.
كتبت يُسر سعيدان المقال بالإنجليزية، وترجمه إلى العربية أيمن الزواوي.
على مر السنوات الأخيرة، نمى لديّ حماسٌ يقارب الهوس بأحد أهم موسيقيي الجاز في لندن، شاباكا هاتشينجز. كان توقيت الاكتشاف ملائمًا لإشعال هذا الحماس على مستويات عديدة؛ إذ حصل عندما كنت أدرس نظريات الما-بعد-كولونيالية في النقد الأدبي بالتوازي مع دراسة نماذج من أدب المهجر الأفرو-كاريبي، إضافةً إلى اهتمامي المتزايد بالدراسات الثقافية، كما تزامن مع إطلاق الألبوم التجميعي وي آوت هير من إنتاج تسجيلات برانزوود سنة ٢٠١٨. لم أعلم حينها أن هذا الألبوم، الذي أصبح فيما بعد أنثولوجيا لموجةٍ جديدة من موسيقيين يضخون دماءً جديدة في مشهد الجاز في لندن، قد صُنع بإشراف هاتشينجز نفسه. للوهلة الأولى، أسرني عنوان مقطوعة شاباكا في الألبوم، بلاك سكين، بلاك ماسكس (بشرة سوداء، أقنعة سوداء)، ودفع بحماستي نحو الذروة. تلاعب شاباكا بعنوان كتاب فرانز فانون: بشرة سوداء أقنعة بيضاء، الذي صدر في خمسينيات القرن الماضي. اتضح أن صاحب هذا التراك الرائع يعزف منفردًا، ويلعب أيضًا ضمن ثلاث تشكيلاتٍ أخرى هي سَنز أف كِمِت وشاباكا آند ذي آنسِسترز وفرقة الموسيقى الإلكترونية المستقبلية ذَ كومِت إز كامين؛ كما سبق له العزف مع فرقة سَن رع أركسترا وذَ هيليوسنتريكس، بالإضافة إلى ظهوره بجانب أحد رواد مدرسة الإثيو-جاز تسمية مختصرة تُطلق على الجاز الأثيوبي الذي ازدهر منذ أواخر الخمسينيات. مولاتو أستاتكي.
على مر العقد الأخير، شهدت لندن نمو حركةٍ نابضة لاستعادة وإعادة ابتكار الجاز، إذ قام موسيقيون أمثال موزس بويد وياز أحمد ونوبايا جارسيا وجو آرمون جونز وثيون كروس، بالإضافة إلى فرق كوكوروكو ومايشا وبورتيكو كورتات، بدفع حدود الجاز وإعادة رسمها. أدت تلك الحركية إلى نشوء ديناميكيةٍ جديدة أنعشت الأساليب التقليدية في مشهد الجاز العالمي، وضمّت أنماطًا موسيقية مختلفة إلى مصفوفة الجاز الكبرى سبق لناقد الجاز البريطاني ماكس هاريسون استعمال نفس المصطلح في الموسوعة الموسيقية New Grove Dictionary of Music and Musicians، للإشارة إلى الجاز كمصفوفةٍ مركبة تتكون عبر تجميع عناصر وخصوصيات محلية التقت من أمكنة وأزمنة مختلفة، ما يجعل الجاز مفتوحًا بشكلٍ دائم على التجديد ومحافظًا في الوقت ذاته على هويته المركّبة.. برز شاباكا هاتشينجز كطرفٍ فاعل في هذه الديناميكية باعتباره أكبر سنًا وأكثر تجربةً من الموسيقيين الصاعدين في المشهد اللندني الفتيّ، حيث صاغ مقاربته للجاز داخل إطارٍ تقليدي لم ينزع عنه فردانيته التي بصمت عزفه وشخصيته.
