.
يثيرني دائمًا السؤال عن أسباب جماهيرية فنان معين. هو سؤال تعد الإجابة عنه تدريبًا ذهنيًا لتقصي كل المعطيات الفنية والسياسية والاقتصادية لتلك المعادلة المليئة بالمجاهيل. بالتأكيد لا تكفي الجودة الموسيقية كإجابة وحدها وإن كانت هي أهم تلك المعطيات، وهي كمفهوم شديد النسبية ومتغير بالزمان والمكان. هو بحث دائم غالبًا ما يحركه سؤال: لماذا يوجد فنان على قدر من الجودة والتطور ولا تكتب له الجماهيرية التي يستحقها؟ والبعض الآخر من الفنانين قليلي الموهبة يكتب لهم نجاح مدوِ؟ سؤال في حالته تلك يحركه استنكار ومحاولة لإعطاء كل ذي حق حقه، ولكنه في حالات أخرى يجعلك تقف متأملًا بغير انحياز.
إذا تتبعنا المشوار الموسيقي لحميد الشاعري نجد أنه بالفعل غيّر الشكل العام للموسيقى الجماهيرية في الوطن العربي، ليس بإصداراته وحدها بالطبع، ولكن بالكثير من المساهمات الفنية والتوزيع لعدد كبير من الفنانين. فإذا استثنينا عددًا قليلًا من نجوم حقبة الثمانينات والتسعينات سنجد أن حميد الشاعري هو السر وراء نجاح البقية. فبصمته الصوتية جليةً في معظم أعمال هذا الجيل. لكن للإجابة عن السبب في تأثيره على هذا الجيل بالكامل اخترت أن أنظر بتدقيق إلى أكثر المحطات أهمية في مشواره الفني، والتي يعد ما قبلها تمهيدًا وما بعدها تمديدًا. تمهيد لنجاحه الجماهيري ورواج أعماله في السوق، وما بعدها امتداد طبيعي لذلك النجاح باعتباره نقطة الانطلاق.
ببحث سريع في تاريخ حميد الشاعري الموسيقي يبدو جليًا من اللحظة الاولى أين تقع هذه النقطة بالتحديد، وهي إصدار ألبوم رحيل ذو الإحدى عشرة أغنية؛ وهو الألبوم الثاني لحميد الشاعري الذي أُصدر عام ١٩٨٤، ويعد بداية نجاحه الجماهيري بعد فشل إصداره الأول بعنوان عيونها. أما ما بعده فهو ما أوجد له أرضًا صلبة ليقف عليها أمام جمهور متعطش للمزيد.
في أغنية الألبوم الموفقة والواثقة – رحيل – يبدو اللحن على النقيض من الكلمات المرهفة الخانعة (رحيل وعذاب وأنين)، ويحكمه خط ثابت وقوي من الريثم جيتار ليعطي المقطوعة قوة الهارد روك. حتى مع الأجزاء البطيئة في الأغنية التي يتصدر فيها صوت حميد بكلمات بسيطة “يمكن بعادنا يطول …” يتوالى دق الدرامز في إيقاع مستمر محفز وصادح، وليس كحلية خلفية، واعدًا إيانا برجوع المقطوعة إلى نشاطها الأول. فيكون المستمع واثقًا أنه لن يسقط فريسةً للكلمات الحزينة التي قد تأخذه الى أسفل درك، بل بحضرة تعاون جماعي لفريق كامل من العازفين سوف يكوّنون معًا التوازن المناسب. لحظات من الاستماع إلى لحظات راقصة وسعيدة لن يطول دور كلماتها الحزينة إلى أكثر من خلق ذلك الطقس من الشد والجذب لمزيد من التحفز للرقص، حتى أن الأغنية تُختتم بجزئها الصاخب تأكيدًا على ذلك الاتفاق.
أما الأغنية الأولى في الألبوم، وين أيامك، التي لاقت نجاحًا كبيرًا أيضًا ولها دور أساسي في نجاح الألبوم بذلك اللحن من التراث الليبي، فتعود بعض من أسباب نجاحها الى أسباب اجتماعية، إلى جانب الأسباب الموسيقية. ففي تلك الفترة كان كثير من المصريين قد سافروا ليعملوا في الخليج وليبيا، ونشأت حينها تلك الحاجة لدى المسافرين إلى تقدير الثقافات الأخرى للاندماج فيها، كما زاد من موالاتهم لهوية البلد التي يذهبون إليها رغبتهم في تخفيف عبء الرحلة، وإضافة بعد رومنسي للهجرة غير جمع المال. أعطاهم حميد كل ذلك دفعةً واحدة، فيمكننا أن نرى الموروث الليبي في أغنية مثل وين أيامك وين. تخلق الإيقاعات معظم لحن الأغنية ويقتصر دور الآلات الوترية على عمل حليات مصاحبة للإيقاع، تؤكد عليه ولا تضيف. استخدام التصفيق باعتباره الإيقاع الرئيسي هو موروث صحراوي قدمه حميد بشكل حديث في تضاد مع التوزيعات الغربية الحديثة، تيمة ناجحة سوف يستعين بها كثيرًا بعدها لتكون من أهم بصماته في التوزيع الموسيقي، وتصل إلى قمة نجاحها في رائعة لولاكي التي وزعها حميد لعلي حميدة.
