fbpx .
منبوذ الجزيرة | أسطورة بشير حمد شنان

منبوذ الجزيرة | أسطورة بشير حمد شنان

عبد الهادي بازرباشي ۲۰۲٤/۰۳/۰۵

في نجد، وقبل قرابة ٤٠ عامًا، عمل شاب في محل كاسيت اسمه تسجيلات النجوم، الكائن في شارع صديان العام في حائل. كان الشاب مهووسًا بالمطرب الشعبي الممنوع بشير حمد شنان ويبيع كاسيتاته سرًا، لذا أعد كتالوجًا لأغانيه باسم صالح عبد المحسن، ليعلم عندما يطلب أحدهم تسجيلات بهذا الاسم أنه بشيريّ قادم من طرف صديق، وإن شك في القادم رد عليه: “تقصد فهد عبد المحسن؟” هذا أحد فصول الدعوة السرية إلى فن بشير حمد شنان وصراعاتها مع حقبة الصحوة الإسلاميّة، التي لم يُدركها بشير، ومع الجيل الذي ربته الصحوة؛ قبل أن تخرج الدعوة إلى العلن على تيكتوك في البداية، ثم على مسرح محمد عبده أرينا العام الماضي، في احتفاء رسمي كان مستحيلًا قبل سنوات قليلة.

بفعل هذا المنع والتغييب، صار هناك اليوم عشرات السيناريوهات المحتملة لسيرة بشير، مؤسفٌ أنها ستبقى احتمالات يصعب حتى الترجيح بينها لغياب أي مصدر يمكن التعويل عليه. عام ولادته وملامحه ونسبة وحصر أغانيه وقصص حبه ومدى نجاحه في حياته وسبب وفاته وحتى نبرة صوته وضربة ريشته، ليس هناك إجماع بين أخلص مريديه على أيٍّ منها؛ وربما هنا يكمن السحر.

ترجح غالبية المرويّات أن بشير مولود في الدمام في المنطقة الشرقية عام ١٩٤٦ ومتوفٍّ عام ١٩٧٤، وأن أباه توفي وهو في السابعة لينتقل مع أمه وأشقائه إلى الرياض، حيث تكفل بهم ناصر أخوه من والده. بعد هذه النقطة يغيب ذكر ناصر وعبد العزيز، أخويه غير الشقيقَين ووالدتهما، رغم كون ناصر كافل العائلة. حتى ابنة بشير، اعتدال، حرصت على استثنائهم لدى الحديث عن علاقة بشير بإخوته وأكدت أن علاقته بأشقائه تحديدًا كانت “جميلة جدًا”. من الصعب تخيُّل الكثير من الود واليُسر في العلاقة المسكوت عنها بين بشير وإخوته غير الأشقاء، وربما كان ذلك واحدًا من الأسباب العديدة في حزن بشير الأصيل، وفي الصعوبة التي يشكو منها جُل عشاق بشير لدى الحديث عن إمكانية الاستعانة بعائلته لمعرفة معلومات حصرية عنه، وحسم الغامض في سيرته وإكمال المنقوص منها.

حتى كتاب ابن أخيه حمد عبد الله شنان عنه حوى حكايا وفانتازيات رواد منتدى بشير أكثر مما حوى من حكايا عائلته عنه، بالإضافة إلى صور سبقه إليها كل عشاق بشير، قبل أن ينكرها عتاولة سميعته ويستثنوا صورته الأكثر انتشارًا بكونها الوحيدة الحقيقية. مع عدم قدرة حمد نفسه على استخراج معلومات أكثر من أبيه وشقيق بشير الذي علمه أساسيات العود، يصبح من الواضح أنه رغم تقديرهم لكل ذلك الحب الذي يتنامى لفقيدهم، لا تُحب عائلة بشير الحديث عنه، بل وفي تصريح نُقل عن لسان أخيه عبد الله: “قدم بشير ما قدم والآن يجب أن يُترك ليرتاح.” لا يمكن التأكد من نسبة هذا التصريح لعبد الله نفسه، مثل عشرات القصص عن بشير، لكنه غير مستبعد.

يمتد موقف عائلة بشير إلى بعض أصدقائه وزملائه، وجمهوره نفسه. لذا نجد الكمنجي المخضرم وصاحب الأمجاد مع بشير، مبارك بن نزهان، في نفس الوقت الذي يعبر فيه عن مدى هوس محبي بشير به وسفرهم ساعات وأيام لتحصيل صورة واحدة له، يحكي كيف أنه عندما عثر لهم على صورة كان يخبرهم وهو يعطيهم إياها أن يتركوه ليرتاح في قبره ويكفوا عن السؤال عنه. أما جمهور بشير فنجد كثيرًا منهم يملؤون التعليقات على أغانيه بالحث على الدعاء له والتوقف عن سماع أغانيه رحمةً به من كل هذه “الآثام.”

