.
ربما كان الموسم الغنائي ١٩٨٣ – ١٩٨٤ من أكثر المواسم ثراءً في موسيقى البوب على مستوى العالم. سباقات الأغنيات في العواصم الغربية كانت تزدحم بتنوع يمزج ألوانا موسيقية مختلفة في ذائقة تبدو جديدة، أخذت تتردد لدينا، وبقوة، في “مدن الملح”. ولعل بعضنا، ممن تجاوز الأربعين، لا يزال يذكر جيداً أغاني كـ Self Control للأمريكية لورا برانيجان، أو Big in Japan للفريق الألماني Alphaville ، أو One Night in Bangkok للبريطاني موراي هيد، ناهيك عن استمرار تردد أغنيات ألبوم Thriller لأسطورة البوب مايكل جاكسون من الموسم السابق، وبشكل مكثف على محطات التلفزة والراديو. ولعل بعضنا يذكر أيضاً القميصين الأبيضين لعضوي فريق Wham يحملان شعار Choose Life وقد بدا كشعار للمرحلة بموسيقاها وقد تخففت من إرث الستينيات والسبعينيات بعد غيمة المخدرات الثقيلة التي خيمت على هذين العقدين بصحبة موسيقى مثقلة بوجوديات الروك وشيطانيات الميتال وهرطقات البانك الغريبة.
و كان هناك حراك مواز لما يدور في لندن أو نيويورك، على المستوى المحلي و”على الضيق” في القاهرة، وفي سياق موسيقى البوب العربية الآخذ في التشكل حديثاً على أنقاض العالم الكلاسيكي للغناء، الذي كان نجومه الكبار قد رحلوا أو بصدد الرحيل عن الساحة في وداع طويل، امتد في حالة “وردة الجزائرية” مثلاً لأكثر من عقدين من الزمان. ومن دلائل ذلك الحراك صدور بضعة ألبومات غنائية كانت – وستظل فيما أعتقد – علامات فارقة، لم يكن من قبيل المصادفة وحدها صدورها بذلك التزامن؛ ففي ذلك الموسم نفسه صدر الألبوم الرابع لمحمد منير اتكلمي- أو القلعة ٨٣ وهو يمثل قمة المسار الموسيقى الذي اتخذه مع فريق يحيى خليل بعد انفصاله عن تجربته الأولى مع هاني شنودة. كما صدر مشتاقين وهو أول ألبوم غنائي للملحن أحمد منيب أبو منير الروحي؛ فضلا عن ألبوم كفاية بعاد للبحر ابو جريشة وانتشاره الرهيب في سوق الأغنية الشعبية .
وبمراجعة دفاتر الألبومين السابق ذكرهما لمنير وأستاذه منيب سنلمح فيهما اسما جديداً يظهر للمرة الأولى، وهو اسم الموسيقي الليبي المصري الشاب آنذاك حميد الشاعري، حيث يظهر توقيعه كملحن لدى الأول في إحدى أغنيات الألبوم، ولدى الأخير كموزع للتجربة برمتها . ويشهد نفس الموسم بزوغ اسم الشاعري كمغن وقائد لفريق المزداوية في ألبومين متتاليين هما، عيونها ورحيل على الترتيب. كانت بداية واعدة لموسيقي شاب، هبط على السياق في مصر في ذلك الموسم المزدهر بـ “الباراشوت” كما يقال، حيث جاء فعلياً من دراسة الطيران المدني، هاوياً للموسيقى والغناء، وما كان أحد ليتخيل حجم الزعزعة التي سيحدثها بعد ذلك. فإلى جانب ألبوماته الخاصة، والبدايات المبشرة كموزع وملحن، انخرط الشاعري فيما تلى من سنوات في حركة دائبة لـ”صناعة النجوم” مرسخاً في ذلك السياق، معظم الأسماء التي سادت منذ نهاية الثمانينيات، باستجابة أكبر لمزاج جديد “رِوِش” بحسب تعبيرات المرحلة، ومتخلياً بشكل ما عن مغامراته الأولى بالاشتغال على موسيقى الثقافات الفرعية واستلهام تجارب تحديثية أخرى، لصالح تحديث شكلاني لطرق توظيف الآلات الموسيقية والكورال الصبياني والتوقيع بصفق الكفوف، وبدا أن مجمل إنتاجه كموزع وملحن قد غدا بعيداً عن وعود تقديم أغنية بديلة، وهو ما كان قد أوحى به في بداياته المبشرة ذلك الموسم المشحون. وظهر إلى الوجود مصطلح “موسيقى الجيل” ليدلّ تحديداً على الخط الذي انتهجه حميد مع الأصوات الجديدة التي يقدمها كموزع بالأساس.