لا أحاول بذلك اختزال قاعدة حميد الجماهيرية إلى مجموعة المرتحلين والمسافرين إلى الخارج بالطبع، بل أستكشف فقط المناخ المصاحب للحقبة، ولا أستثني من تلك المعادلة في تحقيق الجماهيرية القيمة الموسيقية التي قام بها حميد، والتي تحمل الكثير من العناصر المبتكرة. في ذلك التناقض ما بين حزن الكلمات ووهن صوت المغني الرئيسي، مع حلى الموسيقى المزركشة، وإنتاج عمل موسيقي حيوي من خلال استخدام آلات محدودة وواضحة وتوزيع مينيمال للأصوات، الذي يتضح حتى في بعض الأغاني السريعة بفراغات ما بين كل آلة وأخرى، ما يعد ثورة موسيقية على المحاولات المستميتة لإحياء الطرب العربي الأصيل. لكن لا تنجح الإصدارات فقط بتصنيفها ثورة موسيقية لذا وجب فهم بقية المعطيات.
أما عن التدقيق الاجتماعي في كل أغنية من أغنيات الألبوم من نفس المنطلق السابق فهي ربما لا ضرورة لها، ولا حاجة لنا لتحليل بقية مقطوعات الألبوم. فلا أحد يستمع إلى بقية المقطوعات إذا لم تكن هناك مقطوعة متميزة في بداية الألبوم وأغنية جذابة تحمل اسم الألبوم، ولن يلزم لبقية الألبوم كي يكون ناجحًا إلا محاولات غير صعبة لتجنب كارثة (مقطوعة شديدة السوء) ليس أكثر؛ وحميد بالطبع ليس غبيًا ويمكنه بسهولة تجنب الكوارث الموسيقية في بقية الألبوم، فهو قد ضمن بأغنيته الأولى معظم المستمعين. السوق الموسيقي التجاري مبني دائمًا على الهيت.
قد نطيل الكلام طبعًا عن دور حميد في إثراء الموسيقى العربية بالموروث الموسيقي الليبي، ولكن كما نعرف أن السوق المصرية يندر أن تقبل أي ثقافة تختلف عنها، ما لم تقتل تلك الثقافة نفسها لتتماهى مع ذوق المصريين وتطبل لهم على المقسوم. لكن مع ذلك فبالطبع قد لعب التراث الليبي والهوية الإثنية دورًا حساسًا في رواج الألبوم، ولكنه ليس دورًا موسيقيا بقدر ما هو اجتماعي.
أما عن تيمات الرحيل والغربة فقد ظهرت على كل لون وبكل الطرق الممكنة، إذ أن الحزن مسيطر بشكل عام على الألبوم وأحد أسباب نجاحه. فحين كانت السوق الرسمية تستثمر في محاولة إعادة أمجاد الطرب الأصيل بدفعها لمحمد ثروت ومحمد الحلو، معلية صوت الإنشاد الوطني، وجد الصوت البديل صدقًا في الاغتراب والحزن لمعادلة تلك الوطنية الزائفة، التي تمتدح وطنًا رحل معظم أبنائه بحثًا عن رزقهم شرقًا وغربًا.
من بصمات الشاعري التي تبدو بداياتها جلية في هذا الألبوم: الدندنة، التنغيم الصوتي الذي يصف اللحن بدون الحاجة إلى كلمات (وووه وووه – واواه واه – ولايلايلايلا). فنجده مثلًا في أغنية يا غالي قد أفرد للنحيب والدندنة مساحة تزيد عن مساحة كلمات الأغنية نفسها، أو على الأقل تتساوى معها. لكنها استُخدمت بذكاء وجرأة أنتجا الكثير من الاندماج مع اللحن، دون التوتر من تكراره أو الرغبة في تغييره. مقاطع الأغنية نفسها تأخذ مساحات قصيرة جدًا بالمقارنة مع القرار المتأني في دندنة اللحن بدون الحاجة إلى التعبير بالكلمات.
صوت حميد كمغني يعد ضعيفًا، وهي معلومة لا تخفى على مستمعيه. لكنه في هذا الألبوم وضع ذلك في إطار مناسب له. فهو يقول مثلًا في أغنية يا صاحب: “يتوه منا الرفيق والصوت يبقى حزين“، وكأنه يبرر وهن صوته لحزنه الشديد على فقد الأصدقاء وخوفه من المدينة، كتكملة لثيمة الغربة وتأسيسٍ لنوعية صوته مع الثيمة كوحدة واحدة. يصل ذلك الضعف في الصوت إلى أوهن حالاته في أغنية عاتبيني، حتى يكاد يختفي أثناء تكراره لدندنة القرار، ما يترك المستمع في حالة تورط لاستكمال النغمة المتقطعة؛ وكأن دندنة حميد هي بمثابة تذكير فقط لنغمة يعرفها المستمع.