كذلك معاصري بشير يصعب الاعتماد عليهم في التأريخ بشهاداتهم المتضاربة، التي يقف وراءها ربما نفس الدوافع الدينية، إلى جانب مصالح شخصية واضطراب في الذاكرة. فالممثلين علي إبراهيم وسعد خضر المولودَين عام ١٩٤٦ ذكرا أنهما زاملا بشير في المدرسة والصف، لكن الأول استذكر بحنين استغلالهم للفسحة ليسمعوا عود موسيقارهم الخاص بشير، بينما نفى الثاني أي موهبة لبشير وقتها عدا التطبيل على المقعد في الدروس. من ناحية أخرى ذكر سعد الحبيش الملازم لبشير لفترة غير قصيرة والمعتز بصلة قرابة معه أنه توفي عن خمسة وثلاثين عامًا، ما يجعل مزاملته لسابقّي الذكر مستحيلة لأنه يكبرهم بسبع سنوات بحسب الحبيش. عدا عن أن الشخص الواحد قد يشهد شهادتّين متعاكستَين، إذ أكد الإيقاعي حمد الحامد أن بشير لم يشتهر إلا بعد وفاته، ثم قال إنه منذ أسطوانته الأولى كان ناجحًا لدرجة احتياجهم للطباعة أكثر من مرة. كذلك فعل سعد خضر حين أشار إلى ظهور اسم بشير فجأة على الجدران بتواتر كبير في حياته بفعل إتقانه للتراث النجدي، ثم نفى تحقق أي نجاح لبشير قبل وفاته؛ في حين وصلت أسطواناته إلى الكويت بحسب مبارك بن نزهان، وكان الإيقاعي سليمان الشدوخي يصر على بشير أن يذكر اسمه في تسجيلاتهما لثقته من نجاح التسجيل. الغريب أن معظم هذه الشهادات المتناقضة في حلقة واحدة من برنامج وثائقي، غير متباعدة زمنيًا ولا سياقًا.

إذًا، في حالة بشير، ليس هناك مصدر. يمكنك فقط أن تستفتي قلبك، وتحاول الترجيح بحسب بعض الوثائق مثل العقد المكتوب بخط يده مع تسجيلات سليمان فون، وما كُتِب على أسطواناته فيما يخص الشعر والألحان، وتسجيلاته نفسها بتقديماته وتعييشاته (ذكره اسم أحد حاضري التسجيل أو الجلسة مسبوقًا بـ “عاش” أو “يا روحي يا”)، وحالاته المتباينة لدى التسجيل، الواضحة في ريشته ونبرته واختياراته المثيرة للشكل الذي يريد إخراج اللحن به، فيُنطِق اللحن ذاته بكل البهجة مرة وكل الأسى مرةً أخرى، بغض النظر عن موضوع الكلمات.

مع أخذ كل ما سبق بعين الاعتبار، إلى جانب كون الميلاد المدون على البطاقات الشخصية في السعودية ما قبل عام ١٩٧٩ اعتمد على تخمين موظفي الأحوال المدنية، نستطيع القول إن بشير ولد في الأربعينات وتوفي عام ١٩٧٤، وانتقل بعد وفاة أبيه إلى حي المرقب في الرياض، المعروف بمزاج أهله الطربي، وهناك التحق بمدرسة الخالدية الابتدائية حيث عُرِف بجمال خطه. بحسب البعض بدأ بشير وقتها في لعب العود بفضل تعلم أساسياته على يد أخيه عبد الله. أيضًا، تعلم بشير على عود مطور محليًا سُمي بعود جالون، يُصنع من خلال إفراغ جالون من الألمنيوم بطريقة حرفية وشد الأوتار المناسبة عليه، إذ أنه في تلك الفترة كانت الأعواد شبه معدومة في الرياض، ما جعل سير الفنانين هناك تقص دومًا رحلة العود من خارجها، فسالم الحويل اشترى عوده من بحارة كويتيين في الدمام، وفهد بن سعيد سافر إلى الطائف ليشتري عوده، وسلامة العبد الله جاء من الطائف ومعه عوده.

بين هذه السنوات وانطلاقة مسيرة بشير هناك فجوة في السيرة حصل فيها كل شيء شكّل مزاجه وثقافته الموسيقية، ثم مسيرته. بشير سمّيع نهِم لطالما نبش أنغامًا ملفتة وعتيقة وبعثها من جديد بشكل منحها الخلود وربطها باسمه، وهذا يحتاج تكريس ووقت ومصادر ليست لدينا أية معلومات عن كيفية تحصيله إياها. صحيحٌ أن هناك رواية تقول إن بشير كبر في ما يشبه صالونًا ثقافيًا لأسرته جمع فنانين وأدباء وشعراء، لكن من الصعب أن تكمن الإجابة هنا، أولًا لأن ذائقة بشير بعيدة عن أجواء الصالونات الثقافية التي يترفع أصحابها عن الفنون الشعبية، وثانيًا لأن أسرة بشير محافظة أكثر مما يسمح بوجود صالونٍ كهذا في الأصل، وإن كان خاله نفسه شاعرًا وصاحب دور في تطوير مهارة بشير الشعرية.

في نفس الوقت، عُرِف بشير بكونه كتوم و”سره في بطنه”، ويفضل أن يخلو منزل العائلة من الضيوف كي يتفرغ لعوده، ولم يظهر في جلسات حي المرقب إلا بعد أن تمكن من عوده وغنائه وراكم مخزونًا سماعيًا كبيرًا. أين راكم بشير هذا المخزون ومتى؟ ربما كان لـ صليح الفرج وسعيد بن فياض، اللذَين ساهما في صقل موهبة بشير على العود، دور في مخزونه، لكن لا بد أن هناك سرٌّ آخر، إما عند أخيه عبد الله الذي يبدو أنه سمّيع وهذا سبب هوايته العود وقتها، وربما عند صديق لا يعلم عنه إلا بشير.

