.
عن حفل إطلاق اسطوانة “آدم داروين والبطريق“
كتب المقال محمد علي
ترجمته عن الإنجليزيّة سماح جعفر
يوم السبت 24 أيّار/ مايو 2014، وقف مازن السيد، الملقب بالراس، على خشبة مسرح مترو المدينة، باصقاً المقاطع اللفظية من فمه كالرشاش، مطلقاً اسطوانته الثانية: آدم داروين والبطريق، كالقذيفة. لم يقف الراس وحيداً تلك الليلة؛ فمقابله وقف جمهور من جميع الأعمار وإلى جانبه وقف “الفرعي” الذي حضر من عمّان، وناصر طفار الذي ينحدر من محيط جبال بعلبك. وكما هو الحال دائماً، احتلّ طرف الخشبة الموسيقي، الجندي المجهول كما سمّاه ناصر الطفار لاحقاً في الحفل، “مونما“.
بدت ليلة السبت تلك كأي عطلة نهاية أسبوع أخرى في بيروت، كان شارع الحمرا يختنق بالاختناقات المروريّة المزدانة باللاجئين السوريين الأطفال الذين يبيعون الزهور ويلمعون الأحذية لرواد الليل. على السطح بدا كل شيء طبيعياً ومملاً في تكلّفه بينما تُهدم هوية بيروت بفعالية كبيرة من قبل آلة النيو–الليبراليّة الوحشية المسماة “تنمية“.
كان التباين ما بين دواخل شارع الحمرا وطرقها الرئيسيّة واضحاً. وفي أروقة مسرح مترو المدينة، تجمّعت وجوه متنوّعة لترى ما سيقدمه الراس من جديد. تبادل البعض الآراء حول ما سمعوه حتى تلك اللحظة من الاسطوانة الجديدة على ساوند كلاود. إذ توقّع البعض أن تكون الاسطوانة تكراراً لعمله الأوّل “كشف المحجوب“، بينما كان البعض الآخر أكثر حماساً تجاه العمل الجديد.
كانت هناك أيضاً وجوه جديدة حائرة لم تحضر حفلاً من هذا النوع من قبل. من هؤلاء برز ثلاثة شبان تتراوح أعمارهم بين 12 و14 عاماً على الأكثر، جاؤوا برفقة أمهاتهم. أحد الشبان الصغار سحب والدته المحجبة، والتي ربما كانت في أواخر الأربعينيّات، إلى كشك التذاكر وأخبرها بحماس “ماما هون بنشتري التذاكر” ثم تابع محاولاً إقناع والدته الحذرة “بيعطونا سي دي كمان“. استهجنت الأم ذلك وقالت “منُّه ناقصنا سي ديات” ولكنها شرت التذاكر لإبنها الذي كاد يطير فرحاً.
بعد انتظار طال بعض الشيء خرج الفرعي من وراء الستائر وافتتح العرض بأغنية “صاحب الراعي“، من اسطوانته “صوت من خشب” التي تبدأ بـ“قلي يا وليدي ايش هالون اللي تغنيه“، والتي هي بداية مناسبة جداً من باب أنها تطرح السؤال حول نوع الموسيقى الذي يتعاون فيها هؤلاء الشباب، وخصوصاً في الاسطوانة التي كان الراس على وشك إطلاقها.
تتراوح النقاشات وتختلف حول الاسم المناسب لهذا النوع الجديد والناشئ: “هيب هوب“، أو “راب عربي” كما يسميه الأكثرية، وهو ما لا يوافق الكثيرون– بمن فيهم الراس– على أنها تسمية مناسبة. ذكر الراس في عدة مناسبات أنه يفضل تسمية “تعليق“. تسمية التعليق مفيدة لعدة أسباب أهمها ربط العمل هذا النوع من الموسيقى بإرثها العربي اللغوي، الأمر الذي تحدث عنه الراس بتوسّع في مقاله “الراب والنص القرآني، بين الموروث الانقلابي والاشتباك” ورفْض تحجيمه كمجرد تنويع على تقليد الغربي.