أجد شيئًا من الإصرار في الألبوم متمثلًا في مضغ نفس المصطلحات مرارًا وتكرارًا، وتأكيد التيمة بشيء من الإلحاح. حتى أن أسماء الأغنيات نفسها تتكرر بها فكرة المناجاة والنداء لمستمعين وأصدقاء وأحباء بعيدين لترسيخ فكرة اغترابه وبعده: “يا غالي، يا صاحب، يا لايمين، يا بنيّة، يا شتا، يا مركب”. حتى في أغنية يا بنية خشيتي بالي والتي تعد أغنية عاطفية، لا تمثل الأغنية الحب الذي يطالب بأحقيته في المحبوب، لكنها تبدو كوصف لخاطر خيالي صعب التحقق يلوح عليه شيء من الاقتناع بالهزيمة: “يا بنية خشيتي بالي / يا نجمة تضوي في العالي / يا واخدة عقلي وأفكاري“. حتى مع النغمة المبهجة في البداية، تختتم الجمل الموسيقية بنغمات حزينة وعدمية.
نجد بشكل عام بساطة في الجمل اللحنية القصيرة الجذابة، مع تكرارها الذي يعلق بالأذن، بينما يكون دور الآلات هو التنويع في هارمونيات النغمة الواحدة والموازنة دائمًا مع جدية الكلمات. فنجد مثلًا في خاتمة الألبوم، ريت، جمل البايس واثقة وثابتة والجيتار الكهربائي مستمرٌ في مصاحبة الغناء بغير افتراق، بنقرات فانك متقطعة ورشيقة، في تناقض مع حزن الكلمات 'ودموع الخد وندى الورد' وصوت الناي، لتُعطي ديناميكية جديدة على السوق في ذلك الحين. أسلوب يقترب من أسلوب محمد منير لكنه أكثر تطورًا، رغم أن فرقة يحيى خليل هي نفسها التي عزفت في ألبومات كليهما في تلك الحقبة. الكلمات الحزينة مع الجمل الموسيقية الرشيقة والهارموني من فرقة يحيى خليل خلقت ذلك التضاد الذي يريده المستمعين.
تبدو كل تلك النقاط غير مقنعة اذا استخدمت وحدها في تفسير النجاح الجماهيري، حيث أن أغلبها متوفر في ألبوم حميد الأول عيونها، الذي فشل فشلًا ذريعًا على المستوى الجماهيري. بل إن الألبوم الأول يقل عن الثاني في تراكات الحشو fillers وعدم التنوع في الثيمات المستخدمة للكلمات والألحان. تأثيرات الصوت وتركيبات الموسيقى والهوية الإثنية والحزن والاغتراب كلها عناصر موجودة في الألبوم الأول. فما الذي اختلف إذًا؟
أولًا، قرار المنتج الجريء بإعادة التجربة مع نفس الشخص، والذي قرر في المرة الثانية تغيير بعض المعطيات في خطة الترويج والدعاية، ما أثر لاحقًا على خريطة الموسيقى في العالم العربي كما نعرفها. كانت تلك القرارات لا تتعلق بالضرورة بالموسيقى نفسها، بل ربما كانت تخص توقيت صدور الألبوم أو خطة الترويج والدعاية. التغيير الذي أضافته فرقة يحيى خليل هو تغيير غير جذري مقارنة بالدور الذي لعبته فرقة المزداوية في ألبوم عيونها، لكن يبدو أنه بالأحرى تغيير استراتيجي يعطي دعمًا فنيًا للموهبة الشابة وصك جودة مصري من تلك الفرقة المعروفة.
وجود هيت رحيل أيضًا، بارتفاع صوتها نسبيًا عن باقي الأغنيات وتصدرها لأولى مقطوعات الألبوم ساعد على رواجه، بعكس الألبوم الأول (سوى المسار الثاني الخجول الذي حمل عنوان الألبوم). كذلك ساهم قرار الشركة المنتجة بإبراز شخص حميد الشاعري الذي كان ذكره هامشيًا في الإصدار الأول كقائد لفرقة المزداوية، ويبدو أن السوق المصري غالبًا ما فضل الارتباط بشخص يعرف هويته بدلًا من فرقة، فتفككت المزداوية لتحل محلها فرقة يحيى خليل اللامعة وقتها، ولتحل صورة حميد في الألبوم الثاني محل الصورة الثنائية لحميد وناصر المزداوي في الألبوم الأول.
هناك أيضًا عامل التوقيت في إصدار الألبوم بعد سنتين، وهو توقيت استراتيجي. فهما عامان ظهر خلالهما محمد منير معلنًا عن حركة أعم من الموسيقى البديلة استطاعت أن تحتوي الغريب عن السوق المصرية بتسامح أكبر، وعامان من ركود ألبوم حميد الأول في الأسواق، ما مهد الأجواء للرجوع بذلك الصوت الذي يبدو كأنه صوت ذهني في رأسك، يحثك فقط على تذكر لحن تعرفه.