجوداً منذ ذاك الحين.
هذه الأفكار جاءتنا من الموسيقى التي كنا نسمعها. الرسالة كانت واضحة مع أن هذه الموسيقى لم تكن مجانيّة. من الممكن أنهم هم كانوا منافقين ولكننا اقتنعنا بالفكرة. “موس ديف” مثلاً كان يتكلم سلبيّاً دوماً عن شركات الإنتاج، وطالب كويلي كان يتحدث بالموضوع نفسه. كانوا يتحدثون بشكل أوسع من الموسيقى عن مواضيع مثل الإعلام والمجتمعات الاستهلاكيّة وغيرها من القضايا. فكنا نحن نأخذ هذه الأفكار ونحللها بطريقتنا.
معازف: أيّهما يأتي قبلاً، الكلمة أم البيت؟
مقاطعة: ليس هناك قاعدة. ولكن في العادة تكتب الكلمات لأجل “بيت” معيّن. وبـ“بيت” نعني أنّه يجب أن يكون هناك لحن وليس مجرد إيقاع. “المترونوم” لا يكفي. يجب أن يكون هناك “بيت” فيه لحن وإيقاع وإحساس وفكرة.
معازف: هل حصل أن أخذت “بيت” جاهز وكتبت عليها؟
مقاطعة: كان هذا يحدث سابقاً. ولكن الآن لا أشعر أنا هذا يكفي. هذه “البيتات” التي نأخذها من نيويورك أو “الساحل الغربيّ” جميلة، ولكنها قادمة من إحساس مختلف، من وسط آخر له جوّه الخاص. وهذا لابد أن يؤثّر على الكلمات وعلى أي اتجاه يذهب فيه المعنى.
أشعر أن الأعمال الصادرة في منطقتنا لها أسلوبها الخاص وصوتها الخاص. هذه ليست فلسفة أو رومانسيّة زائدة، أنا فعلاً أشعر بهذا ولا أعتقد أنه من الصعب على المستمع أن يفهم ما أعنيه. يعني عندما آخذ “بيت” من “الناظر” أو “الحمورابي” أو “جلمود“، يكون لهذا البيت قصّة، القصّة التي نتكلم عنها نحن، قصّتنا المشتركة وفكرنا المشترك وثقافتنا وهواجسنا المشتركة بحكم أنّنا فلسطينيين ولبنانيين ومصريين، أيّ عرباً، نعيش ظروفاً مشابهة. لذا تجد علاقة إيجابيّة وطبيعيّة بين العيّنات والكلمات والفكرة العامة للعمل. كل هذا له تأثير عميق على العمل. من الممكن أخذ “بيت” من نيويورك أو لوس أنجيلوس، بالتأكيد سيكون “بيت” قوي، ولكنه سيكون له تأثير على المضمون. من الممكن أن أتحدث عن فلسطين أو عن نفس المواضيع التي أطرحها في أغانيي، ولكنها لن تكون بنفس الأصالة والعمق. فهو شعور مختلف، جمالية مختلفة، groove مختلف.
“غيّر كلماته عشان يتموّل، وعالقضية الأساسية بوّل
وعبا حاله بشخاخ ومن كتر ما وقّع عقود قبل ما يفوت عالستوديو داخ“
970
الكثيرون يقولون لي أنه هذه أغنيتهم المفضّلة. ولكنها لم تنتشر كثيراً. أشهر أغانيي هي “قنابل مضيئة” و“تحت الأنقاض“، و“خلّيني أعيش“، لكن كان في “970” نوع من السخرية، وهناك البعض الذين شعروا بنوع من الإهانة واعتبروا أنني اهاجمهم شخصياً، خصوصاً في الكلام عن الإم سي الذي يبيع نفسه. مع أنني كنت أتحدث بشكل عام.
معازف: اللي على راسه بطحة بحسس عليها.
