.
ظهرت فرقة المربع في مشهد الموسيقى البديلة بداية العقد الماضي بإصدار أول ألبوماتهم الذي كان يحمل اسم الفرقة. كان الألبوم مزيجًا بين الإندي روك والبوست روك، وتضمن تسع أغانٍ شهدت معظمها محمد عبد الله كمغنٍ أساسي ولاعب باس جيتار، والفرعي مغنيًا في بعض الأغاني، بينما لعب عدي شواقفة الجيتار الإلكتريك والكيبورد/سنث، وأخوه ضرار شواقفة على الدرامز. مع صدور ثاني ألبومات المربع في ٢٠١٦، طرف الخيط، وبعد خروج الفرعي، شهدنا الفرقة تأخذ مسارًا تجريبيًا في اتجاه لخلط الموسيقى الإلكترونية بالبوست روك والإندي روك، ناجحين في تحقيق المعادلة دون الابتعاد بشكل كبير عن صوتهم الأصلي. كان طرف الخيط أكثر نضجًا في الكتابة وبناء الأغاني، وتميّز بإنتاج موسيقي غني بالعناصر المختلفة مثل الإلكترونيك والإيقاعات الخليجية والإندي روك والبوست روك.
عندما أعلن المربع عن عودتهم بداية العام توقع الكثيرون تغيرًا في الصوت بخروج ضرار وعدي شواقفة، خاصةً الأخير الذي كان من أهم عناصر الفرقة ومسؤولًا بشكل كبير عن تأليف الموسيقى، غير كونه جيتاريست متمكن وله أسلوب متميز. هنا أتى باسل نوري، منتج موسيقى إلكترونية ومصمم صوتي فلسطيني مقيم في برلين، وانضم إلى عبد الله ليكمل أضلاع المربع بشكله الجديد. لم يأت باسل فقط لتعويض عدي وضرار، وإنما أخذ صوت المربع إلى مساحة جديدة من الإبداع والتجريب.
في فبراير من هذا العام أصدر المربع أغنية الوحوش، التي كانت التقديم للفرقة بصوتها الجديد وشهدت تحول صوت الفرقة من الروك إلى موسيقى إلكترونية بحتة من تصميم صوتي وإنتاج موسيقي لباسل نوري. أصدرت الفرقة أيضًا أغنية بيبان لاحقًا في مايو، بموسيقي إلكترونية وإيقاعات بدوية مصحوبة بايقاعات تراب خلف كلمات فلكلورية من عبد الله، في استرجاع لصوت الفرقة في ألبوم طرف الخيط.
في ١ سبتمبر ٢٠٢٣ لعب المربع في مكتبة الإسكندرية. بعد غياب طال خمس سنوات عادت الفرقة إلى مصر من خلال بوابة مهرجان الصيف الذي يقام سنويًا في المكتبة، وكان حفل المربع هو ختام المهرجان.
لوقت طويل كانت المربع إحدى فرقي المفضلة في المنطقة العربية. كنت مفعمًا بالحماس لسماع موسيقاهم بعد وقت طويل، انتظرت سماع الجيتار بريك داون في أغنية ما عندك خبر، وصولو السنث في أغنية المختلفين وصرخات محمد عبد الله في إلهام، لكن شيئًا من هذا لم يحدث. ما حدث كان تحولًا متطرفًا في توزيع أغاني الفرقة مع إيقاعات أبطأ أو أسرع أحيانًا وبعناصر صوتية مختلفة وجديدة تمامًا.
صعد عبد الله على المسرح حاملًا الباس جيتار بصحبة باسل على الكيبورد واللابتوب، مع جيتاريست فقط ودون درامر. بدأ الحفل بأغنيه ١٠٠ ألف مليون ميل، لكنها بدت مختلفة الآن، نفس الكلمات لكن العناصر الصوتية مختلفة كليًا. غنى الجمهور مع عبد الله لكن هناك شيءٌ ما غريب. خمنت أن ذلك بسبب عدم وجود درامر ففقدت الأغنيه جزءًا مهمًا من صوتها، لكنني أسمع درامز وإن كانت بايقاع مختلف عن الأغنية الأصلية. أكمل عبد الله الغناء ولعبت الفرقة أغنية المختلفين، وأيضًا بدا أن هناك شيئًا ما في غير مكانه. لم أسمع صوت الأكوستيك جيتار الذي كان في الإنترو، وانتظرت حتى انتهاء الفيرس الأول لأسمع صولو السينث مع الإلكتريك جيتار، لكن هذا لم يحدث. فقط أصوات إلكترونية وسنث بنغمات مختلفة وأصوات محيطية وعبد الله يغني بإيقاع أبطأ.