ساعد تكوين هاتشينجز الأكاديمي في الموسيقى الكلاسيكية ومقاربته المبتكرة للجاز، بالإضافة إلى تأثره بالأنماط الحرة والكونية للأفرو-جاز، في لعب دورٍ حاسم في تشكيل أسلوبه الخاص وتجاوز حدود التجريب. بالنسبة لبعض النقاد والموسيقيين، انتهت تجريبات الجاز عند أعمال فاراوو ساندرز وأليس كولتراين وسَن رع وحتى فيلا كوتي، فيما اعتبروا محاولات التجريب اللاحقة ضربًا من المزج المنمق والهجين سواءٌ بشكله العرقي (كالإثيو-جاز والجاز الشرقي) أو الإلكتروني (كالآسيد جاز والنيو-جاز نسبةً إلى النيو أُربان جاز). جمع هاتشينجز تلك التيارات التجريبية عبر استيعاب طاقة جيله وتقديره لروّاد الجاز الكلاسيكي والأقل كلاسيكية. سمح له هذا الموقع المزدوج بالعبور إلى مشهد جاز مزدهرٍ ومتنوع ويحظى باعترافٍ إعلامي قوي.
يلقب البعض شاباكا بالأخ الأكبر وعرّاب الجيل الجديد من موسيقيي الجاز الذي لا يكترث للأحكام التصنيفية للموسيقى. في حوار مع مجلة كراك ماجازين وصف هاتشينجز النقلة التي حصلت في شعبية الجاز مؤخرًا: “قبل خمسة عشر أو عشرين سنة، لم نكن متفائلين إلى هذا القدر بالمدى الذي يمكن أن تصله هذه الموسيقى. عندما كنت مع بولار بير (فرقة جاز تجريبي)، عزفنا الجاز في المهرجانات قبل أن يصبح أمرًا متداولًا. كان علينا أن نتعلم كيف ننقل أفكارًا ارتجالية إلى جمهورٍ عريض. لم يكن ذلك هينًا. هناك العديد من العازفين الشبان الرائعين الذين يبتكرون أساليبًا خاصة بهم، مثل نوبايا جارسيا وكاسي كينوشي. تلاشت العديد من الحدود حتى وصلنا إلى نقطةٍ تتجاوز تعريف الجاز. يتعلق الأمر فقط بتحصيل التدريب اللازم للإبداع بشكل حر.”
برهن شاباكا هاتشينجز على إيمانه بهذا الجيل عبر انخراطه في مختلف تياراته، حيث تعامل مع بعض الفرق مثل فرقة عازفة الساكسفون البريطانية من أصل بحريني ياز أحمد، كما ضمّ بعض الأسماء إلى مشاريعه الفنية كثيون كروس عازف التوبا في سَنز أوف كِمِت، وشارك في مشاريعٍ لاحتضان ودعم ثقافات الجاز الصاعدة التي لم تحظَ بعد بالاعتراف الكافي على غرار جاز رفريشد وتوتال رفرِشمنت سنتر. أخذت مسيرة شاباكا دفعةً قوية بعد تعاونه مع الموسيقي والمنتج جايلز بيترسون مؤسس تسجيلات براونسوود وراديو ورلدوايد إف إم، الذي يعتبر أحد أهم مناصري ساحة الجاز الصاعدة في لندن. وضع جايلز ثقته في هاتشينجز كمديرٍ فني ومشرفٍ على ألبوم وي آوت هير التاريخي الذي صدر في ٢٠١٨ وتحوّل اسمه فيما بعد إلى مهرجان سنوي أًقيم لأول مرةٍ في صيف ٢٠١٩. علّق هاتشينجز على أهمية هذا التعاون في حوارٍ أجراه مع صحيفة ناو إيدزي أود مورزا: ” تعكس موسيقى الألبوم صورة مجتمعٍ شاب يحتفي بالجاز في الوقت الحاضر. قدم المشاركون في الألبوم موسيقى يطلبها الجمهور، كما ساهموا في تثمين تاريخ الجاز لدى المتابعين. بفضل التعرف على تلك الموسيقى، يتمكن الجمهور من تطوير منظوره الخاص حول هذا التراث المؤسس.”
