.
١
في تسجيلات الشيخ مصطفى اسماعيل، يُسمع الناس تثور وتمور، تهيج وتميج. اتخيّلهم قاموا في هيستريا ليلطشوا بعضهم البعض ويتعاركوا بشكل عشوائي. إنهم يشعرون أن هناك مشكلة، مشكلة حلها المبدئي هو الضرب والصراخ بهيستريا، هذه المشكلة تأتي بسبب عدم فهم مصحوبة بطاقة غامرة، طاقة غامرة من عدم الفهم بالذات، عدم فهم يشل التفكير ويدفع إلى التصرف بأقصى حد.
٢
الحرية في اختيار ومزج القراءات العشر في الجلسة بل والآية الواحدة، بجرأة خبير يعرف من أين تؤكل الكتف. في ذات الوقت الذي تتم فيه التنقلات، على مستوى آخر، بين المقامات الموسيقيّة بعبقريّة مقاميّة فطريّة مذهلة، وعبقريّة موسيقيّة تقدر مثلاً على المكوث في البياتي أربعين دقيقة كاملة دون ملل أحد من الأطراف. وعلى مستوىً ثالث، أصباغ التأويلات المحتملة للمعنى في جدّة وعمق شديديّن: تحرك صوتي ثلاثي الأبعاد، مشحون بقدرة صوتية عجيبة على الوصول إلى جوابات القارجهار (البياتي الشوري) ولجواب “جواب الحجاز” الخاصة به، وهذا كله، من دون الخروج عملياً عن التقليد، إنما باللعب حوله وعلى حدوده.
هذه الجملة الأخيرة هي مفتاح كل ما سبق من عبقريّة مصطفى اسماعيل الكليّة، والدرس الحقيقي الذي يتركه بعده: كيفيّة كسر القواعد، التي تكوّنت عبر الزمن لأسباب وجيهة، من دون تشويهها أو تحطيمها، في انحياز واضح إلي الجانب الجمالي الابداعي عن الجانب الوراثي المُقلد المطيع ديني الطابع. فمن أجل رسم جملة موسيقيّة أجمل، ينتقل ليمد آخر كلمة أو يغيّر نطقها ليغير القراءة التي يسير عليها، أو ينطلق في هبوة ملتاعة في آية عابرة ليصبغها بمعني آخر تماماً. في هذا تحديداً يتميّز القارئ مصطفى اسماعيل عن أي قارئ قرآن آخر: روح الفنان في حنجرة المُقرئ.
٣
“وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً” – على الرغم من صعوبة احتمال أن تكون تلك المقولة جاءت على لسان النسوة اللاتي جلبتهن زليخة، امرأة العزيز (أو فوطيفار بحسب الرواية العِبرانيّة) – لعدم ظهور مفهوم الشِرك في المنظومة الدينيّة الفرعونيّة، وعدم ظهور أيضاً اللفظة العربيّة للإله “الله“؛ فأي تأويل تاريخي للآية سيكون بالتالي خاطئاً. لا يعني هذا نفي قوّتها، على العكس، المقولة تطرح نفسها بقوة كتعبير شعري، ويبدو أن التأويل الشعري هو أغنى تأويلاتها، على خلاف المحاولات التي سعت لتهدئة أو تحجيم المبالغة “الشعرية” التي في النص من: “قطَّعن تعني قَطَعن، أي كففن أيديهن عن الأذى“، أو “قطَّعن تعني جرَّحن فقط وليس معناها بتر الكفوف عن الجسد.” أو “أنهن سرحن من فرط جماله وهن يمسكن بالسكاكين لتقشير الفاكهة فسرن بالسكاكين علي أيديهن.” كل هذه التأويلات مطروحة، لكن التأويل الأغني بالنسبة لي، هو ما قام به مصطفى اسماعيل، والقراءة “التلاوة” هي فعل تأويل، حيث يبدو لي أن النبرة التي صدح بها الشيخ هي الأعلى لمعنى المقولة، نبرة تأويليّة وصلتْ لما يسمّى بالجمع المستحيل بين نقيضين: الحُرقة الإيروسيّة والذهول التَقَوي. إذ تحولن النساء، الماكرات، بحسب الرواية القرآنيّة، إلى التوحيد، عبر الجمال، وعبر الشهوة، وهو ما ينبنى على قاعدة أنثويّة للتفكير والإستدلال. هنا يوضح أن من عبقريّة الشيخ مصطفى اسماعيل أنّه قادرٌ على التحول الجنسي، وهو ما يتطلبه أي تأويل حقيقي وسليم لتلك الآيات.