الشائع أن بشير بدأ بالعزف في جلسات الأصدقاء وهو في السابعة عشر وسجل أول أسطوانة في العشرين. الغريب أن المرقب حي لا تخفى فيه الموهبة، ورغم ذلك دائمًا ما تأتي قصة أول أسطوانة مع تأكيد بأن بشير ظهر فجأة واصطُحب في اندفاعة حماس إلى إبراهيم العجيّان الذي سجل له أول أسطوانة. طبعًا، كل راوٍ لقصة البداية ينسب لنفسه فضل اصطحاب بشير إلى العجيان وإقناعه بالتسجيل له، بين حمد الحامد وعبد الله الجنوبي وفهد بن سعيد وغيرهم. واحدّ فقط ذكر بداية مبكرة وأقل نجاحًا لبشير، هو الممثل سعد خضر الذي زامل بشير في المدرسة بحسب زعمه ولم يرَ منه أي موهبة، حتى كبُر وأصبح عازفًا في فرقة. حكى سعد أن بشير جاء ليتقدم إلى الفرقة وعزف فسخر قائد الفرقة مما اعتبره “خرابيط” في عزف بشير، ليذهب بشير غاضبًا، ويسمعوا به بعد فترة مع انتشار كتابة اسمه على الجدران. مع الأيام أصبحت هذه “الخرابيط” بصمة بشير الأهم والفصل المستحيل في كتاب عزفه على كل من اقتدى به.

أغلب الظن أن بشير بالفعل ظهر فجأة، لكن ليس لأن شغفه بالفن كان طارئًا، بل لأنه ملك عليه كل جوارحه فحرص أن لا يخرج بعزفه من باب منزله قبل أن يملك ناصية هذا الفن، ولا يفتح مجالًا لأيٍّ كان أن يكون له قول فيه غير الدهشة والتقدير. هناك سببين محتملَين لذلك، الأول أن ميدان بشير تغلب عليه الأصوات الحادة التي يميل أصحابها إلى الاستعراض في الطبقات العالية، في حين صوت بشير رخيم وعريض، وبالتالي سيسقط البعض في فخ المقارنة في غير محلها واعتباره أقل قدرةً مما يجب، رغم أنه أكثر تمكنًا وقدرةً على تطويع صوته لاستثارة طيف أوسع من المشاعر؛ لذا، كان يجب أن يصل بشير بالعود إلى الذروة كي يتكامل مع صوته ولا يترك مجالًا لتلك المقارنة، فحيث يمكن أن يُعتبر الصوت قاصرًا بالمقارنة مع فلان، جاء عود بشير ليجعل فلانًا نفسه يفضل أن لا يدخل مقارنةً كهذه.

السبب الثاني لإخفاء بشير موهبته حتى يأتي الوقت المناسب هو حساسية بشير. بشير فنان شعبي في الصميم، ففي حين يغني الشعبيون المواضيع الشائعة من ظلم الدنيا والناس وخذلان الأقربين والأحبة، يتأثر بشير فعلًا بكل هذا في العمق ويكتب فيه الأغاني ويؤديها بوحًا لا غناءً، وبالتالي من الصعب أن يُقدّم نفسه قبل الصقل ويصبح عرضة لما لا يمكن أن يتصالح معه. لهذا، ورغم وضوح تحامُل سعد خضر على بشير وعدم أخذه إياه على محمل الجد، يمكن تصديق روايته لقصة تقدم بشير للفرقة ثم خروجه غاضبًا لسوء تقديرهم. كتب بشير غرك بنجمة ليه ما لبسك تاج في من تعالى عليه لدى توليه منصبًا في الجيش، وصبيان زايد وين حماية الدار عتبًا لأهل عشيرته بعد أن تطاول عليه مطاوعة أفراد هيئة الأمر بالمعروف أو المتواطئين معهم. منهم، والبارحة في منامي شفت خلي في صاحبٍ أنكره، وغناها في تسجيل يحرق القلب. لشدة تأثير حساسية بشير في جمهوره، شاعت بينهم عبارات مثل “بشير كلمات معنى لها مفهوم ومقصد بعيدًا عن الهوى والشعر”، بل ورجّحوا أن حبًا عذريًا هو ما أنهك قلبه حتى الموت.

خرجت كل هذه العاطفة إلى العلن عام ١٩٦٧ مع صدور أسطوانة بشير الأولى وشيوعها، إلا أن هناك خلاف في موضوع شيوعها، خاصةً من قبل المعسكرين المقابلَين، جمهور فهد بن سعيد وجمهور عيسى الأحسائي، اللذَين يُشكّلان مع بشير المثلث التاريخي للغناء الشعبي في السعودية، وربما جزيرة العرب كاملةً. سطع نجم الثلاثة في الستينات، ليتوفى بشير بعد ٧ سنوات من أول أسطوانة، وعيسى بعده بـ ٩ سنوات، بينما اعتزل بن سعيد بعد رحيل عيسى بـ ٨ سنوات. لا يمكن معرفة الوقت الذي بدأ فيه الصراع حول الأحق بأن يكون رأس المثلث بينهم، لكنه محتدم حتى اليوم، ويُشكّل للبعض عملًا بدوامٍ كامل.

يبدأ النقاش بمن سبق الآخر إلى الفن، ولو بشهر، ويمتد إلى المفاضلة في كم ونوع ألحان كلٍّ منهم ومدى غلبة إبداعاته على ما استقاه من التراث، ثم حجم تأثير كلٍّ منهم في الآخرَين، والأهم، أيهم أكثر شهرةً ونجاحًا. في سبيل هذه المقارنات صيغت أساطير وقصص ونوادر لا دليل على أيٍّ منها تقريبًا. طبعًا، هذه المعارك كلها لا يد للفنانين أنفسهم فيها، فبين عيسى وبشير حب وصداقة نادرة، وعيسى من أكثر من عيّش لهم بشير في جلساته في حضوره وغيابه؛ وحتى فهد بن سعيد الذي اشتهر خلافٌ له مع بشير بروايات متضاربة تقول إحدى الروايات إن الشاعر محمد سعد الجنوبي اتفق مع بشير على أن يغني خلاص من حبكم، ثم أعطاها لبن سعيد دون مشاورة بشير، الذي قاطعه وكتب على لحنها وغناها، ليصالحه الجنوبي لاحقًا بأغانٍ أهمها خلصت من جملة الخلان. تقول رواية أخرى إن الخلاف على أغنية يا حسرتي التي كانت لسالم الحويل وأعطى بشير تنازلًا عنها، لكن فهد أيضًا سبقه وسجلها.، حاول دومًا نسب فضل صعود بشير إلى نفسه لأنه يعرف حجم وأثر بشير. المشكلة أنه لو أن التأريخ الصحيح هو ما سيحسم هذه المقارنات فلا طريق لذلك، إذ لم يسقط بشير وحده من التأريخ الرسمي، بل شمل التجاهل الفن الشعبي بشكل خاص وفناني نجد بشكلٍ عام، الذين استُبعدوا بمعظمهم من إذاعة جدة والتلفزيون السعودي لصالح فناني الحجاز.