ترسم الأعمال والمؤلفات الموسيقية لشاباكا، إضافةً إلى عروضه وحواراته وكتاباته في وسائل الإعلام، صورةً لفنانٍ منغمس في سياقاته المتحولة والطارئة. صرّح شاباكا في إحدى حواراته مع مجلة كومبلِكس أن “البيئة الثقافية تؤثر حتمًا على الأعمال الفنية، وحتى الأعمال التي تعبر عن رفضٍ لتلك الثقافة تحمل في طياتها ارتباطًا قويا معها.” يتغاضى شاباكا عن استعراض دوره الجدلي كفنان في بلورة ومراجعة وصياغة معايير جديدة لتلك السياقات الثقافية، التي تتداخل فيها علاقات التأثّر والتأثير. لعل أبرز مثالٍ لهذا الدور هو تعاقده مع شركة التسجيلات الأسطورية إيمبُلس!، التي ارتبط اسمها بعمالقة الجاز الحر على غرار جون وأليس كولتراين وآرتشي شاب وتشارلز مينجوس وفاراوو ساندرز. اعترافًا بتأثيره في ساحة الجاز، راهنت إيمبُلس على شاباكا كأحد المبشرين بتطوير الجنرا، وحظيت بحصرية إنتاج كل أعماله مع مختلف التشكيلات التي أسسها. مثّل ذلك نقطةً فارقة في مسيرة شاباكا باعتبار الشركة توفر ما يُمكن اعتباره “آلة مشحّمة جيّدًا.” رغم ما منحه التعاقد مع إيمبُلس من اعتراف لشاباكا، إلا أنه حافظ على الطابع الهامشي لموسيقاه غير الاعتيادية والمشحونة سياسيًا، والتي لا تعبأ بالتعاريف المقعرة ولا باللباقة السياسية. حوّل شاباكا تعاقده مع إيمبولس إلى حركةٍ نحو المركز حمل معها خصائصًا من الهامش، بقصد توسيع حيّز هذا المركز أو تحريكه كليًا؛ كما وجّه اهتمام جمهوره نحو الثقافات المضادة التي كوّنت شخصيته. لم يُحدث ذلك التحوّل نحو المركز قطيعةً في السردية الموسيقية في أعمال شاباكا، بل خلق حوارًا بين مختلف التأثرات التي صقلت شخصيته.
متأثرًا بأفكار الكاتب الكيني نجوجي واتيونجو، لا يبالي شاباكا بقداسة وثبات المركز. بالنسبة لواتيونجو بدأ تحريك المركز مع بدء عملية إنهاء الاستعمار (decolonization process) خلال الستينيات، وامتد إلى تحويل التركيز في الأدب الجديد والفن من رؤية العالم القائمة على المركزية الأوروبية إلى خلق زخمٍ من المراكز المتعددة حوله. أثّر هذا الخط في التفكير على الاكتشاف والممارسة الموسيقية لهاتشينجز، ما سمح له بإدراك حدود هياكل المعرفة الثابتة والمؤسساتية بشكليها الموسيقي والثقافي، وهكذا، أصبح هاتشينجز يتبوأ من باب المفارقة مكانةً هامشية داخل مركز الاهتمام.
ما يضفي على موسيقى شاباكا هاتشينجز الطابع الهامشي يتجاوز انتمائه إلى الثقافة الموسيقية الصاعدة، ليشمل حياته وموروثه العرقي الثري وتكوينه وخلفيته متعددة الثقافات. تتداخل تلك العناصر مع أعماله الإبداعية لتصنع شخصيةً مثيرة للاهتمام نراها بكل وضوح في أعماله وعزفه.
