.
ترجمت براءة فاروق المقال.
تخلق الموسيقى تجاربًا مشتركة بشكل قد يفوق أي وسيط آخر. على عكس صناعتيّ الأفلام والمسرح، تُبث الأغاني نفسها على الراديو أو على التلفاز في جميع أنحاء العالم، بلا دبلجة أو مُلاءَمة ثقافية، كما أن احتمالية فرض نوع من الرقابة عليها أقل. عند بث مقطوعة فرانز ليست هنغاريان رابسودي الثانية على الراديو، تبقى هي نفسها على راديو فرنسي كما على راديو أمريكي أو مصري. بالرغم من ذلك، قد ترتبط تجربتنا المشتركة التي تجمعنا بهذه المقطوعة بـ باجز بَني وتوم آند جيري أكثر من ارتباطها بـ فرانز ليست ذاته.
خارج حدود سماع الموسيقى على الراديو أو التلفاز، تعرّف معظم الأطفال على جانرات عديدة كالموسيقى الكلاسيكية والراجتايم والجاز من برامج الكارتون، إلى درجة يصعب معها العثور على مصادر للتجارب المشتركة قادرة على مضاهاة الكارتون.
كما في جميع الأعمال السينمائية، كانت الموسيقى المُرافقة لبرامج الكارتون في البدء تُعزف بشكلٍ حيّ، بوجود عازف بيانو أو فرقة صغيرة تؤدي الموسيقى في الخلفية. اختلفت النتائج في كل صالة عرض، وفي أغلب الأحيان كان الاعتماد الأساسي على المؤدي أكثر من الفيلم بحد ذاته. تغيّر كل ذلك عندما أصبح بالإمكان إضافة موسيقى تصويريّة على الفيلم.
منذ تلك اللحظة، منحت أعمال الكارتون مكانة الراوي للموسيقى. كان كارتون ماي أولد كِنتاكي هوم (١٩٢٦) أول إنتاج يستخدم تقنية الصوت المتزامن، حيث فهم صناعه على الفور الإمكانيات الكامنة في استخدام الصوت والموسيقى كمُرافق رئيسي للرسوم المتحركة، الصامتة سابقًا. في مشهد حول الدقيقة ١:٤٥، يدق الكلب سنّه الفالت في طقم الأسنان وينتج عنه لحن إكسيليفون، مبتكرًا أسلوبًا يُستخدم في الكارتون إلى اليوم حيث تترجم الحركات إلى ألحان.
على أية حال، جاءت لحظة الانفجار العظيمة في هذا المجال بعد عامين، عند إنتاج ستيمبوت ويلي. هنا دفع والت ديزني التكنولوجيا إلى أقصاها، وأنتج أول نجم كارتوني في العالم، ميكي ماوس؛ ما أدّى إلى ابتكار مصطلح الـ ميكي ماوسينج للإشارة إلى تزامن الموسيقى مع الحركات على الشاشة. (هامش من المحررين: أصبحت تقنية الميكي ماوسينج لصيقة بألعاب الفيديو منذ بدايتها، كلعبة سوبر ماريو حيث تمتلك كل قفزات وحركات ماريو أصواتًا معينة، ما أنتج موسيقى تصويرية ديناميكية تتغير بناءً على تجربة اللعب).
مثله مثل كافة الجنرات والتقنيات خارج إطار الموسيقى الكلاسيكية في ذلك الوقت، حمل الـ ميكي ماوسينج في كثير من الأحيان دلالات أقل من إيجابية، فقد اعتُبرت موسيقى برامج الكارتون أعمالًا دون المستوى أو صبيانية. لم يوقف ذلك أو حتى يُبطئ من تزاوج الكارتون والموسيقى، وبشّر هذا التزاوج بما يشار إليه اليوم على أنه العصر الذهبي للكارتون، حيث برز اسم كارل ستالينج بقوة في تشكيل موسيقى تلك الحقبة. عمل ستالينج مع ديزني في البداية، وأسس لظاهرة سيلي سيمفونيز القائمة على كتابة الموسيقى أولًا ثم كتابة القصة الكارتونية حولها. كان أيضًا من أوائل من استخدموا البار شييتس في الكارتون، من خلال رسم إشارات (cues) موسيقية بجانب الحركات الأساسية في مخطط القصة (Storyboard). كان ستالينج يقوم بكل شيء وفق موسيقى معينة في ذهنه، وحمل فلسفته هذه إلى وارنر بروز حيث حقق نجوميّته، وصنع العلامة الصوتية المسجلة لـ لووني تونز.
لمجاراة أعمال مثل باجز باني ورود رَنر في تهريجهما المتسارع، وظّف ستالينج كل الإمكانيات، من إشارات موسيقية قصيرة وسريعة التحوّل إلى نقلات الإيقاع ومزج الجنرات، ما عكس الفوضى على الشاشة بشكل مثالي. قام بتركيب الضربات الأوركسترالية مع موسيقى البوب واستخدم آلاتٍ تحاكي الحركات، كما أضاف مستوًى جديدًا باستدعاءات مُفاجئة لقطع مشهورة مثل رايد أُف ذَ فالكيريز وذَ باربر أُف سيفيل.