مثلًا، قال الشاعر الكبير محمد بن سعد الجنوبي، صاحب الأعمال الخالدة مع الثلاثة، إن أولهم فهد بن سعيد الذي سبق بشير في الفن بـ ١٥ عام، ثم عيسى الذي بدأ فتًى، ثم بشير؛ كما ذكر أنه في لقائه الأول بعيسى أعرض عنه لحداثة سنه ثم انبهر به عندما سمع عزفه وأداءه. ليست هناك أية معلومة مما سبق منطقية أو قابلة للإثبات، فبحسب المعروف ولد الجنوبي في ١٩٤١ وعيسى في ١٩٣٥ وفهد بن سعيد في ١٩٤١ وصححها في مقابلة بأنه من مواليد ١٩٤٤، بينما بشير في ١٩٤٦. هكذا يكون عيسى الذي استخف الجنوبي به فتيًا أكبر من الجنوبي نفسه بست سنوات، وفهد بدأ مسيرته في الثامنة أو الحادية عشرة من عمره. أيضًا، هناك تداخل كبير في التقديرات للخلط بين سن التعلم على العود وسن الاحتراف، فكلما أراد جمهور فنان معين إثبات أسبقيته اعتبر تعلمه العود بدايته، بينما اعتبر بداية غيره صدور أسطوانته الأولى، فيختلط الحابل بالنابل. لا يعني ذلك كذب الجنوبي، فليس بين أيدينا ما يُظهر أية مصلحة له في ذلك، لكن الاستفهام يدور حول مدى موثوقية ذاكرته، ومدى قرب الشائع من الحقيقة.

رغم أن عدم جدوى المفاضلة بالأقدمية قد تبدو بديهية، لكن بالنسبة لجماهير الثلاثة، هي دليلٌ حاسم لمعرفة مَن تعلم مِن مَن، مع تجاهل الأمثلة التي لا تحصى لتلميذٍ سرعان ما تأستذ على معلمه. في سبيل هذه الأقدمية راجت أساطير مثل وصاية فهد بن سعيد على انطلاقة بشير، وتعلُّم عيسى العزف من بشير؛ والأخيرة تحديدًا بعيدة الاحتمال لأن أمرًا كهذا سيضطر بشير لكشف دواخل بيته أكثر مما سمح طوال حياته.

لا يوجد بين أيدينا جلسات في منزل بشير، إلى جانب الإجماع النادر من معاصريه على أنه لم يمتلك عودًا يصحبه معه إلى تسجيل الأسطوانات أو إلى الجلسات، وأنه لا يهم نوع ومستوى العود الذي بين يديه، هو قادرٌ على تطويعه ليخرج نغمًا أجود من أي عود بين يدي غيره، حتى لو كان بظهرٍ مكسور كما وُصف في إحدى جلساته. لا يُصدّق معظم جمهور بشير اليوم أنه لا يمتلك عودًا، أضف إلى ذلك تصريح عائلته بأنهم ما زالوا يحتفظون بعوده مع الحرص على عدم خروج أية معلومات إضافية، ولا حتى صورة للعود. ربما امتلك بشير بالفعل عودًا، لكنه لم يكن بمستوى عازفٍ مثله، ومع طيبة بشير المفرطة أحيانًا التي من الصعب أن تترك بين يديه مبلغًا يكفي لاقتناء عود يليق به، ومع كبرياء بشير، يمكن فهم الغموض الدائر حول امتلاكه عودًا من عدمه، وحول نوعية هذا العود التي ما زالت تتكتم عليها عائلته حتى اليوم. مع كل هذا يصعب تصديق أن بشير استضاف عيسى وأطلعه على عوده الذي امتلك عيسى غالبًا عودًا أجود منه.

على كل حال، تتلمذ أم تأستذ بدأ بشير منذ اليوم الأول مستقلًا، فلم تحاكِ ريشته أخرى، ولم يخطئ صوته مع غيره أحد. أيضًا، في حالة عيسى وفهد، كان هناك فنان سابق يؤدي في مساحة مشابهة يمكن التأثر به، مثل طاهر الأحسائي في حالة عيسى وسالم الحويل في حالة فهد، أما بشير فكان الغالب عليه أن يتأثر بمعرفة وذائقة معينة كما تأثر بعايد عبد الله وصليح الفرج وعلي عبد الله فقيه الفرساني، أما العزف والأداء وخامة الصوت فلم يتشاركهم مع أحدٍ قبله يمكن أن يأخذ عنه، وهذا يسري على ألحانه، خاصةً المتأخرة منها مثل نديم الهنا والسعادة، الذي لم ينكَر نسبه له حتى اليوم وسط كل ثورات الغضب عندما تُنسب لبشير أو غيره من الفنانين الشعبيين الكثير من كلمات وألحان ما غناه دون تدقيق.