على امتداد التشكيلات الثلاثة التي انتمى إليها، كشف شاباكا عن ترسانة أساليبه الفذة. في أعماله مع ذَ كومِت إز كامين فرقة روك إلكتروني ونيو أوربان جاز، يعزف فيها شاباكا بجانب عازف الكيبورد دانالوج ذَ كونكرور (دان ليفرز)، وبيتاماكس كيلر (ماكسويل هاليت) على الدَرمز.، ضمّ شاباكا أسلوبه إلى الثنائي دانالوج وبيتاماكس لخلق موسيقى مستقبليةٍ غير تقليدية، حتى أنّ المواضيع والمؤثرات البصرية تستحضر صورًا وخيالات كونية أفرو-مستقبلية تذكرنا بعالم سَن رع. من الصعب تحديد الطابع الموسيقي لهذه الفرقة، لكن طاقتهم الكونية (حرفيًا) تشتبك بشكلٍ محموم مع الجاز من خلال ساكسفون شاباكا. تنقل موسيقى هذا الثلاثي الخيال-علمية والحضَرية النبض الإلكتروني للجاز، الذي ينتمي إلى جيلٍ سيطر على مدن إنجلترا عبر فنانين مثل كمال ويليامز ويوسف دايز.
لا تنطبق الخصائص الإلكترونية لِكومِت إز كامين على سَنز أوف كِمِت وشاباكا آند ذي آنسِسترز، رغم أن الفرقتين تكونتا نسبيًا في نفس السياق اللندني، لكن موسيقاهما حملت أبعادًا وتداعيات أكثر ارتباطًا بسياقاتها السياسية والتاريخية وخلفياتها الثقافية.
ولد هاتشينجز كمهاجرٍ من الجيل الثاني في لندن، لكنه قضى طفولته في باربادوس الواقعة في جزر الأنتيل الصغرى المتاخمة للكاريبي، قبل العودة إلى لندن في سن السادسة عشر حيث اكتشف ودرس الجاز. أثناء طفولته في باربادوس، عزف شاباكا المزمار (Recorder) والكلارينت في الأوركسترا المدرسية، ونهل من في نفس الوقت من ثقافة الكرنفال التي طغت عليها أنواع موسيقية مختلفة من كاليبسو وريجي ودانسهول وسوكا وسكا. تزامنت تلك الحقبة مع العصر الذهبي للهيب هوب، تأثر شاباكا بِدري وناز ونوتوريوس بي آي جي وتوباك ودرّب نفسه على استعادة أغانيهم بمزماره.
مثّل ذلك التنوع بالنسبة إلى شاباكا رافدًا للحدّة والطاقة ميز أداءه وتقنياته في العزف، ودافعًا لاستخفافه بالحدود التي تضع تراتبيةً معينة بين مختلف الأنماط الموسيقية: “في هذا المناخ الموسيقي الذي نشأت فيه في باربادوس، لم يكن هناك الكثير من العوامل المفرقة التي تكبح الموسيقيين. بدا لي طبيعيًا للغاية أن أتعلم الموسيقى الكلاسيكية عبر الكلارينت تزامنًا مع نشاطي داخل فرق الكاليبسو أثناء الكرنفال وعزفي على الدرَمز مع فرق التوك (موسيقى باربادوسية تقليدية). ساهم ذلك في أن أرى نفسي كموسيقيٍ من منظورٍ شامل يتجاوز حدود الجنرا.” (من مقابلته مع مجلة ناو إيدزي أود مورزا)
أصبح شاباكا فنانًا جامحًا قادرًا على التلاعب والتجريب في أنماطٍ متنوعة وإيجاد روابط بينها، بالإضافة إلى تحديد عوامل مشتركة بين السرديات الموسيقية المتشتتة بين أزمنةٍ وأمكنة مختلفة، بفضل منظوره الشامل للموسيقى الذي يتجاوز التعريف وسلطة الجنرا.