على كل حال، قرر والت ديزني أن يأخذ الكارتون إلى أفق أكثر جدّية، لإثبات أن هذه الأعمال والموسيقى المستخدمة ضمنها يمكنها أن تثمر فنًا جادًا. كانت النتيجة: فانتازيا، فيلم مكوّن من ثمانية أفلام أنيميشن قصيرة صُنعت بناءً على ثمانية مقطوعات كلاسيكية، ربما أشهرها ذَ سورسررز أبرنتيس. كما كانت الحال مع ستيم-بوت ويلي الصادر قبل اثنتي عشرة سنة، تبنّى فانتازيا أحدث تكنولوجيا وقتها وكان أول فيلم يُعرض بتقنية الستيريو.
بقدر أهمية الموسيقى، إلا أنها تشكّل جانبًا واحدًا من الصوت في الكارتون، إذ يتوقّع الجمهور صدور أصوات محددة على الشاشة عندما تحصل أحداث معينة، كوقوع مطرقة على رأس توم أو عندما يتعرقل إلمر فود. هنا يأتي دور المؤثرات الصوتية والتسجيلات المفتعلة (Foley).
في البداية، جرى إنتاج معظم المؤثرات الصوتية في الكارتون بواسطة آلات موسيقية ملحقة بالموسيقى التصويرية. مع تطوّر إمكانيات التسجيل والمزج، أصبح بالإمكان صنع ساوندتراكات بطبقات أكثر لترافق الكارتون. ساعدت المؤثرات الصوتية أيضًا في الدلالة على وقوع بعض الحركات دون الحاجة إلى رسمها بالتفصيل، ما قلل عدد الرسومات المطلوبة وبالتالي تكاليف الإنتاج. كان جريج واتسون من رواد صناعة هذه المؤثرات خلال عمله في استوديوهات إم جي إم وهانا-باربيرا برودكشن، ويعود له الفضل في بث الحياة في أفلام توم آند جيري الصامتة بمعظمها، وكلاسيكيات أخرى مثل فلينستونز ويوجي بير وذَ جِتسُنز. استخدم لصناعة أصواته تقنيات معالجة الشريط وتقطيعه التي تتشابه إلى حد كبير مع التقنيات المُستخدمة في الموسيقى الملموسة، ولا تزال مكتبة مؤثراته الصوتية مستخدمةً اليوم.
في ديزني، وبالإضافة إلى أداء صوت ميكي ماوس، كان جيمي ماكدونالد يخلق البِدَع في المؤثرات الصوتية. استخدم قطعًا زجاجية ومحافظًا جلدية ليحاكي الأصوات المحيطة والقطارات والاصطدامات ووقع الأقدام. حتى أنه استخدم نسخة بدائية من الفوكودر لمعالجة الأصوات البشرية في دامبو.
لكن لو كان هناك شخصٌ واحد مثّلت طريقته كل ما هو مدهش وأخرق ومبالغٌ فيه في الكارتون، فهو ترِج براون من وارنر بروز. من خلال عمله مع كارل ستالينج، أنتجت مقاربة براون واسعة الخيال لصناعة الأصوات معجم المؤثرات المبالغ فيها للووني تيونز، والذي تبنّته الكثير من الأعمال الكوميديّة لاحقًا. لدى عمله كمونتير صوتي، كان براون يأخذ قطعًا صوتية مسجّلة لأفلام روائية ويقطعها في أماكن غير متوقعة لاستخدامها في الكارتون، لتكون النتيجة تجسيد أصوات طلقات بصوت وايل إي. كويوتي وهو يركض، وتحوّل صوت مكابح السيارات إلى تفحيط بوركي بيج لدى توقفه. أنتج براون هذه الأصوات بتناغم كامل مع الموسيقى.
كيف ستجري الأمور لو لم يتمحور الكارتون حول عصافير مغرّدة أو دجاجات جبانة؟ ماذا لو كان عن وحش آكل للأطفال ومولع بالصدأ، يقطن منطقة جحيمية مهجورة؟ يقول ديفيد فيرث إن موسيقى أفلام كهذه أشبه بموسيقى بوردز أُف كندا، والتسجيلات المفتعلة ذات الواقعية المفرطة.
قبل أكثر من سبعين عامًا من ظهور أولى حلقات سالاد فينجرز على يوتيوب عام ٢٠٠٤، لاحظ الأخوان فليشر الإمكانيّات المريبة وغريبة الأطوار لصناعة الكارتون، وأنتجا الفيلم المقلق سوينج يو سينرز (١٩٣٠). في شبكة الكارتون (كارتون نيتورك) لعب حاصد الأرواح الشخصية الرئيسية في ذَ جريم أدفنشرز أُف بيلي آند ماندي، كما كان في كورِايج ذَ كراودلي دوج مجموعة من أشد الشخصيات إثارةً للرعب والفزع في تاريخ مسلسلات الأطفال.