موضوع نسبة الألحان هذا تحديدًا هو ذروة كل الصراعات، سواءٌ في المفاضلة بين الفنانين الشعبيين، أو في مشروعية واستحقاق الفن الشعبي من الأساس. ربما أكثر أغنية تُبيّن المعضلة هي قلت هيّن باللحن الذي غناه بشير في الجلسة المعروفة باسم جلسة أبو سميرة. هنا غنى بشير أغنية عُرفت بصوت فهد بن سعيد قبله ومتداول بين عشاق فهد أنها من ألحانه، لكن انتصر ياس حبي لسلامة العبد الله بنفس اللحن وسابقة على صدور قلت هين، إذًا فأصل اللحن عند سلامة. من جهة أخرى هناك تسجيل أقدم للكويتي عبد المحسن المهنا غنى فيه اللحن في مذهب أغنيته لا لا يا بو الجدايل، المنسوب لحنها إلى يوسف المهنا. ظهر بعد ذلك الباحث عصام جنيد وأكد نسبة اللحن للتراث الخبيتي الحجازي في أغنية لا لا الله يجازي خاين العهد، بينما اعترض على ذلك كويتيون لا شك لديهم بأن أصل اللحن تراث سامري كويتي، وسُرق من قبل الحجازيين عن طريق إبدال إيقاع السامري بالخبيتي. بالنتيجة تحمس البعض وقالوا بسرقة بشير والفنانين الشعبيين من التراث وخلو إرثهم بالكامل من إبداعهم الخاص، وبالتالي استحقاقهم لكل الطبقية والتهميش، بغض النظر أنه حتى الآن لم يُحسم نسب اللحن. هناك أيضًا من ينادي بنسبة اللحن إلى اليمن، وهناك صالح الشهري، الذي لم يكترث لموضوع نسبة اللحن وأعطاه باسمه لـ عبد المجيد عبد الله في أغنية عين تشربك شوف كذلك الأمر مع أغنية مدعوجة العينين، فأنصار فهد بن سعيد ورواية أنه من توسط لبشير لدى صاحب التسجيلات يقطعون بأن بن سعيد تكرم على بشير بلحن أغنيته يا ليت بعض العرب يسمح يحاكيني ليغنيه في مدعوجة العينين، بينما أنصار عيسى الأحسائي يقطعون بأن بشير سرق لحنه لـ أحباب قلبي ثلاثة كلهم حلوين، التي غناها أصلًا قبله مسعود البيشي بنفس الكلمات واللحن، والأكثر اطلاعًا عثروا على أقدم أصل متاح للحن وهو لحن اغنم زمانك اليمني اليافعي، ليتضح أن المطبوع على الأسطوانة نفسها هو أن الأغنية ألحان فلكلور ولم ينسبها بشير إلى نفسه من الأساس. علاوةً على ذلك، هناك من ينكرون الأصل اليمني، ويعتقدون بأصل حجازي أقدم لا يوجد تسجيل متاح له. قس على ذلك أغانيًا مثل قضيت من درب الهوى خاطري وأنا وقلبي على الهجران عزّمنا ويا هلي قلبي تزايد بالسعير..

للأسف في كثيرٍ من الأحيان يعتبر جمهور الفنان الشعبي أن كل ما يغنيه فنانه من ألحانه، كما في حالة الأحسائي وبن سعيد وسلامة العبد الله وعبد الرحمن الهبة وعايد عبد الله وبشير نفسه، الذي نسب عشاقه له أغنية أيوه وهي لمحمد عبده وعطني المحبة وهي لـ طلال مداح، فقط لأنه غناهما إعجابًا في جلساته، كذلك الأمر مع لا لا يا بو الجدايل. في الغالب يكون الفنان نفسه بريئًا من تعصب محبيه ومحبي غيره، المقتنعين أنه لا يمكن إعزاز نجمهم دون تحقير غيره. بشير تحديدًا من الصعب اتهامه بأية سرقة، فلو سرق من عيسى لقال بذلك عيسى وهو معاصر وصديق لبشير وعاش بعده تسع سنوات لم يذكر خلالها بشير إلا بحنين وغصّة، كذلك الأمر مع فهد بن سعيد وعبد الله السلوم وعايد عبد الله وصليح الفرج وغيرهم، أما بخصوص التراث، فلا قرار له بدليل حالة قلت هيّن. يتصارع أهل الجزيرة جميعهم على الأنغام القديمة، جاعلين من الجزيرة جُزُرًا، وكأن كل دولة في قارة ولا تاريخ مشترك بينهم يجعل من المنطقي تشاركهم تراثًا نغميًا واحدًا. بشير وغيره من الفنانين الشعبيين ببساطة تعاملوا مع هذا التراث على أنه عربي؛ صحيحٌ أن منهم من نسبه لنفسه، لكن بشير، بقدر ما وصلنا من أغلفة أسطواناته وسيرته، لم يفعل ذلك. ربما حدث أن بعض شركات الأسطوانات التي تعامل معها فعلت ترويجًا لأسطواناته عندها، في وقتٍ سابق على اكتساب الحقوق الأدبية صفة قانونية، مثل قصة نسب كلمات أغنية مسكين لمحمد سعد الجنوبي وهي لبشير لأن اسم الجنوبي يزيد مبيعات الأسطوانة.

