.
١
محمّد عبد الوهاب نَفسه لم يستطع مُغالبة الافتتانِ في تِلك الجلسة. كان يُصْغِي، ويُغْمِض عَينيه حتى يَستغرق ويتغلغل فيه صوتِ الشّيخ ببطءٍ، فلا يُبْقِي منه غير هَمْهَمات مُتناثرة تَخرج من دون إرادة منه: “يا ساتِر يا ساتِر“، “يا جَبَّار يا جَبّار“، “الله يا سَيّدي الله يا سَيّدي الله“، ويَنْطقها “سَيّدي” فَصيحة وعَميقة. وكأنه – في تلك اللحظةِ على الأقل – يَعنيها.
حَدث ذلك في ليلة هادئة وخاطِفَة في القاهرة، حين كان الشيخ محمد عُمران يُنشد ابتهال يا سيّد الكونين بمصاحبة العازِف عبده داغر في بيتِ عبد الوهاب، من دون أن يدري ثلاثتهن أن تِلك الجَلْسَة ستُصبح أثراً موسيقيّاً يتناقله الكثيرين فيما بعد ككنزٍ بالغ القيمة.
٢
الشيخ عمران كان خَجِولاً في تِلك الليلة، يَشعر بمشقَّة الجلوسِ أمام عبد الوهاب، ويَظُن أن صوته لَم يَكُن في أحسنِ حال، وأنه كان “مُتَلَهْوِجَاً” و“مُقَصّراً“.
على الأغلب أن عمران لم يَكُن يُدرك قيمة صوته، يَفعل الأشياء فَقط لأنها يَجب أن تحدث، ولاحِقاً لأنه يُحبُّها ويَسْعَدُ بها ليسَ أكثر: جَرت العادة أن يَحْفَظ الأضراء القرآن في صِغَرهم فتعلّمه. وجرت العادة أن يحضرون من بلادهم أو قراهم البعيدة من أجل مُحاولة الاعتمادِ كقراءٍ في الإذاعة المصريّة، فأتى. ولاحِقاً كان يُحب أن يُنْشِد أو يَقرأ القرآن في مجلسٍ من الناس، ويَسعد بكلمة “الله” على ألسنتهم كثناءٍ وذِكر للجمالِ بجمالِ، ويَرْتضي بذلك دون أن يُدرك أنه يَمْلُك ما هو أكثر.
عبدالوهاب في المُقابل كان يُدرك، ولذلك فقد رَد عُذر الشّيخ الخَجِل بصوتٍ لا يُفارقه الافتتان: “متقولش كده، ده انتَ كبير أوي يا شيخ عُمران، كبير أوى“. والشيخُ أخذَ نفساً عَميقاً برضا وعلى مَهْلٍ.
٣
كل مَا جَرى في حياةِ الشيخ محمد عُمران كان يَحْدُث بسكينةٍ وعلى مَهلٍ، تماماً كما ينبغي لخطواتِ رجل ضَرير، تعلُّم البُطْء مُنذ الصّغر، فأتْقَنه حينَ كَبر. والبُطْء حينَ يُتْقَن يًصْبح عزيزاً وساحراً، كنَفَسِ العَجائز وحِسّهم، دلالة على التأمُّل والتدبُّر، أن تُدْرِك المَعنى في كُل لَفْظ، والمَرجو من كُلّ خَطوة.
بالمثلِ، كان صوت الشّيخ منذ أن سَمعته للمرَّةِ الأولى، يقرأ عِدّة آيات قصيرة من سورةِ الأحزاب، بذلك البُطْء والتَّمَهُّل، يتنقَّل بخفّة بين المقامات، يُلامس المَقصد من كل آية، يَجعل القرآن طَرباً ورُوحاً. ويَفْتِنُ قلوب النّاس من حوله.
الآيات نفسها لَها حِكاية. إذ يُقال، تبعاً لأكثر من مصدر في السيرة النبويّة، أنها كانت الأثقل وطأة على قلبِ النبي مُحمد، حيثُ أباح له الله الزواج من زَينب بنت جَحش، طليقه ابنه بالتبنّي زيد ابن حارثة، كي يَتْرُك للناس مَثلاً في أن الزواج من طليقة ابن مُتبني أمراً مَشروعاً تبعاً للعقيدة الإسلاميَّة، والنَّبِيّ خَجِل من إبداء ذلك أمام النَّاس، فجاءت الآيات مُعاتبة “وتَخْشَى النَّاس والله أحقّ أن تَخشاه“.
صوتُ الشّيخ كان يَحْكِي الحِكاية كُلها، كأنَّه يُدْرِك الحِمْل على كَتَفِ النَّبي مثلما يُدرك الخطأ الذي يُعاتبه الله عليه، تِلكَ الطريقة التي يَحْتَد بها صوته وهو يَقول “واتّق الله” أو اختلاف إيقاعه حين يُكررها مُكملاً “واتّقِ الله وتُخفي في نَفسِك ما الله مُبديه“، ويَتْرُك المَثل والآية حين يَنْطق بمعاتبة النبي خشيته من الناس وليسَ رَبّهم. القرآن هُنا يُصبح رُوحاً وشعوراً وناساً، قبل أن يُكْمِل عُمران تلاوته الاستثنائيّة بجُملةِ “فلمّا قَضَى زيد منها وطراً زَوْجناكِها لكي لا يكون على المؤمنينَ حرج“، مُغيَّراً في المَقام والصوت والحِسّ، وواصلاً بأعلى درجات الجَمال، فيُطْرَب النَّاس من السَّمَع بغيرِ خَجِل من أنهم مُطْرَبون.