من الممكن النظر إلى كورايج ذَ كاوردلي دوج الصادر عام ١٩٩٦ كسَلَفٍ مباشر لـ سالاد فينجرز. سرد البرنامج حياة عائلة تسكن وسط المجهول، وحلّت مجموعة متنوعة من الشخصيات الشريرة محلّ الشخصيات متكررة الظهور. استعار مؤلفو موسيقى المسلسل الكثير من ملامح موسيقى أفلام الرعب الكلاسيكية، فيما بقي تصميم الصوت قريبًا من الكارتون الكلاسيكي. كان المسلسل في الأساس موجهًا للأطفال، لذا لم يقدّم أفكارًا مخيفة أو دمويّة بشكلٍ بصري، مع ذلك كان لا يشبه أي شيءٍ آخر على التلفاز. مهّد المسلسل على الأرجح لظهور سالاد فينجرز ليصبح من الكلاسيكيات الحصريّة (cult classic). لم يكن هناك ما يُمكن أن يهيّئ مشاهدي حلقة سالاد فينجرز الأولى لما يُمكن أن يصيبهم، وبدا أن كل ما عُرِض قبله بريءٌ ومهذّب مقارنةً به.
كانت بصريّات المسلسل مقلقة والعالم الذي تعيش فيه الشخصيات منفّر، لكن الصوت هو ما استدرج المشاهد وأبقاه مترقبًا. يضم الساوندتراك تُحفًا في الموسيقى المحيطة مثل روبارب لـ آيفِكس توين وأن إندينج (آسِنت) لـ برايان إينو، بالإضافة إلى بيوتيفول درونز لـ فيرث، ليخلق خلفية لصوت الشخصية الرئيسية الغرائبية الحاد وموجات البايس غير المتوقعة، والتشوه (distortion) الذي يحضر في لحظات معينة.
في حلقات لاحقة من المسلسل، تعاون فيرث مع موسيقيين تجريبيين يقفان على النقيض من الموسيقيين الأوائل المُدرَّبين كلاسيكيًا لتسجيل موسيقى الكارتون. سُجّلت موسيقى الحلقة ٩: لِتَر على يد ماركوس فيالستورم، المعروف بأعماله الكلاسيكية المعاصرة والمحيطة الظلاميّة، والذي تناسب موسيقاه مزاج المسلسل بشكل ملفت. في الحلقة ١١: جلاس برذر، تعاون فيرث مع نجمٍ أبرز هو فلايينج لوتُس. عمِل الاثنان من قبل في صناعة الفيلم القصير عظيم النجاح كريم، وحقق تعاونهما نجاحًا كبيرًا مجددًا في تلك الحلقة. يأتي تراك آي وِيل نِفر لِت يو ليف من الحلقة تكريمًا لأعمال آيفِكس توين، لكنه أكثر تهالكًا وبعثًا على الأرق، وملتحم بالبصريات بشكل أفضل.
يتنوع تصميم الصوت من تسجيلات مفتعلة مفرطة في الواقعية ومبالغ فيها، إلى عدد لا يُحصى من التسجيلات لأصوات عبث باللحم لمحاكاة اللعب بالجثث منزوعة الأحشاء. مُزجت الأصوات بشكل صاخب لتضيف إلى مزاج المسلسل ببراعة، وتتأكّد من عدم ارتياح كافّة المشاهدين. عندما يتحدث الأطفال، لا تكون أصواتهم ألحانًا ملعوبة على الإكسيليفون، إنما موجات من التشويش والصرخات. يقوم سالاد فينجرز على نسف كل ما جاء من قبله، لكن النتيجة عبقرية وتجعل هذا النسف جزءًا جوهريًا من الظاهرة الثقافية التي أحاطت بالمسلسل. كما أنه صنع، كالأعمال التي سبقته، تجاربًا مشتركة للجيل الذي نشأ في عصر يوتيوب.
لا يحتوي سالاد فينجرز أي شيء من قبيل فأر يصفّر من على ظهر قاربٍ ما، لكنّه لم يكن ليوجد دون أعمال الرواد أمثال ستالينج وبراون وديزني؛ طبّاخين الوصفة التي فككها فيرث. لا تزال أعمالهم حيّة وتضيف نكهةً إلى الكارتون إلى اليوم. لسنا بحاجة النظر إلى أبعد من أنغام البوب الأوتوتيونية في أدفنشرز تايم لندرك أن الصوت الساخر ما يزال جزءًا كبيرًا من صناعة الكارتون وموسيقاه. على سبيل المثال، يحمل وول-إي، الإنجاز الهائل في تصميم الصوت، إرث توم أند جيري وسيلي سيمفونيز في استخدام الموسيقى والمؤثرات لمنح الشخصيات غير القادرة على الكلام صوتًا. البرامج الكارتونية هذه هي مصادر الجيل الجديد للتجارب المشتركة.
ربما تغيّرت الأدوات وظهرت العديد من الجانرات وسيستمر ظهور غيرها وتنوعها مع الوقت، لكن التجارب المشتركة حول الموسيقى والكارتون ما زالت موجودة، وستستمر بالظهور حول العالم البديع لموسيقى الكارتون.