إلى اليوم يُستعمل موضوع اعتماد المغنين الشعبيين على التراث كمبرر للتعامل معهم بدونيّة والقول بفقر إبداعهم، بشكل غير علني وغير مباشر في معظم الأحيان، لكنه موقف متبنى على نطاق واسع حتى جماهيريًا؛ في حين يُشكّلون في الكواليس عمال منجم التراث المجتهدين لصالح فناني الصف الأول، الذين ما كانوا ليسمعوا بالألحان التي بنوا عليها نجاحات تاريخية ومنعطفات في مسيراتهم لولا ما بين أيديهم من تسجيلات المغنين الشعبيين الذين يتجنبون ذكرهم ترفُّعًا ومداراةً. كان بشير بشكل خاص باعثًا لأنغام منسية ما كانت لتُعرف دونه، ولم تُعط حقها في الأداءات المسجّلة بشكل يضمن خلودها إلا منه، لذا شكّل مرجعًا غير مصرّحٍ به. ربما بتأمُّل مدى تشابه ذوق بشير ومحمد عبده في ما ينتقونه من التراث يُمكن فهم مدى أهمية بشير وأمثاله من الفنانين الشعبيين لمن يقدر كنوز التراث. في أغانٍ مثل يا شوق ولا لا لا تضايقونه وكفى الله يجازيك وطاب ليلك يا عريس ولا تجرحيني وكريم يا بارق وأنا وخلي كل دار وطننا وللدار وحشة، جميعها بألحان تراثية سبق وغنى عليها بشير يا أمين شب بوسط قلبي حريقة وقلت هيّن وبنات المدارس وما تخافون ولا تجرحيني وبالله يا ليالي على الترتيب؛ وربما لهذا يهتم محمد عبده بأن يكون في سيارته شرائط بشير كما صرّح سابقًا.

راشد الماجد أيضًا كانت من محطاته الكبرى أغنية البارحة يوم الخلايق نياما، التي غناها في بداياته في الثمانينات مقلدًا أداء بشير، ثم في الألفينات بعد أن نضج واستقل بأسلوبه قدمها كشارة مسلسل نمر بن عدوان. لم تُعرف الأغنية بهذه الكلمات وهذا اللحن إلا من بشير، إذ غنى الكلمات عبد الله السويلم على لحن آخر قبل بشير، وغنى السويلم اللحن نفسه، المنسوب له في أسطوانة، على كلمات أخرى، وكذلك فعلوا صليح الفرج وطاهر الأحسائي، لكن مزاوجة بشير لهذا اللحن مع تلك الكلمات بتعديلات بسيطة على اللحن أخرجت لنا البارحة يوم الخلايق نياما كما نعرفها وكما غناها راشد، بدون أي ذكر لبشير ولا للسويلم، لا على الإصدار ولا في أية مقابلة حتى. كذلك الأمر مع جانا زريف الطول ذات اللحن الفلكلوري الذي خلد بصوت بشير، ليأتي خالد عبد الكريم وينسب اللحن لنفسه في كان ودي نلتقي

لا تقتصر الاستفادة على ما استخرجه الفنان الشعبي من التراث، بل وألحانه نفسها مستباحة لأن أحدًا لن يهتم بأن يفيه حقه. هذا رغم أن مستوى اللحن المطلوب في الشعبي بحد ذاته تحدٍّ صعب، خاصةً كونه سيتوسط عشرات الألحان التي اجتازت فعلًا اختبار الزمن عبر عشرات وربما مئات السنين، وبالتالي يجب أن يكتنز أصالةً ومحلّيّة وقدرةً على التنقل بين صدور الناس جيلًا بعد جيل. مثالٌ على ذلك لحن بشير اللافت لأغنية أول نديم للهنا والسعادة، الذي نُسب لمحمد شفيق في علام القمر ولـ خالد عبد الرحمن في دقات قلبي بالمحبة.

المؤسف أن الفنانين الشعبيين أنفسهم سرت فيهم عدوى الدونية التي تنظر إليهم بها أجهزة الإعلام والأجيال والفنانون الذين ربتهم تلك الأجهزة، لذا نجد عبد الله السلوم قد ذكر حزم موقفه من فهد بن سعيد حين نسب لنفسه لحن خلاص من حبكم وهي للسلوم، بينما يتكلم بتقدير وتهيُّب عن سعي راشد الماجد للحصول على تنازلٍ منه عن اللحن، ويغفر له أنه رغم حصوله على التنازل لم يغير نسبة اللحن من فهد بن سعيد إلى عبد الله السلوم، ويؤكد أنه مستعد لمنح راشد ألحانه مجانًا. كذلك صالح السيد شكى من ضياع حقوقه الأدبية واستخدام لحنه لـ أنا البارحة ممسيت يُرجّح أن اللحن أساسًا لبشير لأن صالح السيد ذكر أنه أصدره حوالي عام ٩٢ - ٩٣ هجري، قبل وفاة بشير بعامٍ واحد، بينما لبشير تسجيل أسطوانة للحن، والأسطوانات توقفت قبل التاريخ الذي ذكره صالح السيد. على أنه فلكلور، وذكر مثالًا أحلام في وش ذكّرك، ثم استدرك: “لكن أحلام تمون.” بل وتُستخدَم أي كلمة مديح عابرة من فنان مشهور على أنها جواز عبور، فيواجَه كل رافضي بشير بحقيقة أن محمد عبده يحب أن يسمعه، وبأن نصير شمه قال عنه عازف جيد، رغم أنه أكبر من هذه الشهادات، الحقيقية منها والمخترعة مثل قصة إشادة فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب ببشير. بل على العكس، ربما يكون بشير الوحيد الذي ما كان ليعامل نفسه بدونيّة كفنان شعبي مع كبريائه المعهود، وهو من غنى: “الحب ما هو لحن فلكلور / كلٍ يلحنه ويغني”، رغم أنه هو تحديدًا لطالما عومل على أنه أكثر فنان يؤمَن تجاهل حقوقه الأدبية، فهو الإباحيّ المغضوب عليه.