مقاطعة: أكيد. أنا كنت أتحدث بشكل عام عمّا قد بدأت برؤيته من أبواب تتفتح ليصبح الراب تجاريّاً. وهنا تصبح المشكلة أن الموسيقى تُصنع لتلبية ماذا يريد الناس سماعه، وبالتالي يقفل الباب أمام التجريب والتجديد، ويتكلم الإم سي عمّا يريد الناس سماعه بدلاً من أن يتحدّث عمّا يريد هو الحديث عنه فعلاً. كنت أيضاً أشعر أن هناك الكثير من التقليد. ظهر الكثيرون الذين يغنّون بالضبط مثل “دام“. ولذا فكرت بأن أكتب شيئاً مختلفاً، ومن هنا جاءت فكرة أن نؤلف أنا وأصوات “بيت” جاز. كان شيئآً جديداً وربما هذا سبب عدم انتشارها. ولكن هذا جزء ضروري من العمليّة.
معازف: المشهد الثقافي في العالم العربي تغيّر بعد الثورات العربية. هل تشعر أن هذا ينطبق على مشهد الراب؟
مقاطعة: لا أظن، لأن أغلب من هم على الساحة الآن كان لهم وجود قبل الثورات.
معازف: ولكن ألا تشعر أن حجم الجمهور تضخّم بصورة كبيرة؟
مقاطعة: أعتقد أن الذي حصل هو أن سقف حرية التعبير ارتفع بشكل كبير، خصوصاً في الأردن ومصر. بالتأكيد ظهرت أسماء جديدة، ولكن الأكثريّة تواجدوا من قبل اندلاع الثورات، وتكلّموا بنفس المواضيع. الذي حصل برأيي أن الناس أصبحت تتقبل أكثر تقبلاً للأفكار الراديكاليّة والنّقاش والسّجال.
معازف: تمكن ملاحظة بشكل أوضح في مشهد الرّاب بمصر.
مقاطعة: مصر مشهد غني ومهم، وفيه نجد مواهب مثل “أبيوسف“، والذي أعتبره يخاطب الثورة ولكن بشكل عكسي. والجميل أنه يتعرض لهؤلاء الذي يركبون موجة الثورات بانتهازيّة. هو ناقد من الطراز الأول من خلال كلماته وطريقة إلقاؤه، وأشعر أنّه يقول “بكفي تتهبّلوا” لكل من ركب موجة الثورة.
معازف: ولكن هل التعليق الاجتماعي هو المعيار؟
مقاطعة: لا أبداً. أنا من أنصار أن يتحدث الرابرجي عن أي موضوع يريد. أو أن لا يتحدث عن موضوع بتاتاً. ولكن إن أراد الحديث عن المواضيع الاجتماعيّة، فالحديث والتعميمات عن أميركا ودورها الإمبريالي والكلام هذا سمعناه كثيراً ولا يحتوي على أي جديد وهو غير كافٍ. يجب أن يكون هناك بعد شخصي للعمل. أنا لا أدعو للنرجسيّة والتكلم عن النفس وكأن العالم غير موجود، ولكن يجب أن يكون هناك ما هو نابع من تجربتك الشخصيّة: من نفسيتك وشخصك وحياتك. أنا شخصياً مهتم بالسياسة العالميّة والرأسماليّة والقمع في العالم. ولكن أمثلتي على كل هذا تأتي من وسطي وبيئتي، والتي هي رام الله. أنا أيضاً مهتم بعلم الفضاء والأديان ومواضيع عديدة متشعّبة، وكلّها تجد طريقها بشكل أو بآخر إلى أغانيي، وتساعدني على طرح أفكاري بأشكال جديدة ومتنوّعة.
“فصُب بنزين وولّع زي زردشت،
ولك ليش تبلبشت وبتركيب كلماتك خربشت،
لساتك هلق بلّشت“
آخر كلمة – حيوان ناطق
هناك البعض الذي يتحدثون عن هذه المواضيع فقط كنوع من الاستعراض. أنا أحاول تضمينها بالمحتوى بحيث تكون طبيعيّة وغير مقحمة في الكلمات. البعض يقول لي: “ليش بتحكي عن المريخ وانت قاعد برام الله تحت الاحتلال؟” أنا أجد أنه يوجد علاقات بين هذه الأمور. وستجد أموراً كهذه في أسطوانة “حيوان ناطق” الجديدة.
معازف: يُقال أن كلماتك صعبة وغير واضحة.
