.
“سوف ننقذ [منطقة] الفاتح من سولوكولي البشعة“.
رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان
“إذا أرادوا شنقي باسم حقوق الإنسان في سولوكولي، فليفعلوا“.
مصطفى دمير، رئيس بلدية الفاتح
تناقلت الصحف الأميركيّة في الصيف الماضي خبراً مفاده أن جارة الموسيقي الأميركي الأسود بيل لي في حي بروكلين النيويوركي قدّمت بحقه سبع عشرة شكوى لانزعاجها من صوت الموسيقى المتصاعد من شقته ليل نهار. كان الخبر ليمرّ مرور الكرام، لولا أن العديد من القرّاء لمسوا فيه دلالةً على التحوّلات العمرانيّة التي تشهدها أكثر من مدينة أميركيّة. ذلك أن لي (١٩٢٨)، عازف البيانو والبايس غيتار القاطن في الحي منذ أربعين عاماً، والذي عمل مع فنانين من وزن بوب دايلن وأريثا فرانكلين، لم يسبق له أن عكّر مزاج جيرانه. ومن نافل القول أن بروكلين هي في الأصل أحد معاقل الموسيقى في نيويورك. أما الجارة (البيضاء) التي التي يؤرّق الجاز لياليها فهي حديثة العهد ببروكلين، إذ انتقلت إليها إثر تعقيم/ تجديد/ برجزة الحي الشعبي Gentrification، وتوافد طبقات ميسورة خارجة عن نسيج المجتمع البروكليني. وبخلاف الجارة الممتعضة، استهجن جيران لي القدامى الشكوى، معتبرين أن الموسيقى في بروكلين هي ذاكرة جماعيّة وأسلوب حياة، وأن الساكن الجديد في الحي لا بد أن يحترم ثقافته، بل إنه من المعروف تاريخيّاً أن العديد من الموسيقيين يفضلون العيش في أحياء سوداء أو مختلطة لأنها أكثر تسامحاً إزاء “الضجيج” الصادر عن التمارين.
غير أن قضية الموسيقي والجارة لن تقف عند هذا الحد. ففي الشهر الماضي، شباط/ فبراير، استعاد ابن الموسيقي، المخرج سبايك لي، هذه الواقعة ليطلق في أحد حوارته تصريحات ناريّة ضد عمليات التجديد التي تطال عدة أحياء نيويوركيّة. ذلك أن برجزة الأحياء الشعبيّة غالباً ما تؤدي إلى تحليق أسعار الإيجارات بشكل لا يحتمله صغار المستأجرين وأصحاب المصالح المتواضعة والفنانين من ذوي الدخل المحدود. وإذ يضطر أهل الحي العاجزون عن دفع الإيجارات إلى الرحيل، ينفرط عقد الجيران وتحلّ مكان المصالح المتواضعة أبراج سكنيّة وفنادق فخمة ومقاهي “ستاربكس” ومحلات الماركات العالميّة. ولم يكتف لي بانتقاد الوافدين الجدد (البيض) إلى أحياء سوداء ولاتينيّة لمحاولتهم فرض أسلوب حياتهم على بقية السكان، بل ذهب إلى حد اتهامهم بـ“متلازمة كريستوفر كولومبوس“، أي بـ“اكتشاف” الحي و“استعماره” عبر طرد سكّانه الأصليين.
بطبيعة الحال، ليست أحياء نيويورك التاريخيّة وحدها المهددة بسياسات العمران النيوليبراليّة. فمن نيو أورليانز إلى أوستن، ومن ملبورن إلى برلين، تفضي البرجزة في أحيان كثيرة إلى محاصرة أماكن عزف الموسيقى الحيّة، إمّا بسبب تبرّم السكان الجدد من صوت الموسيقى، أو عجز البارات والمقاهي الموسيقيّة عن تحمّل تكاليف البقاء. يتبع ذلك تبديد ذاكرة الحي الموسيقيّة وخسارة الموسيقيين لمصادر عيشهم وللحيّز الذي تنعقد فيه علاقات الزمالة الموسيقيّة وتبادل الخبرات.