ترتبط صورة بشير لدى من سمعوا به فقط، ومن سمعوه بعمق فقط ليجدوا مواطن نقد تفيدهم في تفضيل غيره عليه، وبعض من أخلصوا له ثم تابوا عنه، بصورة المغني الذي يُجسّد كل أسباب تحريم الموسيقى والغناء والفن عامةً، دينيًا ومجتمعيًا، بما لديه من أغانٍ سرديّة لتجارب حميمية أدخلته السجن وعرّضت أغانيه للمنع بشراسة ملفتة، مثل على باب المدرسة شفت الغزال وأنا ودّي إذا ودّك وشال فستانه وشارع الخزان. قد يبدو أن هذا المتوقع في تلك الحقبة وأن إخراج بشير أغانٍ كهذه للعلن تقصيرٌ منه في فهم بيئته، لكن الحقيقة غير ذلك، فبشير عاش ومات قبل انفجار حالة الصحوة، ولم يكن منفردًا بخوضه في الجسد، فحتى طلال مداح غنى وقتها حبيبي ضمني ضمة وخلي الشفة ع الشفة، الجدلية على صعيد الخوض في الجنسي وفي المقدس الديني: “مابين النهد والثاني / أصلي للهوى ركعة”، وطلال لم يُرِد يومًا أن يكون من صعاليك الغناء، لكنه ببساطة غنى ما لم يكن يرفضه المجتمع في دوائره المغلقة، واكتشف أنه يرفضه على المنابر العامة مثل الإذاعة والتلفزيون، مثل الذين يرقصون على المهرجانات في مصر ويؤيدون قرارات النقابة لمنعها.

تُشكّل هذه الأغاني جزءًا جوهريًا وفارقًا في إرث بشير، فوسط مشهد الغناء السعودي المُشبّع كباقي المشاهد العربية بالأغاني العاطفية الوصفيّة، ترك بشير كنزًا من الأغاني السرديّة التي تحكي قصة الرياض في زمانٍ خالي، وترسم صورًا لشوارعها وأحيائها وأسواقها، وكيف أحب شبابها وغازلوا وكيف انغمسوا في الملذات وراء الأبواب الموارِبة، وكيف انفطرت قلوبهم. لخص الكاتب عبد الله بخيت الأمر بأن أغاني بشير إن تُرجمت للغة أخرى، يمكن لأصحاب اللغة أن يُشاهدوا الرياض من خلالها، أما معظم أغاني الباقين فتصبح لدى ترجمتها وكأنها ولدت حيث تُرجِمَت، لذا كانت نصوص أغانيه متفوقة على معاصريه.

يبقى موضوع منع أغاني بشير بين الفصول العديدة الضبابية في سيرته. صحيحٌ أن طلال مداح سُجن بسبب “خدش الحياء” وأنقذه طلال عبد الحكيم، ولم يكن لبشير من يُنقذه، لكن هناك عيسى الأحسائي وعبد الله الجنوبي وطاهر الأحسائي، الشعبيين غير المدعومين من أحد، سُجنوا ومنعت لهم أغانٍ، لكن لم تصبح أسماؤهم تهمة كما أصبح اسم بشير. يُضاف إلى ذلك الغموض الذي يحوم حول سبب إتلاف تسجيلات بشير في التلفزيون مع طارق عبد الحكيم في برنامج هكذا كانوا يغنون، وهوية من أتلفها. لم تُمنع من البث، بل أُتلفت.

تجعلنا ملابسات كهذه نفهم سبب إبحار جمهور بشير بمخيلاتهم حول قصة موته المبكر وعدم تسليمهم بما كتب في شهادة الوفاة: “علة كامنة في القلب”، وإن أكدت عائلته هذه الرواية، وإيمانهم بأنه قُتِل بالسُّم. قال البعض إن صاحب النجمة الذي غنى فيه غرك بنجمة ليه ما لبسك تاج هو من سممه، وقال البعض الآخر بأن سارة التي ذكرها في أغنيته الخالدة يا ليت سوق الذهب يفرش حرير من بنات العائلة المالكة، وكان هذا سبب نهايته. مؤخرًا خرجت ابنة بشير اعتدال لتعرب عن استيائها من الروايات العجيبة وغير اللائقة التي تُحكى حول وفاة والدها، وسردت روايتها المطابقة للرواية الرسمية الشائعة، لكنها توقفت عند تفصيلتَين تفتحان باب التكهنات بدل إغلاقه. الأولى أن بشير كان كثير السفر إلى قطر ولم يسبق أن عزم السفر ثم تراجع عنه في الطريق، لكنه ليلتها تحديدًا ولسببٍ مجهول ألغى الفكرة في منتصف الطريق وعاد. التفصيلة الثانية أن الجار الذي استضاف بشير بعدما وجده يطرق على باب أهله ولا يجيبه أحد قدم له كأس ماء، هنا  حرصت اعتدال على الإشارة إلى أنه لا أحد يعرف هل شرب بشير الماء أم لا.

يُفسّر غالبية المستنكرين انفجار شعبية بشير بأن السبب الرئيسي هو منعه الذي غذّى الفضول تجاهه وأثمر تلك الروايات، وفي ذلك إجحاف كبير. صحيحٌ أن للمنع دور لا يُمكن تجاهله، لكن علاقة بشير بجمهوره أكبر من ذلك بكثير. مثالٌ على ذلك تعليق على اليوتيوب خاطب فيه أحدهم بشير في أحد أكثر التعليقات إيلامًا ودقةً في تصوير تلك العلاقة: “الله يرحمك وجميع المسلمين. ما ودي أسمعك واأثمك … لكني أشتاق لك.”