مقاطعة: الكلمات والتدفّق كله جزء من الموسيقى. الهيب هوب موسيقى وليس القصد أن يكون المضمون صعباً أو سهلاً. عندما أكتب الكلمات، أكون قد بحثت ودرست الموضوع الذي أتحدث عنه. وعندما تخطر ببالي فكرة، أتوقف عن الكتابة ثم أذهب وأقرأ قبل أن أعود للكتابة. بمعنى أنني أعزّز أفكاري عن الموضوع، ومن هناك أصل لموضوع آخر، لجملة أخرى، وشيئاً فشيئاً تصبح الفكرة أكثر نُضجاً. طريقتي في الكتابة فيها قراءة أكثر من الكتابة.
معازف: وهذا الأمر يكافئ السماع المتأنّي والمتكرّر
مقاطعة: بالضبط. عندما أسمع الهيب الهوب الذي أحبه، أسمعه 100 مرة، وفي كل مرة أتعلم شيئاً جديداً. أكتشف معانٍ جديدة وتأويلات جديدة. الصعوبة هي بالأحرى كلمات غنيّة ذات طبقات متعددة. والذي يكتب هذه الكلمات لا يحاول أن يجعل الكلمات صعبة قصداً، بل هذه هي طريقته في الكتابة. عند الإم سي القوي، تحمل الجملة الواحدة عدة معانٍ، 4 أو5 معانٍ في بعض الأحيان. وأنا كثيراً ما ألعب بهذه الأمور. مثلاً تكون آخرة كلمة بسطر هي الكلمة الأولى في السطر الذي يليه، أو أن تكون تقلب معنى السطر السابق. وهكذا تتضاعف وتتعدد المعانى.
“قميص وبنطال
زَي الشعرة من العجينة”
تكعيب
أنا أيضاً لا أكون متأكداً، ممكن أن تكون هناك معانٍ عبارة عن تساؤلات أو أفكار مفتوحة. مرات أخرى أقول شيئاً ثم أعود وأقول عكسه بأغنية أخرى. بمعنى أنني أرد على نفسي وأحاور نفسي. وهذا أمر أحب عمله. الأفكار تتطور ومعها الكلمات. وتغيير الرأي وتطويره وتنقيحه ليس عيباً. الكلمات التي تطرح تساؤلات تدعو المستمع والمتكلم للتفكير، بينما الراب الذي يعطي أجوبة يقوم فقط بالتلقين، ونجد هذا في نزعة الرابرجيّة الذين يدّعون توعية الشعوب، وكأنهم يملكون الحقيقة.
معازف: كلماتك أنت ومجموعة حولك (حمورابي هيكل والراس وغيرهم) ليست دبلوماسيّة بتاتاً. ومن الممكن أن تجعل العديدين (الليبراليين خصوصاً) والأجانب يرفضونكم نهائيّاً. هذا شيء مستحيل أن يقوم به الفنانين أو صانعي الأفلام، مستحيل أن يستخدموا خطاباً كهذا. لأنهم في النهاية يريدون الإقامات الفنية في الغرب والدعوات للمهرجانات.
مقاطعة: هذا الفرق بين أن تكون مستقلاً، أو أن تكون محكوماً بمشهد يسيطر عليك. هكذا أنت تضحي بموقعك الفنّي وتنتهي بأن تضطر لإنك “تجلّس” عالآخر. في النهاية يجب عليك أن تقول ما يريدون سماعه. هذا موجود بالراب أيضاَ. أنا رأيي أن نترك الدبلوماسية للدبلوماسيين.
“لا تخاف من الصهيوني”
مقاطعة وحمورابي
أنا أشعر أنا ما نفعله ضروري. هناك الكثيرين الذي يهمّهم فقط الحديث مع الغرب. أنا ليس عندي مشكلة مع الشعوب الغربيّة، ولكن هم ليسوا الهدف. عندما يقتصر عملك على وصف حارتك وشارعك وأهلك وناسك، فأنت فعلياً تبيعهم، تبيع أهلك ووسطك. أنت تتحدث عن مجتمعك للآخرين، ولا تتحدث لمجتمعك. وهنا يظهر خلل. من أنت؟ عن ماذا ولماذا تتحدث؟ وماذا تريد؟ حتى الغناء بالعربي أصبح أكزوتيكيّاً هدفه أن يُترجم. يكتب بالعربي ليدعي الأصالة للغربي، ولكن المحتوى غربي واستشراقي تماماً. ولذا فهو ادّعاء. يجب أن يكون المتكلم صريحاً مع نفسه وأن يفتح النقاش مع وسطه، بدلا من وصف الوسط للغرب. الأسطوانة الجديدة كانت ستسمى “مش للترجمة“، وإن لم أعتمد هذا العنوان، فالمعنى موجود في الأغاني.