يتوسع شاباكا هاتشينجز في هذه العوامل المشتركة من خلال فحص العناصر الموسيقية الإفريقية المتأصّلة في موسيقى الشتات الإفريقي، وخاصةً منها الجاز والموسيقى الأفرو-كاريبية والهيب هوب، في محاولةٍ لكشف نصٍ مبطن أو سرديةٍ ضمنية داخل أنماط التشابه التي تتجاوز مجرد وحدة الأصل العرقي: “أعتقد أنه توجد لغةٌ بديلة حاضرة في الهيب هوب والجاز تربط النوعين معًا بشكلٍ جذري يعصى على التحليل التقليدي. تدهشني فكرة أن للموسيقى طبقات من المعلومات المشفرة تتوارث جيلًا بعد جيل. هل هناك قصصٌ داخل العناصر الموسيقية التي عبرت الممر الأوسط تزيد عما نحن مستعدون للاعتراف به؟ هل نحن في مكانةٍ تسمح لنا بفهم معاني تلك القصص؟ ربما تكون صياغة أساطير جديدة طريقةً صائبة لمقاربة هذه التساؤلات، حتى إن لم تنفع الإجابات المحتملة في شيءٍ آخر سوى تحفيز وإلهام الخيال الإبداعي.”
في هذا المقطع من مقاله للجريدة البان-أفريقية تشيمورينجا كرونيك، يعرّف شاباكا الممر الأوسط كموقع يكمن فيه النص المبطن الموحد لقصصٍ مشفرة لم تُحكَ. جغرافيًا وتاريخيًا، يتمثل الممر الأوسط في الفضاء البحري الذي يفصل بين الساحل الغربي لأفريقيا وبين العالم الجديد والساحل الغربي للإمبراطورية (أوروبا). يخط هذا المثلث المسار العابر للأطلسي للتجارة الاستعمارية وخاصة تجارة العبيد، كما يجسد معاناة الأفارقة على متن سفن نقل العبيد. يعدّ هذا الممر فضاء طمسٍ وتلاشٍ لهوية الشعوب الإفريقية بسبب إبعادهم قسرًا عن أوطانهم، كما تحول إلى فضاءٍ رمزي مستلهم من قصص العبيد الشفوية المتوارثة.
استعاد الفنانون والباحثون تعريف المحيط الأطلسي كقوة خلقٍ للتاريخ والوعي المشترك لشعوب مهجرة ومبتورة الجذور. يتأمل هاتشينجز هذا الفضاء في مقاله لجريدة كرونيك، ويضعه تحت مجهره التجريبي للموسيقى السوداء، بغاية إيجاد أنماطٍ للمعنى أو أساطير موحدة جديدة تنتمي إلى فضاءٍ للتواصل والخلق الثقافي اللامادي يسمى الأطلسي الأسود. يستعمل بول جيلروي، أحد المفكرين الذين تأثر بهم هاتشينجز، هذه العبارة (الأطلسي الأسود) في إشارةٍ إلى الممر الأوسط كفضاءٍ للتلامس الثقافي الذي بدأ خلال التجارة الاستعمارية، ولا يزال يحدد الهويات الحديثة في بريطانيا وأوروبا عمومًا، إضافةً إلى إفريقيا والأمريكيتين؛ كما يعتبر أن هذا الفضاء يقاوم الطابع الجوهري للثقافات القومية ويحتفي بالاختلاط وعدم الثبات. في الواقع، يستمد شاباكا تصوره للجاز والهيب هوب من جيلروي الذي يعتبر أن هذه الأنماط الموسيقية وليدة الأطلسي الأسود، فأصولها تتجاوز نيو أورليانز والبرونكس وحتى غانا. نشأت تلك الموسيقات في رحم الثقافة المضادة، وجسّدت فعليًا “الأناشيد الجديدة والأغاني الجديدة والأساطير الجديدة.” (من ألبوم ويزدوم أف إيلدرز لـ شاباكا آند ذي آنسِسترز)
عبر شاباكا هاتشينجز منذ صغره المحيط الأطلسي مرارًا. حمل هذا الترحال بعًدا رمزيًا في صنع وتفكيك الممر الأوسط في ذهنه، وبدا كنمطٍ معاكسٍ للهجرة القسرية (من بريطانيا إلى البحر الكاريبي ذهابًا وإيابًا) ينتهي إلى سعيٍ نحو الأصل الجوهري، أفريقيا. يفكّك شاباكا الخرافات الفاشية المتعلقة بالأصول الصافية والثابتة والثقافات الأسمى على امتداد أعماله، كما يحتفي بالتدفق المستمر والاختلاط المميز للأطلسي الأسود كقوةٍ خالقة. نجد في موسيقى سَنز أوف كِمِت وشاباكا آند ذي آنسِسترز التي ألّفها هاتشينجز ارتباطًا وثيقًا بسرديات الأطلسي الأسود.