الموسيقى كلها مختلفة عن ما نعرفه. استمر الحفل على هذا الحال في تحول تام في تكوين أغاني الفرقة القديمة، وصولًا إلى البث الحي، إحدى أغاني ألبوم طرف الخيط. غنى عبد الله الجزء الأخير من الأغنية وهو جزء من أيقونة سيد درويش أهو ده اللي صار، يصحبها موسيقى محيطية هادئة. لم يكن مني إلا التصفيق، إذ لم أتوقع يومًا أن يُغنّى سيد درويش على موسيقى إلكترونية. لعب عبد الله بعد ذلك ما عندك خبر وهي أكبر أغاني الفرقة وأكثرهم شهرة نظرًا لكلماتها الثورية والجيتار بريك داون الصاخب بين الكورس والفيرسات. هذه المرة لم يكن هناك جيتار في الأصل. غنى عبد الله كلماته الثورية: “أنا في واد وانت في واد والسد اللي بيني وبينك عالي” بإيقاع أبطأ فوق أصوات صاخبة من السنث، ليجد الجمهور صعوبة في الغناء معه.
غنى عبد الله بعد ذلك إبعد شوي، لكنه بدأ من الكورس متخطيًا الفيرس الأول. لم يكن هناك درامز على الإطلاق، فقط أصوات إلكترونية مصحوبة بجيتار إلكتريك وتكرار للكورس ربما أصاب البعض بالملل. وصلنا أخيرًا لأغنية الوحوش، أحدث إصدارات الفرقة بعد التشكيلة الجديدة، وللمرة الأولى في الحفل استمع الجمهور إلى أغنية بصوتها الأصلي، كلمات عبد الله المثيرة للتأمل فوق موجات من السنث والأصوات الإلكترونية، وكانت بلا شك أفضل أداء خلال الحفل.
كثيرًا ما رأينا تخلي بعض الفنانين عن جذورهم في محاولة لكسر القوالب والدخول إلى مناطق ومساحات فنية جديدة. من أبرز الأمثلة على ذلك راديوهيد مع ألبوم أوكاي كومبيوتر الذي شهد تحولًا كبيرًا في صوت الفرقة، بعد إصدار ألبومَين كان الصوت الغالب فيهما هو الجرانج والألتيرناتيف روك. مع أوكاي كومبيوتر اتجهت راديوهيد إلى دمج عناصر إلكترونية وتجربة أصوات جديدة، في تجربة ناجحة بلا شك وظل أوكاي كومبيوتر إلى اليوم علامة فارقة في تاريخ الروك البديل؛ لكنه في النهاية ألبوم روك في جوهره، وقليلًا ما نشهد تحولًا كاملًا من جنرا إلى أخرى.
تتمسك معظم فرق موجة موسيقى الروك البديلة التي ظهرت أول العقد الماضي في المنطقة بصوتهم الأصلي، إلا في محاولات محدودة مثل مشروع ليلي في ألبوم ابن الليل، الذي شهد أيضًا اتجاهًا إلى موسيقى راقصة إلكترونية نوعًا ما. أما في حالة المربع فقد واصلت الفرقة دفع حدود الموسيقي البديلة باتجاههم الإلكتروني واستكشافهم لآفاق فنية جديدة، محاولة جريئة لحد كبير قد تتسبب في فقدان الاهتمام من بعض جمهور الفرقة القديم، في تمثيل حقيقي للموسيقى البديلة يستحق التقدير والإعجاب. يؤكد المربع بقيادة عبدالله أنهم من أهم التجارب الموسيقية التي خرجت من المنطقة العربية في آخر عقدين على الأقل، بخروجهم المستمر عن المألوف وكسرهم مختلف الحواجز.