.
ظهر أصل هذا المقال بالإنكليزية في موقع سميثونيان لكاتبه دايفد زاكس.
في السادس عشر من شهر يونيو / حزيران عام ١٩٣٤، استقلّ جورج غيرشوين قطار مانهاتن المتوجّه إلى شارلستون، كارولاينا الجنوبيّة، ومنها سافر بالسيارة ومن ثم بالعبّارة إلى جزيرة فولي، حيث سيقضي أغلب أيّام صيفه في كوخ خشبي صغير.
بدت الجزيرة الضئيلة المترامية الأطراف والنامية التي تبعد عشرة أميال عن شارلستون خيارًا مستبعدًا بالنسبة لغيرشوين القاطن في نيويورك، والمعتاد على حياة الليل الصاخبة ووسائل الراحة الفاخرة وحلقات المعجبين. كما كتب لأمه بتعبيريّة إنشائيّة: “الحرارة جلبت الذباب والبرغش والبعوض، لا شيء تفعله هنا سوى الحكّ. أسماك القرش سبحت بعيدًا عن الشاطئ؛ والتماسيح جأرت في المستنقعات؛ السرطان خلع قشرته”. كيف استطاع جورج غيرشوين، ملك الـ Tin Pan Alley التجمع المركزي لمنتجي الموسيقى وكاتبي الأغنيات في مدينة نيويورك الذين سيطروا على الموسيقى الشعبية في الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، أن ينتهي به المطاف، منفيًا على جزيرة فولي؟
ولد غيرشوين عام ١٨٩٨، لم يكن أكبر سنًا بكثير من القرن الذي بدأ سنينه الأولى. على الرغم من ذلك، حصد نجاحًا كبيرًا ومذهلًا في أوائل العشرينات، وقدّم عرضه الأول في برودواي. في السنوات اللاحقة، أنتج مع أخيه آيرا كاتب الكلمات اللحن الشعبي تلو الآخر – Sweet and Lowdown ،’S Wonderful ،I Got Rhythm وغيرهم كثير. وفرت هذه الألحان لكليهما الشهرة والمال.
مع بلوغه الثلاثينيّات من عمره، بدأ غيرشوين بالشعور باستياءٍ وقلق. “كان لديه كل شيء“، الممثلة كيتي كارليسلي ذكرت ذلك مرة. مع هذا، لم يكن غيرشوين سعيدًا تمامًا، قالت: ” احتاجَ إلى الدعم“. لكنّه أكمل عرضه لبرودواي وسجل أغانيه التي اشتهرت في Tin Pan Alley مع قائد الأوركسترا الاستعراضيّة، ومن بين هذه التسجيلات Rhapsody in Blue لعام ١٩٢٤، بالإضافة إلى أوبرا قصيرة من فصل واحد Blue Monday. كان على جورج غيرشوين بالرغم من ذلك أن يُثبت نفسه تجاه الجمهور والنقّاد في ما يشكل حجر الأساس لسيرة أي مؤلف موسيقي: أوبرا عظيمة. مبدئيًا، فكّر أن المكان المثالي لذلك سيكون مسقط رأسه:
“أود أن أكتب أوبرا عن هذه البوتقة، نيويورك، بمزيجها من السكان الأصليين والمهاجرين.” هذا ما أخبر به غيرشوين صديقه إسحاق جولدبيرج في تلك الفترة. “هذا سوف يسمح للعديد من أنواع الموسيقى، الغربيّة والشرقيّة، السوداء والبيضاء، أن تؤلّف أسلوبًا جديدًا مكوّنًا من كل هذه التنويعات، في وحدة فنيّة؛ وسيكون هذا تحدٍّ لواضع كلمات الأوبرا، ولإلهامي الخاص.“
في عام ١٩٢٦، وجد غيرشوين إلهامه أخيرًا حيث لم يكن يتوقع: الكتاب. غيرشوين لم يكن معروفًا بالقارئ النَّهم، لكن في إحدى الليالي تناول كتاب بورجي الأكثر رواجًا في حينه ولم يستطع أن يتركه حتى الرابعة صباحًا. لم تكن الرواية عن نيويورك، لكنها قصة عن الجنوب. تحكي بورجي عن حياة الأفرو–أمريكيين في واحد من شوارع شارلستون والذي يدعى كاتفيش رو. أعجب غيرشوين بشاعريّة النص (المؤلف كان أيضًا شاعرًا)، وأحس بأنّ الكتاب يمتلك العديد من المكونات التي يمكن أن تجعل منه أوبرا أميركيّة عظيمة. لاحقًا، كتب إلى المؤلف، ديبوس هيوارد، لإخباره بإعجابه بالرواية، وبأن لديه فكرة “لتحويلها إلى عمل موسيقي“.
