.
ذكر الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي في كتابه “الإتقان في علوم القرآن” أن ابن مسعود قال: جوّدوا القرآن. وقيل أيضاً: التجويد حلية القراءة. والتجويد، لغة، هو التحسين والإتقان. وقيل: التجويد حلية القراء. ولا يعني هذا أن القرآن به نقص ما؛ بل يعني أن على القارئ أن يحسن أداءه ولا ينزل به وإلا فهو آثم على ما ذكر العلماء.
هناك الكثير من الآيات والأحاديث التي تحض على القراءة الحسنة وعلى التغنّي بالقرآن: “ورتل القرآن ترتيلا“، “وما أذن الله لشئ ما أذن لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن ويجهر به“، “زينوا أصواتكم بالقرآن“. والنص القرآني نفسه يحتوي على موسيقى خارجيّة وداخليّة (بعض الفقهاء يقولون بعدم جواز استخدام عبارات مثل: موسيقى القرآن أو الجرس الموسيقى أو السجع في وصف آيات القرآن، على اعتبار أنه لا يصح وصفها بما هو أدنى منها، ويقصدون الموسيقى والشعر). ولا يمنعنا قولهم هذا من الإحساس بالموسيقى الشعرية في بعض المواضع بالقرآن؛ رغم أنه كتاب نثر بالأساس.
ففي قوله: “لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبّون” نجد أن الآية موزونة من المجزوء المسبغ لبحر الرمل، وتقطيعه: فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتان. ويحتوي أيضا القرآن على موسيقى داخلية، وتلك من أسرار المعمار القرآني. وقد ذكر سيد قطب في دراسته للـ“التصوير الفني في القرآن” أنّه “وحيثما تلا الإنسان القرآن أحس بذلك الإيقاع الداخلي في سياقه، يبرز بروزاً واضحاً في السور القصار، والفواصل السريع، ومواضع التصوير والتشخيص بصفة عامة؛ ويتوارى قليلاً أو كثيراً في السور الطوال، حتى تنفرد الدقة دونه في آيات التشريع. ولكنه – على كل حال– ملحوظ دائماً في بناء النظم القرآني“. ثم يورد مثلاً من قوله في سورة النجم: “والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علّمه شديد القوى، ذو مرة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، أفتمارونه على ما يرى، ولقد رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى“. وهنا نرى روعة الإيقاع المنظم في فواصل الآيات رغم أنها ليست على وزن واحد، لكنها، مع ذلك، تجري على صوت واحد فنلاحظ الفواصل جاءت: (هوى، غوى، يوحى، قوى، استوى، أعلى) وهذا الإيقاع هو مما يحقق أثراً في وجدان المستمع.
والحال أن آيات القرآن بما تحتويه من بلاغة وفصاحة وأدب عال تحتاج إلى ذوق أدبي وفني عال بالمقابل حتى يؤتي أثره. وكذا فإن موسيقى القرآن وصوره ومعانيه قد تضيع على يد قارئ لا يملك الذوق والحس السليم لما يقرأه. وعلى جانب آخر، وكما ذكر في الاختلاف في قدر الفصاحة في القرآن، قال أبو نصر القشيري وغيره في التفاوت على درجات الفصاحة في القرآن، ففيه الأفصح والفصيح. فكذلك في أمر موسيقى القرآن وإيقاعه. فكما أشار سيد قطب، فهناك آيات بلا إيقاع. بل، وأزيد، وحتى بلا بلاغة في بعض المواضع هنا وهناك؛ وهذا ما نجد عليه آيات التشريع.
إذ ذكر الإمام الغزالي في كتاب “آداب السماع والوجد” من” كتاب إحياء علوم الدين” في ذكر تأثير القرآن بالمقارنة بتأثير الغناء، فقال إن الغناء أشد تهييجاً من القرآن من سبعة أوجه. فعلى عكس ما ذكر صاحب الإتقان بأن أحد أوجه الإعجاز في القرآن “أن قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه بل الإكباب على تلاوته يزيد حلاوة وترديده يوجب له محبة وغيره من الكلام يعادي إذا أعيد ويمل مع الترديد“. ذكر الغزالي أيضاً أن جميع آيات القرآن لا تناسب حال المستمع ولا تصلح لفهمه وتنزيله على ما هو ملابس له، فمن استولي عليه حزن أو شوق أو ندم فم أين يناسب حاله قوله: “يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين“.