وجدت تلك الحالة التي خلقها الشاعري مانيفستو سينمائيا لها في فيلم آيس كريم في جليم للمخرج خيري بشارة والكاتب محمد المنسي قنديل، والذي قام ببطولته نجم المرحلة وأيقونتها عمرو دياب أحد أبرز وجوه حميد الشاعري، وذلك في حالة بطل الفيلم المطرب سيف وآماله في غناء كلام عاطفي خفيف “يشبهه” ويعبر عنه، في مواجهة مشروع شعر العامية والنقد الاجتماعي الذي كان يمثله مطرب الشوارع زرياب، الذي أماته مؤلفا الفيلم ميتة عبثية على قارعة الطريق، في إشارة لانتهاء حقبة الكلام الجاد وأغاني النقد الاجتماعي (الشيخ إمام ونجم مثلاً). غاب حميد الشاعري عن الفيلم بموسيقاه وتوزيعاته،اللذين تولاهما على الترتيب عمرو دياب بنفسه وحسام حسني لكن روحه كانت حاضرة وبقوة.
في العام الموسيقي ١٩٨٣-١٩٨٤ كانت فرق روك عملاقة قد تفككت أو توقفت عن العمل، اسماء كـ Pink Floyd وLed Zepplin و Deep Purple، وكان جون لينون قد قُتل، ومات بوب مارلي. كما مات في الشرق عبد الحليم حافظ وأم كلثوم وفريد الأطرش، فماتت معهم الكلاسيكية و “الزمن الجميل”. ومات لاحقاً فؤاد حداد وصلاح جاهين وعبد الرحيم منصور، ومات معهم أو كاد مشروع الأغنية البديلة الذي اتكأ على أشعارهم، سواء في تجربة فرقة المصريين وهاني شنودة أو عند محمد منير كما في بداياته، وخرج الرعيل الأحدث من شعراء الأغنية أكثر انصياعاً لإملاءات السوق وشركات الانتاج، ليعيدوا تدوير المعاني والقواميس القديمة في أغنيات جديدة تتوخى القوافي الرنانة. أو هم لم يكونوا في مستوى وشاعرية أسلافهم المذكورين. كما لم يظهر في مصر نمط الموسيقي-الشاعر، على غرار ما هو موجود في الغرب أو كما في حالة زياد الرحباني في لبنان مثلاً.
كانت موسيقى “الجيل” أو الصرعة التي أطلقها حميد الشاعري أشبه بحالة اصطياف دائمة أغرقت في موجاتها المرحة أغاني الشباب. ولكن تحت هذا المرح المفتعل كان يكمن البؤس الاجتماعي، والتفسخ وفساد المنظومات والمؤسسة التعليمية التي يتحرك في إطارها هؤلاء الشباب مستهلكو ألبومات حميد وشلته. ولا أطالب هنا بأن يكون المُنتَج الموسيقي “ملتزم سياسياً” على طريقة الشيخ إمام –نجم مثلاً، لكن حتى الهموم الفردية كما طرحتها إبداعات الجيل نفسه في فنون أخرى (كالأدب مثلا) غابت تماماً عن قواميس موسيقى الجيل.
هل كانت بشائر ثورة غنائية حقيقية سرعان ما تمت استعادتها من قبل ماكينات التصنيع والتسليع لتعيد انتاجها في تيمات ظلت تتكرر بشكل لا نهائي منذ نهاية الثمانينيات حتى موات سوق الكاسيت بفعل ثورة الوسائط الحديثة، وتراجع أهمية التيار والجيل الذي خلقه الشاعري بما يشبه القطيعة التي أحدثتها “ثورات” 2011 مع ذائقة التسعينيات ورديفها الثمانيني.