بالرغم من أن هيوارد كان متلهّفًا للعمل مع غيرشوين (ناهيك عن معاناته من ضائقة ماليّة)، أصرَّ الجنوب–كارولايني على ضرورة الذهاب إلى شارلستون ليمارس غيرشوين قليلًا من العمل الميداني كي يتعرّف على عادات الـ جولا، سكان المنطقة الأفرو–أميركيين. تعود أصول الجولا إلى العبيد الذين كانوا قد جُلِبوا إلى المنطقة من غرب أفريقيا (يُعتقد بأن الكلمة جولا مشتقة من أنجولا) إلى مزرعة إنديجو، حيث المستعمرات الزراعيّة للأرز والقطن على جزيرة البحر في المحيط الأطلنطي (sea island). بسبب عزلتِهم الجغرافيّة النسبيّة على هذه الجزر، احتفظوا بثقافة خاصة تمزج بين التأثيرات الأوروبيّة والأميركيّة الأصليّة مع مخزون كبيرمن الجذور الغرب-أفريقية. كانت والدة هيوارد من فولكلوريي الجولا، واعتبر هيوارد أن العمل الميداني حجر الزاوية لنجاح بورجي.
توقف غيرشوين مرتين سريعًا في تشارلستون، في كانون الأول / ديسمبر ١٩٣٣ وكانون الثاني / يناير ١٩٣٤ (في الطريق من وإلى ولاية فلوريدا)، وكان قادرًا على سماع بعض الأناشيد الدينيّة وزيارة بعض المقاهي. منحته تلك الزيارات – على الرغم من أنها كانت قصيرة – الإلهام الكافي ليعيد تكوينها من جديد في نيويورك. في ٥ يناير ١٩٣٤، في نيويورك ذكرت جريدة الهيرالد تريبيون أن جورج غيرشوين حوّل نفسه إلى “دارس متحمّس لموسيقى الزنوج“، وفي أواخر شهر شباط / فبراير ١٩٣٤ استطاع أن يقدم تقريرًا إلى هيوارد: “بدأت بتأليف الموسيقى للمشهد الأول، بالأغاني والأناشيد الدينيّة“. كانت واحدة من أوائل الأغاني التي وضع موسيقاها أكثرها إعجازًا: الصيف، والتي كتب هيوارد كلماتها:
“الصيف، والحياة بسيطة،
السمك يقفز، والقطن عالٍ”
تلك الأغنية الخالدة في تركيبتها على الرغم من أن الشتاء والربيع استحوذا على وقت أطول دون أن يضيفا الشيء الكثير على الغنائيّة. قرر هيوارد والملحن أن على غيرشوين أن يهجر قليلًا استراحته ولهوه في السقيفة شرق شارع ٧٢ ويقوم بالرحلة نزولًا إلى جزيرة فولي، حيث استأجر له هيوارد هناك كوخ وجهزه ببيانو عمودي (للاستعمال المنزلي).
أرسلت صحيفة News & Courier التي تصدر في شارلستون مراسلها ويدعى آشلي كوبر لمقابلة الملحن الشهير في فولي. هناك، بدا غيرشوين لكوبر أنيقًا في معطفه الـ بالم بيتش وربطة العنق البرتقاليّة – كما لو أن الموسيقي كان يهمّ بالذهاب إلى نادٍ ريفي.