ومن ناحية أخرى، فإن القرآن محفوظ ومتكرر على الأسماع والقلوب، وكل ما سمع أولا عظم أثره في القلوب، وفي الكرة الثانية يضعف، وهكذا. وحكى أبو حيان التوحيدي في “الإمتاع والمؤانسة” أن رجلا كان يطوف حول الكعبة على حمار ويغني فقالوا: أما تستحي؟ فقال: أخاف أن تدركني نعسة فأسقط من على حماري، قالوا: فأين أنت عن القرآن؟ فقال: قد جربناه فوجدناه يزيد النوم. ومن هنا تبدو أهمية الدور الذى لعبته مدرسة التلاوة المصرية على وجه الخصوص، وأساطين قراءها وغيرهم ممن تأثروا – أيضاً– بمدرسة التلاوة المصريّة. ويمكن القول أن فضل هؤلاء المشايخ –كما يقول الشيخ الهلباوي– هو الإحسان للمستمع وليس للقرآن؛ ولهذا يقال أن القراءة هي حظ السامع. وتلك “الزيادة” وهذا “الحسن” هو الذي سوف نتناوله بأُنس أصوات المشايخ وليالي المبتهلين والمنشدين، وحسن أولئك رفيقًا.
بداية فإن الباحث في تاريخ الديانات يجد أن الموسيقى كانت دائماً متداخلة في الطقوس الدينية والعبادات، بل وفي الاحتفالات الاجتماعيّة، ففي اليهوديّة نجد العديد من التراتيل والابتهالات التي تأتي بعض نصوصها من التوراة، وتؤدى بإيقاعات لحنية، ويعد ترتيل مزامير النبي داود من أفضل الأمثلة في هذا الشأن. وكذا تأثرت المسيحيّة باليهوديّة في أداء التراتيل وحتى مزامير داود الواردة في العهد القديم وتراتيل من تلك التي وردت في العهد الجديد. وتطور الأمر في المسيحيّة حتى صار هنا ما يعرف بالألحان الكنسيّة، وهي ألحان لنصوص مقدسة من العهدين ولنصوص أخرى أيضاً. بل إن فضل تلك الألحان على تطور الموسيقى نفسها خارج الأديرة والكنائس كان كبيراً.
ولعل الحساسية الموجودة في الإسلام تجاه الغناء والتلحين، والقداسة التي تحيط بالقرآن الكريم تنبع من التخوف من اتباع عادات أصحاب الديانات الأخرى في ممارسة شعائرهم. وهذه المخالفة نراها في أمور كثير أخرى غير قراءة القرآن، فهناك العديد من الآثار المتروكة عن النبي في دعوة المسلمين لمخالفة أهل الديانات الأخرى. ومن جانب آخر، فقد يكون التخوف من البعد عن التدبر والفهم لمعاني القرآن والانشغال بالموسيقى واللحن، أيضا من ضمن أسباب التشديد على الطريقة التي ينبغي أن يتلى القرآن بها (في الكتاب الثالث من “الجمهوريّة” يدعو أفلاطون إلى استبعاد المقامين الإيوني Ionian والليدي Lydian لما فيهما من ميوعة وتخنث يبعث على الانحلال). ومع ذلك فإننا نجد روايات كثيرة في كتب تراثية مختلفة منها الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني عن قراء تغنوا بالقرآن وكانت أصواتهم من حسنة. وفي العصر الحديث نعرف أن بعض المطربين كانوا مشايخ أو درسوا القرآن على يد مشايخ، فالشيخ سيد درويش والشيخ أبو العلا محمد، والشيخ زكريا أحمد والقصبجي وعبد الوهاب، والشيخ سيد مكاوي، فيما بعد، كلهم جاءوا من قراءة القرآن وتجويده، إلى الإنشاد أو الغناء، أو التلحين. وكان بعضهم يعزف على آلة موسيقيّة، مثل الشيخ رفعت والشيخ أبو العينين شعيشع والشيخ نصر الدين طوبار، الذين كانوا يعزفون على آلة العود. وبعض الفنانين هم تلاميذ مشايخ؛ وعلى رأسهم أم كلثوم تلميذة أبيها الشيخ إبراهيم البلتاجي، والشيخ زكريا أحمد، والشيخ أبو العلا محمد، وغيرهم، ومحمد عبد الوهاب والشيخ درويش الحريري، ومما يروى أن الشيخ درويش الحريري هو من لحن دور “أحب أشوفك كل يوم“ لعبد الوهاب، وهي من نظم حسن أنور. ويعرف من يدرس السير الذاتية لأساطين القراء أنهم برزوا بفضل أصواتهم ومواهبهم، وأيضا بفضل تعلمهم للموسيقى والنغمات، وكانت تلك المواهب المصقولة بالفن تواجه أحيانا بالنهي والتحريم، تارة من باب التعصب الأعمى للدين، وأخرى من باب الغيرة والحسد.