بالنسبة إلى الفرقة اللندنية سَنز أوف كِمِت، تكمن طاقتها الخام في عازفي الدرَمز توم سكينر وإيدي هيك (خلفًا لسيب هيتشفورد) بالإضافة إلى ثيون كروس عازف التوبا. تعكس هذه الفرقة الموروث الكاريبي وتحافظ في الوقت ذاته على هويتها المتروبولية المعاصرة. تتميز الفرقة بموسيقى قوية ذات ملامح تراثية تراوح بين الكرنفالات الباربادوسية وأوركسترات الجاز، كما تمثل ثمرة بحثٍ عميق في الموسيقات العرقية الأفرو-كاريبية عبر استعادتها للألحان الكاريبية القديمة. ساهمت تلك التوليفة في جلب الرقص لنوادي الجاز، ودفعت بالجاز إلى الملاهي الليلية.
تنطلق سَنز أوف كِمِت من الريجي والدانسهول لضبط النغمات الإيقاعية لارتجالات الجاز. تندمج هذه الألحان والإيقاعات الهجينة المتناسقة مع مواضيع الألبومات الثلاثة لتقدم في كل مرة إنتاجًا متمردًا، بدايةً بألبوم بورن الذي زعزع سنة ٢٠١٣ المشهد الموسيقي في لندن.
يزخر الألبوم بإشارات سياسية وثقافية تظهر فيها بشكلٍ جلي تأثيرات الكتاب والموسيقيين الذين صقلوا شخصية هاتشنجز، على غرار مولاتو استاتكي والشاعر البرتغالي فرناندو بيساوا، مع حضورٍ قوي لثيمات راهنة كالتغير المناخي ومسألة الهيمنة الثقافية في بابل (في اقتفاء للرمزية الراستافارية لبابل كمدينة القمع و الشر) التي غدت مستبطنةً في وعي الفرد في المدينة الأوروبية المعاصرة، ومهدت إلى أحد أهم مواضيع الألبوم التالي، لِست وي فورجِت وات وي كايم هير تو دو، الذي يصفه شاباكا بِرحلة تأملٍ حول الشتات الكاريبي في بريطانيا. احتوت مقدمة الألبوم على تحيةٍ لذكرى المراهق الفلسطيني سمير عوض، الذي قتله جنود إسرائيليون بدمٍ بارد من مسافة صفر في الضفة الغربية في يناير ٢٠١٣، سنتين قبل صدور الألبوم في ٢٠١٥. يخصص هذا الألبوم كسابقه عددًا مهما من التراكات لتكريم مؤلفين مؤثرين مثل جورج لامينج بالإضافة إلى تياراتٍ فكرية كالأفرو-فيوتوريزم التي يُرجعها بول جيلروي إلى الأطلسي الأسود.