تهجير الموسيقى الجاري في المدن المعولمة لا يضاهي قسوة ما صنعته اسطنبول بحيّها الغجري. ففي العام ٢٠٠٧ قرّرت بلدية منطقة الفاتح في اسطنبول “إعادة إعمار” حي سولوكولي الغجري Sulukule المحاذي لأسوار المدينة البيزنطيّة. حيث تشير الوثائق التاريخيّة إلى أن الغجر استقرّوا في المنطقة منذ أكثر من ألف عام، أي قبل الفتح العثماني للمدينة بقرون طويلة. ومن المعروف أن اقتصاد الحي الفقير الملّقب على سبيل الفكاهة بـ“جمهورية هز الوسط“، قام بشكل أساسي على الموسيقى والرّقص الشرقي. إذ اعتاش عازفو سولوكولي تاريخيّاً على حفلات الزفاف والطهور وإقامة الحفلات الموسيقيّة في بيوتهم الخاصة المعروفة بـ“بيوت اللهو” (Eglence Evleri)، والتي كان يرتادها في عصور الحارة الزاهية أهل الطبقة الوسطى، وحتّى مشاهير المجتمع التركي.
سارت الحارة إلى مصيرها الحزين ابتداءً من بداية التسعينيّات، حين وقعت تحت رحمة قائد شرطة منطقة الفاتح سليمان أولوصوي، الملقّب بـ“الخرطوم“، Hortum Suleyman لاستخدامه خراطيم المياه في قمع الموقوفين. وعلى يد “الخرطوم” – كاره الموسيقيين والمثليين والمتحوّلين جنسيّاً – تعرض عازفو سولوكولي للترهيب والتنكيل. حتى أن أهل الحي رووا أن المنطقة كانت تشهد مداهمات يجري فيها توقيف العازفين وضربهم وتحطيم آلاتهم بحجّة محاربة الدعارة والجريمة. وانتهت حملة الشرطي الفاضل إلى إغلاق جميع أماكن السهر حفاظاً على الأخلاق الحميدة، فكانت ضربة قاضية لاقتصاد الحارة . وإذ خسر العازفون مصدر عيشهم، تحول معظمهم إلى متبطلين أو بائعين جوالين، وغرق الحي في أشكال شتّى من البؤس الاجتماعي.
وجاء مشروع البلديّة ليتوّج نكبة أهل الحارة. ورغم التضامن الهائل الذي أبداه المجتمع المدني التركي واعتراض فنانين ومثقّفين ومعماريين على المشروع وتقديمهم بدائل أكثر إنصافاً، مضت البلدية في جرف البيوت غير عابئة بتوصيّات اليونسكو ومنظمات حقوق الإنسان. وبلغ الشعور بالاستضعاف حدّاً تماهى فيه أهل الحي مع صورة الفلسطيني المقتلع من جذوره، فكتبوا على حطام المنازل المدمرة: “Hosch geldiniz gaze’te” (أهلاً بكم في غزّة)، مشبّهين جرّافات البلديّة بسلاح الجو الإسرائيلي. وسوف يستعيد المخرج الغجري طوني غاتليف الذي قدم للتضامن مع أهل الحارة العام ٢٠٠٨ الصورة عينها، واصفاً عملية الهدم بـ“عناقيد الغضب“.
الفنان التركي الرّاحل عدنان شنسس يغني متضامناً: “أمان سولوكولي، حبيبتي سولوكولي“، و تبدو على أذرع العازفين أرقام عقارات الحي.