لبعض الوقت، كان لا بد لهذه الرحلة أن تبدو كتجربة فاشلة. حتى على هذه الجزيرة البعيدة، أظهر غيرشوين موهبة رائعة في اللهو وتسلية نفسه. حاول التغرير بأرملة شابة، السّيدة جوزيف ويرنج (بدون أن يفلح)، وقدم نفسه ليكون عضوًا في لجنة تحكيم مسابقة الجمال المحليّة. أمضى الأمسيات يتناقش مع قريبه ومستخدمه: “موضوعينا المفضلين، ألمانيا الهتلريّة ونساء الله“. قام بعدّ بيض السلاحف، رسم بالألوان المائيّة، شارك في جولة أو اثنتين من الجولف. استمتع بالشاطئ. كما تَذكّرت الأرملة ويرنج لاحقًا: “صرف الكثير من الوقت يمشي ويسبح، حاول أن يكون رياضيًا، رجلًا قويًا بحق“. الحلاقة وارتداء القميص كلاهما لم يعودا ضرورة، بعد حين تباهى بلحيته المشعثة وسمرته الداكنة العميقة. “كان العمل صعبًا جدًا عليّ” غيرشوين في تصريح إلى صديق، يقول: “أغرتني الموجات كما لو أنها الحوريّات، بسببها ضيّعت الساعات وأنا أنفخ في قربة مقطوعة.“
بانضمام ديبوس هيوارد إلى غيرشوين على جزيرة فولي، بدأ العمل الحقيقي. إذ رافق هيوارد غيرشوين إلى جزيرة جيمس المجاورة، التي كان فيها عدد كبير من الجولا، فزاروا المدارس والكنائس مستمعين في كل مكان إلى الموسيقى. “الاكتشاف الأكثر متعة بالنسبة لي كان عندما جلسنا نستمع إلى أناشيدهم الدينيّة“، كتب هيوارد، كان ذلك بالنسبة لجورج أكثر من أن يكون استكشافًا، كان أشبه بالعودة إلى الديار. ما دفع الاثنان لتوجيه انتباههم الدقيق إلى تقنية الرقصة المسماة الصيّاح، والتي تستلزم نمطًا إيقاعيًا معقّدًا تشكله الأيدي والأقدام، كمكمّل للأناشيد الدينيّة.
يستعيد هيوارد ذكرياته لاحقًا: “لن أنسى تلك الليلة عندما كنا في اجتماع للسود على جزيرة البحر المعزولة. إذ بدأ جورج بالرقص معهم. في نهاية المطاف، بقمة البهجة، سرق الأضواء من بطلهم الصيّاح. أغلب الظن أنه الرجل الأبيض الوحيد في أميريكا الذي استطاع أن يفعلها“. (آن براون، التي لعبت دور بيس في الإنتاج الأول لبورجي وبيس تتذكّر في عام ١٩٩٥ ما قاله غيرشوين عندما زعم بأنّ أحد رجال الجولا قال له: “أقسم بالله، أنت بالتأكيد تستطيع أَن تتفوق على إيقاعاتهم، يا بُني. أَنا لي من العمر أكثر من سبعون عامًا ولم أرَ في عمري رجلًا أبيض يقلع ويطير كما أنت تفعل. أنت بمثابة ابني.“
في سفرة يوليو / تمّوز الميدانيّة إلى كارولاينا الشماليّة حيث كان يقام أحد الطقوس الدينيّة الأفرو–أميركيّة في كوخ، أمسك غيرشوين بذراع هيوارد فجأة بينما هما يقتربان من المدخل. الأغنية المميّزة التي تسمع من داخل الكوخ دوّخت غيرشوين. يتذكّر هيوارد: “لقد بدأت بالتقاط خصوصيتها الفائقة الروعة“. يتمايل العديد من المصلين جيئةً وذهابًا مع بعضهم البعض، وببلوغهم ذروة الإيقاع الذي دعاه هيوارد “مرعب تمامًا“. سيجاهد غيرشوين لإعادة إنتاج هذا التأثير في الفصل الثاني من بورجي وبيس/ مشهد العاصفة. يقول والتر ريملر في السيرة التي كتبها عام ٢٠٠٩ عن غيرشوين، هنا، في كنائس السود الجنوبيّة “وصل إلى قلب الموسيقى الأميركيّة“.