“فبكفي استغلال واستهبال
مستشرقين جايين لهون بس وقفنا الاستقبال“
آخر كلمة
معازف: كيف وجدت التجاوب مع اسطوانتك الجديدة؟
مقاطعة: الكثيرين أعجبوا بها كثيراً، وخصوصاً هؤلاء من كنت متشوّقاً لمعرفة رأيهم، أناس أحترم رأيهم وأتطلع إلى أعمالهم باحترام. سمعت انتقادات كثيرة أيضاً، منها أنني أبتعد عن الهيب هوب وأذهب للتجريبي والمزعج والمشوّش. وهناك من طلب مني العودة إلى أسلوبي القديم عندما بدأت. أنا أتفهّم هذا الطلب وأحترمه ولكنني سعيد بالتطور في عملي والتغير المستمر فيه. هناك أيضاً من استفزتهم الاسطوانة، استفزهم الصوت والكلمات، ولكن هذا أمر طبيعي. الاستفزاز جيد ومطلوب. فهو بداية للنقاش. يعني الاسطوانة لم يتم تقبلها بسهولة، وهذا أمر جيد برأيي. أسطواناتي المفضلة كلها أخذتني فترة لكي أتقبلها، ثم أحبها، ثم لتصبح المفضلة عندي. الأمر يحدث ببطء وتدريجياً. هذه هي الاسطوانات التي تسمعها لسنوات طويلة وتستمر بالعودة إليها.
معازف: في أغنية “آخر كلمة“ في الاسطوانة الأخيرة، تظهر عبارة ‘مش للترجمة‘ التي ذكرتها قبل قليل، هل لك أن تتحدث أكثر عن أهميتها؟
مقاطعة: “مش للترجمة“ كان سيكون عنوان الاسطوانة، ولكني عدلت عن الموضوع. الفكرة كانت أنني أشعر دوماً أن الكل يوجه كلامه للغرب – أنتم في “معازف“ تكلمتم عن الموضوع. تجد أن الفنانين والكتاب مشغولين بوصف بيئتهم للعالم، بدلاً من الحوار مع جارهم أو ابن حارتهم، أي وسطهم ومجتمعهم. فهذه كانت الفكرة، أنني لا أعمل ما أعمله لأتواصل مع الغرب، أننا لسنا مجبورين أن نوجه كلامنا للغرب. يجدر بنا أن نتحاور سوية. عندما تكتفي بالوصف، فأنت مثل المخبر أو الجاسوس، وأنت نفسك تصبح خارج الوسط لأنك تنظر إليه من منظور الآخر. فالفكرة إذن أنه أنا لا أكتب ما يسهل ترجمته وتسويقه في الغرب. هو ليس للترجمة. أنا أتكلم مع ابن حارتي، الناس المتواجدين حولي، الناس الذين يتحدثون لغتي. هذا لا يعني أنني لا أريد التواصل مع العالم، ولكن يعني أن عملي وحديثي موجّه لبيئة معينة.
“كِف عِف عن طيزي، هذا الجواب لما بسألوه ليش ما بغني بالإنجليزي
مش وطنية، حكي موجه“
الخوارزميّة الحسيّة
وعندما أقول موجّه هذا يعني أنني لا ألتزم بالعربيّة لسبب آيديلوجي أو قرار وطني، بل هو لسبب أنني أتحدث مع ابن حارتي، معك، مع صاحب الدكان، أنا أتحدث لهؤلاء، ولغتنا هي العربيّة. الموضوع بسيط ولا يحتاج لسؤال. ولكني في النهاية تراجعت عن اعتماد “مش للترجمة“ كعنوان للاسطوانة لأني لا أريد أن يصبح الاستلاب الثقافي للغرب طاغياً على الاسطوانة كلها بحيث يصبح العمل موجهاً للغرب بطريقة مشابهة ولكن معاكسة.