غير أن سولوكولي ليست حالة كلاسيكيّة يجري فيها إخلاء فقراء مستضعفين إفساحاً لمشاريع سكنيّة مربحة. وإذا كانت البلدية قد عرضت على أهل الحي مساكن مرتفعة الإيجارات في ضاحية معزولة بعيدة عن مصادر رزقهم، فإن هذا العرض لا ينمّ إلا عن جهل مطبق بخصوصيّة المجتمع الغجري. إذ لا يحتمل أهل الحارة تفريق شملهم والعيش فرادى في شقق سكنيّة، لأن بقاءهم جماعة واحدة هو شرط حماية ثقافتهم واستمراريتها. فعازفو سولوكولي وراقصاته هم أبناء وبنات سلالات موسيقيّة تتوارث تقاليد تحدّد الهويّة وتشد عصب الجماعة، ويشكّل عيشهم في حارة واحدة ضمانةً لحياة تلك الموسيقى الناقلة لقيمهم الثقافيّة والمرافقة لأفراحهم وأتراحهم. إنهم جيران وأولاد عمومة وأبناء عشيرة، وقد حمتهم من الموت جوعاً أشكال من التكافل الاجتماعي سيتعذّر بقاؤها لدى خروجهم من الحي. فإذا كان القوم طبالين زمارين وأهل حارةٍ تنمحي فيها الحدود بين بيوتهم والشارع، أي أحياء سكنيّة يسعها احتمال أسلوب حياتهم إذا ما أجبروا على الرحيل؟
سولوكولي في يومٍ حار: يطل عازف الزورنا (المزمار) من الشرفة بعد الدقيقة الثالثة في لحظة باهرة تتجلّى فيها علاقات الجيرة والتواطؤ الموسيقي.
بخروج معظم أهل الحارة، خسرت اسطنبول قروناً من الموسيقى، وحيّزاً موسيقيّاً أصيلاً متمايزاً عن الكليشهات الغجرية المعروضة في بازار موسيقى العالم. جرى، برعاية حزب إسلامي نيوليبرالي، نحر ثقافة مستضعفة في الوقت الذي تستميت فيه السلطة السياسيّة لتسويق اسطنبول كمدينة كوزموبوليتيّة متعددة الثقافات. لكن يتّضح من قضية سولوكولي أن هذا الخطاب قد يكون في أحيان كثيرة رطانة ًجوفاء ومحض نفاق. ففي شارع الاستقلال الذي ترتاده الطبقة الوسطى للسهر، تشي أسماء نوادي الموسيقى بتلك الرغبة بادعاء التعدديّة الثقافيّة: بابل (لغات وثقافات العالم)، Ghetto (الأقليات) و“المطهر” Araf، الذي يعرّف عن نفسه بـ“نقطة تقاطع الشرق والغرب“. فلماذا والحال هذه لا تكون موسيقى الحي الغجري إحدى لغات اسطنبول المعولمة؟ وكيف يجري في عصر التنظير للمدن الخلّاقة Creative Cities التضحية بمكان موسيقي تمتد جذوره إلى ما قبل الفتح العثماني؟
دقيقة من جنون سولوكولي. ضيف الشرف متشرّدٌ سكّير.
كان الجغرافي الماركسي نيل سميث (١٩٥٤-٢٠١٢) قد وصف برجزة الأحياء الشعبية بأنّها حركة انتقاميّة Revanchist تسعى من خلالها الطبقات الوسطى إلى استعادة قلب المدينة من الآخر (الأقليّات، الفقراء، المهاجرون). رأى سميث أن من سمات هذا المسار تحالف السلطة السياسيّة بذراعها الأمنيّة مع رؤوس الأموال الخاصة، وجميعها عناصر حاضرة في حالة سولوكولي. ومهما تعدّدت تأويلات البرجزة وأشكالها، لا تتوقّف المدن عن إخبارنا ما نعرفه بداهةً، وهو أن اقتصاد الموسيقى وعمرانها شأن لا يجوز أن يترك بيد ساسةٍ ومقاولين.