سيطرت تحيات التكريم التي تقوم بها الفرقة على ألبوم يور كوين إز أ ريبتايل كله، وأخذت بذلك بعدًا ثوريًا. صدر الألبوم سنة ٢٠١٨ من إنتاج إيمبُلس. يمكن اعتبار الألبوم برمته بيانًا للوومانيزم Womanism (نوع من النسوية طُوّر من قبل نساءٍ غير بيض) يعلن تبنيه للقضايا المركزية في هذا التيار، مع احتفاءٍ غير مسبوق بـ”ملكات جديرات باللقب” نصّبهن شاباكا. يضع الألبوم طرفي المعادلة في صدامٍ واضح من خلال ثنائية “يور كوين / ماي كوين”، مستهدفًا بذلك المَلَكية البريطانية بشكلٍ مباشر عبر خطابٍ موسيقي حاد وملتزمٍ سياسيًا.
احتوى الألبوم على خلعٍ رمزي للسلطة الملكية، فيما استعادتها وتملّكتها نساء سود يمثلن بالنسبة لهاتشينجز “أمهات المقاومة والثقافة وأيقونات الشجاعة والحرية.” حملت عناوين الأغاني نفس الصياغة: “ماي كوين إز …”. استحضر شاباكا في كل مرة اسمًا أيقونيًا مؤثرًا. تعددت الملكات التي توّجها الألبوم وشملت جدة أمه آيدا إيستمان التي قدمت إلى إنجلترا أثناء الويندرَش أكبر موجة هجرة عابرة للأطلسي من الكاريبي إلى بريطانيا سنة ١٩٤٨.، مرورًا بآنجيلا دايفيس الفيلسوفة التي كانت سابقًا عضوة في تنظيم الفهود السود، ووصولًا إلى يا آسانتيوا الزعيمة المناهضة للاستعمار في قبيلة الآشانتي. كشف شاباكا لمجلة كراك عن دوافعه وراء هذا الاحتفاء التاريخي: “كنت أفكر في تجارب النساء على ضوء الباترياركية وكيف لا نستطيع عادةً رؤية هياكل القمع التي تتحكم فينا.”
جمع شاباكا تأثيرات عديدة من أنماطٍ موسيقية مختلفة مثل الدب في ماي كوين إز مامي فيليبس كلارك، والجروف المشبع بالروحانية الراستافارية في ماي كوين إز ناني أوف ذَ مارونز. أثناء العمل على الألبوم، لم تفارق ذهن شاباكا إحدى مقولات سَن رع: “الشعوب المقموعة تملك القدرة على خلق بنًى أسطورية خاصة بها.” يقر هاتشينجز صراحةً بهذا الهجوم على الهيمنة الثقافية للملكية، ويصرح بأنه كمهاجرٍ من الجيل الثاني “يملك القدرة على التخلي عن هذه الخرافة البالية واستبدالها بأساطير من صنعه الخاص.”
في تجربة الفرقة العابرة للقارات شاباكا آند ذي آنسِسترز، أخذت الأنماط الرمزية المتمردة بعدًا أكثر دلالة إذ صاحبتها عودةٌ فعلية ورمزية إلى إفريقيا. تمركزت الفرقة في جوهانسبورغ وضمت بجانب شاباكا هاتشينجز كعازف ساكسفون ستة موسيقيين من جنوب أفريقيا وشاعر. تأسست الفرقة سنة ٢٠١٥ أثناء إحدى رحلات هاتشينجز الموسيقية الاستكشافية إلى أفريقيا. يشير اسم الفرقة ومقرها وألبوماتها إلى الماضي كقوةٍ للتعافي والشفاء. حمل ألبوم ويزدوم أُف إيلدرز الصادر في ٢٠١٦ اعترافًا بشيوخ التاريخ وحكمتهم. ساهمت بعض المقاطع، التي أحالت إلى الأشكال الكلاسيكية للجاز مثل جويوس والأفرو-جاز في مزواندايلا، في دفع النقاد إلى التسرع في تصنيف موسيقى الفرقة ضمن الجاز الروحاني الذي يقتصر محتواه على مجرد العودة الى الجذور الإفريقية، متجاهلين بذلك البعد السياسي للألبوم. اختزل الألبوم سردية ترحالٍ مثّل كل تراك فيها حلقةً في رحلة شخصيةٍ عابرة للتاريخ تحمل حكمةً قديمة منذرةً بسقوط النظم المتصدعة التي تحكم حاليًا. برزت رسالة الألبوم بشكلٍ صارخ في التسجيل الحي في برنامج جاز كافيه على إن تي إس، عندما ظهر شاعر الفرقة سيابونجا متيمبو مناديًا “لِحرق الجمهورية الفاشية” وتراثها، وهو ما وضع المستمع في مواجهةٍ مباشرة مع المانيفستو السياسي لشاباكا أند ذي آنسِسترز.