معازف: أنت هنا تتبع مبدأ فانون بحسب سارتر، بنسيان الغرب وعدم الاكتراث به؟
مقاطعة: تماماً، نحن هنا نتكلم سوياً، بين بعضنا. لا أريد أن يكون كلامي موجهاً للغرب، حتى لو كان بصورة عكسيّة.
معازف: أنت أيضاً لا تضع نفسك في الأضواء بتاتاً. لا توجد لك صور على الإنترنت مثلاً.
مقاطعة: أنا ضد النجوميّة. لأن إذا وضعت وجهي على الغلاف أصبح الموضوع أنا. يصبح الشخص هو العمل، وتحلّ الشخصيّة محل الأغنيّة. أنا أعتقد أن العمل من مجهول أقوى بكثير. عندما يكتب مجهول على حائط ما “تسقط سلطة أوسلو” تكون أقوى بكثير من لو كانت تحمل توقيعاً. هناك دوماً بالتأكيد اسم “مقاطعة“، ولكني أحاول إبقاءه بالخلفيّة. أحاول أن أبقي الغموض. من هو “مقاطعة“؟ هو الـAlter Ego. وهذا يتيح لي عمل أعمال أخرى ومشاريع ثانية تحت أسماء مختلفة.
معازف: مع من تعاونت على الأسطوانة الجديدة؟
مقاطعة: هذه الأسطوانة مجهود فردي. هناك فقط بيت واحدة ألفها ‘أبو البيتز‘، عدا عن هذا لم أتعاون مع أحد وكتبت الكلمات والبيتات وحتى المكساج و“الماسترنج” تعلمته ونفذته لوحدي. ولهذا أخذتني الاسطوانة ما يقارب السنتين.
معازف: الأسطوانة مليئة بالتفاصيل الدقيقة والمدفونات. وهذا يبدأ بغلاف الاسطوانة والخيال الغامض بجانب خيال الفارس. ما هذا الخيال وما المقصود به؟ هل هو لطائرة بدون طيّار؟
مقاطعة: الخيّال هو لمركبة فضائية، وأنا أحاول اقتراح امكانيات جديدة للعالم الذي نعيش فيه ووجود عوالم موازية. وارتباط التكنولوجيا بحياتنا وعلاقات القوة التي تحققها.
معازف: هل اسم “مقاطعة” يعني أنك ناشط في مقاطعة إسرائيل؟
لقد آمنت دوماً بأن المقاطعة هي أكثر أسلحتنا كفاءة في المرحلة الحالية. عندما بدأت أستخدم مقاطعة، كانت اتفاقية أوسلو في عزّها، ولم تكن المقاطعة بعد قد اتخذت شكلاً واضحاً. فالاسم إذن ليس له علاقة له بحركة المقاطعة الرسميّة. هناك من يتّبع قوانين ومعايير BDS. ولكني أشعر أنها أحياناً تفتقر إلى التوضيح. أنا مثلاً أقاطع المهرجانات إذا كان فيها مشاركة إسرائيليّة. هناك وجهة نظر أخرى تقول أنه لا يجب علينا إخلاء الساحة لهم. أنا أتفهّم هذا، ولكني أفضل عدم المشاركة. أحياناً شاركت في مهرجانات لم أعرف أنها تضمنت مشاركة إسرائيليّة. ولكن أن أكون على المسرح مع صهاينة أمر مستحيل. لأن هذا كله يتم استخدامه في خطاب السلام الفارغ. يتم استخدامك لهذا الهدف يعني. إعادة إحياء السلام وهذا الكلام الفارغ. هذا الكلام مضر ولا يفيد أحداً إلا الصهاينة. كثيراً ما كانت هناك محاولات لإيقاعنا بأمور كهذه. كأن يقولوا لنا في آخر لحظة مثلاً أن هناك فرقة مشاركة من القدس، وبالطبع يتضح أنهم صهاينة. وعندها نعتذر عن المشاركة.
معازف: اسم على مسمى
مقاطعة: مقاطعة أيضاً لها معنى آخر وهو: أقاطعك بالحديث. وهذه معلومة خاصة لمعازف.