واصل الفرعي عرضه بغناء “بحة بدوية” ثم انتقل إلى مقطع شعري أداه بدون موسيقى آلاتيّة “أكابيلا” حمّس فيه الجمهور. أداء الفرعي القوي مهّد الطريق للراس الذي ظهر من وراء الستائر وثبّت قدميه أمام الميكروفون. تحته كان انقسام الجمهور واضحاً؛ كان هناك من يهتف ويصفّر وكان هناك من بقوا في مقاعدهم وصفّقوا بتهذيب وخجل. بدأ مونما تأدية ألحانه وانبثقت كلمات الأغنية الأولى في الاسطوانة “معركتي” من فم الراس الذي بدا متوتّراً بعض الشيء. شد الراس حامل المايكروفون بيد واحدة وتابع تدفقه: “مخنوق بكيت كتير جوا“. على الرغم من أنني عرفت كثيرين يحفظون كلمات الأغنية منذ أن أطلقت على ساوند كلاود، إلا أن أحداً لم يغنِّ مع الراس. كان وجوده على المسرح قويّاً وأداؤه مؤثراً.
[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_original”,”fid”:”1388″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”typeof”:”foaf:Image”}}]
انتقل بعدها الراس إلى أغنية “في الجليد” مع “الفرعي“، والتي يمكت اعتبارها جزءاً ثانياً لأغنيتهما التي لاقت نجاحاً كبيراً “استشراق“، والتي تتناول معاناة ومشقات المهاجرين العرب في أوروبا. هتف الحضور بعد كل مقطع وخصوصاً بعد أن أطلق الراس السطر التالي “هونيك بشغل عينيي وهون بشغل دفتري، لأنو عرب الدنمارك أسعد من عرب الزعتري“. غنى الراس دون توقف وتدفقت 12 أغنية من أصل الـ 14 في عمله الجديد. ومع كل أغنية، واصلت طاقة الجمهور نموها، وجرفت كل أغنية الجمهور أقرب إلى الفنان على خشبة المسرح. نظام الصوت بمترو المدينة تلك الليلة لم تشبه شائبة؛ وأضاف وضوحه قيمة هامة إلى ألحان مونما وأداء الراس، وحافظ على سير الحفل بسلاسة.
انضم ناصر طفار إلى الراس على خشبة المسرح لأداء ثنائي آخر من العمل. ظهور ناصر أشعل موجة من الصافرات والصيحات والتصفيق، فهو معروف بحضوره القوي على المسرح كما هو معروف بلكنته الجردية البعلبكية وكلمات أغنياته العنيدة والتي لم تفشل مرة في تأجيج حدث. معاً غنوا “أنباء هامة” الأغنية التي تعالج نفاق وسائل الإعلام وتضليلها وصاح كلاهما في مقطع غنائي يشبه هتافاً يعتبر من أكثر المقاطع قوة “الثورة عالطريق، الثورة مو عالشاشة“.
[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_original”,”fid”:”1389″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”typeof”:”foaf:Image”}}]
شعرت أن الراس نجح في إطلاق اسطوانة جديدة تحمل أفكاراً منعشة موسيقيّاً وغنائيّاً على حد السواء. كما لاحظت أن المشجعين الذين التزموا الحذر في البداية صارت رؤوسهم تومئ مع الألحان. أغنية واحدة على وجه الخصوص جعلت الناس يتحادثون بلهفة وهي الأغنية رقم 3 في الاسطوانة: “كشغرة“. ففي هذه الأغنية، يقدم الراس نقداً لإرث النبي محمد وللطريقة التي يتعرّض بها الإسلام ورسالة محمد للإساءة والتحريف اليوم. أكثر من شخص أخبروني عن نيتهم في العودة إلى المنزل للاستماع إلى الأغنية بتمعّن.
اليوم نشهد تغييرات واسعة في العالم العربي. منها التغيير أيضاً في فهمنا لتاريخنا العربي/ الإسلامي وثقافتنا ومعها الرؤية الفاشلة والخرافات التي وضعتها أجيال آبائنا والتي تتحطم اليوم إلى قطع. من تحت أنقاض وحشتنا المستمرة تظهر هناك أصوات جديدة لديها القدرة على الوصول إلى مختلف الأجيال.
صوت الراس، خلال عمله الجديد “آدم داروين والبطريق“، يبرز بوضوح ليقود حركة ثقافيّة عربيّة شابة. هذا الفنان العربي وزملاؤه يثبتون مراراً وتكراراً أن المواهب لا يمكن رعايتها بعائدات النفط. “آدم داروين والبطريق يدوّي مستقلّاً“، وضوحه وصدقه في التعبير هو نوع موسيقي نحن بأشد الحاجة إليه، يستطيع أن يتغنى به كل الشباب العربي التواق للتغيير.
[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_original”,”fid”:”1390″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”typeof”:”foaf:Image”}}]
هذا الفيديو من إنتاج Medrar.TV، وينشر بالشراكة مع معازف.