أعلنت النسخة الحية من الألبوم عن طقسٍ من طقوس التعميد بالنار الممهد لولادة “الأناشيد الجديدة والأغاني الجديدة والأناس الجدد”، وكشفت بشكلٍ مسبقٍ عن نبرة الألبوم اللاحق لشاباكا آند ذي آنسِسترز، الذي حملت خلاله عظات متيمبو النارية بعدًا سياسيًا أكثر صدامية وحتمية: “عند إحراق الجمهورية الفاشية في عقولنا وفي قلوبنا، نحتاج أناشيدًا جديدة، نحتاج أغانيًا جديدة، نحتاج أناسًا جدد.”
جسد الألبوم الثاني للفرقة، وي آر سِنت هير باي هيستوري الصادر في ٢٠٢٠ من إنتاج إيمبُلس، تتمةً مستقبلية لسردية الشخصية العابرة للتاريخ التي رُسمت ملامحها الأولية في الإصدار السابق. يحملنا التراك الثاني يو هاف بين كولد من خلال كلماته وألحانه إلى أرض الضياع (wasteland) الأفرو-مستقبلية حيث تتحقق نبوءات التحذير السابقة: “لقد أرسلنا هنا من قبل التاريخ / أعطتنا شعلة النار وكانت حاضرة عند الحرق / حرق الجمهورية / حُرقت الأسماء وحُرقت السجلات وحُرقت الأرشيف وحُرقت الفاتورات وحُرقت الرهون وحُرقت القروض الجامعية وحُرقت التأمينات على الحياة / صار التدمير فعلًا خالقًا.”
احتوى الألبوم على نقدٍ عنيف للديمقراطية والدين والذكورية والحرب والرأسمالية. على صعيدٍ آخر، لا يصور الألبوم نهاية العالم في حد ذاتها، بل يرسم مجددًا صورة تعميدٍ بالنار يليه مخاضٌ صعب يعيد صياغة مكانتنا في العالم. صرّح شاباكا للجارديان أنه “من أجل صنع التغيير، يجب وضع نهاية لما نريد تغييره. نجد مجموعات مثل إكستينكشن ريبيليون (مجموعة بيئية راديكالية) تقول لنا أنه إذا لم نتغير بشكلٍ جذري، فإن نهاية البشرية تلوح في الأفق. يجدر بنا التفكير جديًا في كيفية خلق بدايةٍ جديدة لهذا العالم.”
ينجح شاباكا هاتشينجز في الحفاظ على معادلةٍ صعبة خلقت نوعًا من التوازن بين بحثه في عمق خلفياته الثقافية والتراثية ووعيه التاريخي والسياسي الراهن، والجماليات الموسيقية، ما أضاف طابعًا متفردًا إلى موسيقاه التي ارتبطت بشكلٍ وثيق بالمشاغل الملحة لجيله. يلازم هذا الارتباط إنتاجات هاتشينجز ليجعلها أجزاءً متراصة – لكن متمايزة – في بناء شخصيته. رغم التزامه بالتجريب والتنويع في الجنرات، يحافظ شاباكا على أسلوب عزفٍ متفرد أصبح بمرور الوقت والمراكمة ملمحًا أساسيًا في ساحة الجاز الراهنة، وملهمًا للعديد من الأسماء اليافعة التي بدأت بخوض مغامرات التجديد وكسب جولات مظفرة.