أخيرًا، بدأ غيرشوين العمل، إذ تلت ذلك عدّة شهور من الإنتاجية العاليّة، في تقييم لألن كينديل. يقول أحد كتاب السير الذاتية: “واحدة من أكثر الفترات المُرضية والإبداعية في مسيرة غيرشوين المهنيّة، أيامه التي قضاها في الكارولينيتين الشماليّة والجنوبيّة. لقد قادت الموسيقي إلى هذه الفورة الإبداعيّة“. في بداية نوفمبر / تشرين الثّاني (حيث عاد إلى نيويورك)، أخبر هيوارد بأنّ تجارب الأداء يمكن أن تبدأ قريبًا.
عندما ظهرت الأوبرا لأول مرة الخريف التالي، كان غيرشوين قد صرّح، بتكبّره المعهود، بأنّه يعتقد أنها الموسيقى الأعظم التي تم تأليفها في أميركا. انقسم النقّاد المعاصرون، على أية حال، بين أولئك الذين يتطلعون إلى أعمال برودواي الموسيقية الاستثنائيّة، الذين وجدوا أنها جدّ متصنعة، وبين الذين ينتظرون شيئًا ما أكثر تصنعًا وانصرفوا عنها كما انصرفوا عن أعمال برودواي في المسرح الغنائي. كان عرضها الأول قصيرًا بشكل مخيّب للآمال. عندما ماتَ غيرشوين إثر ورم في الدماغ عام ١٩٣٧ في الثامنة والثلاثين من العُمر، رحل بدون أي ضمانات حقيقيّة من إرثها. ليس عليه أن يقلق بشأن مكانته في البانثيون الموسيقي؛ النقّاد جميعًا متّفقون اليوم تقريبًا على أن بورجي وبيس إحدى أعمال غيرشوين الأكثر جودة، إن لم تكن تحفته النادرة. حاز المكون الأكثر حيويّة في تراث الأوبرا على معطياته المتكاملة من العِرق. مع ذلك النقّاد الأوائل أثنوا على الأوبرا بسبب الأداء العاطفي للأفرو–أمريكان، وأخذوا عليها بأن الشخصيات بقيت نمطية واستمر هذا التأرجح لعقود. طلبًا لاختيار فريق عمل لنسخة عام ١٩٥٩ السينمائيّة، صادف صموئيل جولدوين ما دعاه “مقاطعة دمثة” من قبل بعض الرجال البارزين. رفض كلٌّ من هاري بيلافونتي وسيدني بواتييه العروض، بالنسبة لبيلافونتي فقد دعا بعض الشخصيات العم توم وصرح بواتييه بأن بورجي وبيس إذا كانت في أيدي خاطئة من المكن أن تكون “جارحة لمشاعر الزنوج“.
كانت العقود التالية نوعًا ما أكثر لطفًا مع الأوبرا، وفي ١٩٨٥، بعد مرور خمسون سنة على عرضها الأول، كانت بورجي وبيس قد قُدّسَت فعليًا، ليكتب هوليس ألبرت في صحيفة The Life and Times عنها بدخولها إلى الأرشيف الفني للأوبرا الجامعة. دعتها النيويورك تايمز “مزيج راسخ جوهري في عمل ما زال يواصل إثارة الجدل بجرأته الموسيقية وتصويره لحياة السود من قبل رجل أبيض“. سيستمر مثل هذا الجدل، لكن تقييم ألبرت النهائي هو أن المعارضة الأفرو–أمريكية للأوبرا في الغالب كان لا بد أن تكون “لهذا السبب أو لغيره” أكثر من معارضتهم “للعمل بحد ذاته“. مضيفًا: “بشكل دائم تقريبًا، ارتفعت أصوات أخرى من السود بسرعة للدفاع“.
قد لا نجد الإجابة الشافية على هذا السؤال، لكن صوت الأوبرا الصداح يجب أن يصل صداه بالتأكيد مع ابن نيويورك الذي ذهب في عطلة عمل لمعايشة طريقة حياة الجولا بنفسه، في أحد فصول الصيف منذ سنوات عديدة مضت.