ومما يذكره كمال النجمي في كتابه: “الغناء المصري مطربون ومستمعون“، أنه طالع في الصحف أيام الشيخ محمد رفعت أن أحد قراء القرآن قد قدم بلاغا إلى أحد أقسام الشرطة ضد الشيخ رفعت يتهمه فيه بسوء التلاوة والخروج عما أقره علماء القراءات السبع من أصول للتلاوة الصحيحة. وفي حدود الاسطوانات المحدودة التي سجلها الشيخ رفعت للإذاعة المصريّة، وكان ذلك في أواخر أيامه، لا نجد أي تجاوز لأصول التلاوة الصحيحة، بل إن الشيخ رفعت كان يجمع الحسنيين بصوته الذى يشبه صوت الكمان، وعلمه وانضباطه في قراءة القرآن. وفي نهاية حياة الشيخ رفعت كان الشيخ مصطفى إسماعيل قد بدأ في الظهور وتربع فيما بعد على عرش التلاوة. وكان بعض الناس يقولون عنه إنه مطرب جيد أكتر منه قارئ للقرآن. وذلك بسبب مساحة صوته وجماله وتمكنه من المقامات الشرقيّة وتنويعه في التلاوة بالمقامات، ومعرفته بالقراءات السبع المتواترة؛ فكان يقرأ السهل المتتنع. وكان يصفه عبد الوهاب بأنه كان صاحب قفلات غير متوقعة، وتكمن عبقريته في الابتكار المستمر للمسارات المقامية بالإضافة إلى حنجرته الذهبية.
ومن المعروف أن التلاوة تعتمد على الارتجال والتلقائية في الأداء، ولكل قارئ اجتهاده، ولكل مستمع نصيب في استقبال العطايا. والغالب أن يفتتح القارئ بالمقام الأساسي والذي سوف يرتكز عليه، ثم ينتقل منه إلى مقامات قريبة، ثم يرجع من حيث بدأ. ولا يملك القارئ سوي صوته وعليه أن يوصل المعنى ويُظهر جمال الأدب العالي الذي يتلوه، ويترك الأثر النفسي المراد. ومن القواعد في التجويد أو الابتهال المرتجل أن القارئ أو المبتهل يستهل ويفتتح بقرارات بسيطة حتى “يركب“، بمصطلح أهل الفن، على درجة موسيقية ما، ثم ينطلق بصوته إلى الجوابات. إلا أن الشيخ مصطفى إسماعيل، وهو من ضمن القلائل الذين كانوا “يركبون” المقام من أول البسملة، كان في أحيان كثيرة يبدأ بصوت منخفض، ثم يصعد درجة ثم درجتين على السلم الموسيقي، ثم ينزل مرة ثانية إلى القرار، ويقال إنه كان يفهم بذلك طبيعة المستمعين وأحوالهم ثم ينطلق إلى أن يصل إلى الجوابات العالية. ومن الطرائف التي ذكرها هادي العلوي في كتابه “مدارات صوفية” أنه كان يعرف مثقفاً عراقيّاً كان يسكر على صوت الشيخ مصطفى إسماعيل.
ومعظم الأساطين الكبار في دولة التلاوة والذين لهم أفضال كانوا يشتركون في أن أصواتهم قوية وذات مساحات واسعة، ونفس طويل، بالإضافة لأن معظمهم كان يعرف المقامات الموسيقية، ولديهم قدرة على الزخرفة، وعلى الابتكار. ومنهم من كان يتلو القرآن ومنهم من كان ينشد ويبتهل. وعلى رأسهم الشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ عبد الباسط عبد الصمد والشيخ طه الفشني والشيخ محمد عمران والشيخ سيد النقشبندي والشيخ نصر الدين طوبار والشيخ محمد الفيومي والشيخ كامل يوسف البهتيمي والشيخ على محمود.
ومع ذلك فكان لكل قارئ منهم شخصيته وأسلوبه الفني، وميزة ينفرد بها. ما يميز مدرسة التلاوة والإنشاد المصرية ليس القرآن نفسه ولا المعاني الدينية في ذاتها، ولولا معرفة المشايخ بالمقامات والموسيقى بالإضافة لمميزاتهم وإمكانياتهم الصوتية لما ظهرت تلك المدرسة، بكل أفضالها وإحسانها على المستمعين.