٤
لأسابيعٍ لاحقة لم أعد أنام بغير صوت محمد عُمران” بجانبي، دقائق “الأحزاب” السبع على الأغلب، وغيرها من التلاوة أو الابتهالاتِ في أحيانٍ أخرى. وفي كُل ليلة ربما كنت أتساءل عن السبب الذي لم يجعل شُهرة الشيخ توازي حلاوة صوته، الذي رُبما هو أجمل صوت قد عَرفته بعد صوت أم كلثوم.
المعلومات كانت قليلة للغاية، ولكن البحث قادني لاحقاً لفيديو نادِر جداً يَجْمَع بين عمران وأم كلثوم بشكلٍ غير مُباشر، وبه جزء من الإجابة، الشّيخ يُغنّي جزءً من أغنية “حلم” –التي غنّتها السّت من ألحان زكريا أحمد وكلمات بيرم التونسي مَطلع الأربعينيّات– مع أحد أصدقاءه. وهذا الجزء ليس أكثر من جملةٍ واحدة: “بقى يقولي وأنا أقوله، وخلّصنا الكلام كُله“. هكذا لمدّة عَشر دقائق:
هُناكَ ثلاث مُلاحظات خرجت بهم من الفيديو، فيهم كل شيء أعرفه عن الشيخ:
أ – عُمران يعلَم جيداً كيف يَجْعَل البُطءِ جَميلاً، كيفَ يتنفَّس بداخل الكلمات. يُقال أن أم كلثوم في كل تكرار بأغانيها تقول الكلمات بشعورٍ مُختلف. عُمران هنا يَفعل الأمر ذاته، يجعل جُملة بيرم البَسيطة باتساع الحياة، كأنَّك تُدرك معه، رَويداً ومع كل تِكرار بحِسٍّ مُختلف، كيف مضت الليلة “يقولي وأنا أقوله” ويَمِدّ الجملة طويلاً طويلاً حتى نَعرف أن الكلام كُله قد خَلِص بالفعل.
ب – عُمران يُحِبُّ الرّفقة والناس، ويُحبُّ الجلسات التي يَجْتَمع فيها بهم، يَقرأ القرآن أو يُنْشِد الابتهالات أو يُعيد جملة قَصيرة غنّتها السّت –التي بدا أنه يُحبها كثيراً– في عشر دقائق كاملة.
جـ – عُمران كان يُدَخّن، لا أدَّعي أن تِلك إجابة عن السؤال حول شُهرته وعدم تَصديره كصوتٍ استثنائي في وقتٍ كان التلفزيون والإذاعة الرسميين هما الوسيلة الوحيدة لكي يَصل شيء ما إلى قطاع كبير من الناس، ولكنه يَظهر في الفيديو مُدَخّن، وهذا يَتسق مع أنه يَفعل ما يُحب، من دون النَّظر للاعتباراتِ الجامدة. تِلك التي سترى حَتماً في صورةِ الشَّيخ المُدَخّن الذي يُغنِي بانسجامٍ مع نفر من أصحابه شيئاً غير صالح للتَّصدير، كَسْر للنَّمَط المُعتاد، وبالتالي فمن الأفضل استبعاده، وألاَّ يُعْتَمَد كقارئٍ في الإذاعة إلا بعد أن يَبْلُغ الخمسين من العُمر، وقبل عشرين يوماً من وفاته. حيث مات –ككل شيءٍ عاشه– في هِدوءٍ وعلى مَهْلٍ.
٥
وبعد كل شيء، ماذا عساه المرء أن يفعل يا شيخ عُمران حين يَسْمَعك مُبتهلاً بـ“لُطفِ الله الخَفي“؟
أو تُناجي ضالاً “كيفَ السبيل إلى وصالِك دُلّني“؟ قبل أن تُدرك أرضه البعيدة فتعاتبه: “حَلَفتني وحَلَفت لي وحَلَفت أنّك لا تخون، فَخُنْتَنِي“، وتَعِي الغياب فتشتكيه: “وحَلَفت أنّك لا تَميل مع الهوى، أين اليمين وأين ما عاهدتني“؟، وتفقد الأمل فتجاهر بألمك “ولأقعدن على الطريق وأشتكي، إني أنا المظلوم وأنتَ ظلمتني“.
ماذا عسانا إلا أن نُردد، بهمهمات مُتناثرة تَخرج دون إرادة: “الله يا سَيّدي الله“. وننطقها “سيّدي“، فَصيحة وعَميقة، لأننا نَعنيها.