هذا القدر من التأثير حتى فيمن آمنوا بحرمة الموسيقى نادر، ومن أبرز الدلائل على صلة خاصة ومثيرة للفضول بين بشير وجمهوره تستحق التتبع، خاصةً أن سيرته لطالما كان مكانها صدورهم وذكرياتهم، في ظل التجاهل الرسمي والمنع لقرابة نصف قرن، وإحجام الأقارب عن التدقيق.

كُتِبَ اسمُ بشير على الجدران في حياته، ولم تكن هذه الاستجابة السائدة لتفضيل هذا الفنان أو ذاك. كان هذا حبًّا للرمز، إعلانًا ممن كتب أن هذا الشخص يمثله وأنه أيقونته. لا تتحقق مكانة كهذه وتترسخ مع الزمن بصُدفةٍ قدريّة. لو نظرنا إلى الشيخ إمام مثلًا وجدناه ثائرًا والثورة جهاز إعلامي قائم بذاته، ولم يكن بشير ثائرًا من هذا النوع، وسيد درويش جرى تكريس صورة معينة له رسميًا، أما الجمهور فليس لديه أدوات التكريس هذه، كل ما لديهم هو الشغف.

وعى بشير أن الإفراط في التبسُّط مع الناس يجعل النجم أقرب من أن يكون نجمًا، وأنه في نفس الوقت فنان شعبي ضمن ثقافة تقوم على القرب بمفاهيم الجيرة والعشيرة والعزوة، فحقق التوازن الأمثل، هو دومًا بين الناس ويُلبّي من يحتاجه، لكن كلامه أقل من عزفه وغنائه، وصُوَرُه عزيزة، وغناؤه دافق العاطفة على طول طيف مشاعر واسع. لذا من الصعب الاكتفاء منه، قفلة الأغنية معلقة لأن بشير لا يقُص سبب تأثيرها فيه، والحديث معه لا يكتمل لأن ما يقوله أقل مما نحتاج سماعه لنفهمه ونعرف عنه أكثر. كل ما لدينا ألغاز، لماذا يجعل اللحن نفسه باكيًا مرة وراقصًا مرّة؟ ماذا قال في فلان وهل كان يحب سماع فلان؟ بمن تأثر؟ لماذا يغني عوده في هذه الأغنية أكثر من تلك؟ ما سر جلسة أبو سميرة التي خلت من أسماء الحضور وتفاعلهم المعتاد ومجهولة مكان التسجيل؟

شارك بشير في صناعة لغزه، لذا قلما نسمع كلامًا منقولًا عنه حتى ممن زوّروا في قصته لاستغلال أسطورته، دائمًا يدور الحديث حوله لا بلسانه، ما دفع جمهوره إلى اعتبار كلمات أغانيه كلماته وحكاويه سواءٌ كتبها أم لا. لذا نجد اسمه شديد التعلُّق بذاكرة معاصريه، بينما صورته سهلة التسرُّب منها، لدرجة غياب الإجماع الكامل على أي صورة لبشير، وعلى الفيديو الوحيد الذي يُقال إنه ظهر فيه، وترجيح أن من ظهر في كل هذا شبيه له اسمه عبد العزيز العثيم. كأن بشير كان ولم يكن.

هذه الحالة سرُّ ارتباط جمهور بشير به حد الهوس، مُنِعَ أم لم يُمنَع. أصبح بشير الصديق الخاص لكل مستمع، وكلٌّ منهم يحاول قراءته بشكلٍ أعمق يجعله يعرف ما لا يعرفه أحد، وبالتالي يُثبت أنه أقرب من غيره لبشير، كما يحاول جعله انعكاسًا لنفسه. دومًا هناك تنافُس بين عشاق بشير على درجة حبه ومدى الخبرة فيه، ما جعل تسجيلات كثيرة تُشعل خلافًا فيما إذا كان العازف أو المغني بشير أم لا، وكلٌّ يقول: “العاشق الحقيقي لبشير يعرف أن هذا ليس صوته”، ولهذا سبب إضافي قوي هو ظهور العديد من المقلدين لبشير الذين كانت تُباع تسجيلاتهم على أنها تسجيلاته، مثل ناصر الياس وفتى الجبيل ومحمد السليم وأبو الريم. ما أضافه المنع هو فكرة اختبار إلى أي مدى ستخلص لبشير تحت التهديد، بعد أن أصبح الاشتباه ببيع كاسيتاته ينذر بتكسير المحل وسجن صاحبه.

في ظل الصحوة أصبح بشير دعوةً سرية، وعندما دخل عصر الإنترنت كان أول من تجمع منتدًى لعشاقه، يتداولون فيه أغانيه وما سمعوه من حكايا عنه، وما ألّفوه ليتباهوا على أقرانهم بقربهم منه، وبدل أن يؤدي ذلك التجمع غير المسبوق لكل المعلومات المتناثرة عن بشير هنا وهناك إلى الاقتراب منه أكثر، تعززت الأسطورة، فلم يعد هناك معلومة دون نقيض أو ناقد.

واحدة من أرق الفرضيات التي راجت على منتديات بشير هي قصة وفاته مكلومًا بحبٍّ لم يُثمر القرب، معتمدين على شريط جلسة أهداه بشير بصوته لفتاة تُسمّى فاطمة العلي، وحياها فيه بعد أن حيا الجميع بشكلٍ خاص مقتربًا من المسجّل وهامسًا باسمها كأنه سرّه. تؤيد الفرضية أغانٍ غامرة كثيرة تأتي من داخل روح بشير وتُشكّل وصفة مؤكّدة النجاح لإسالة الدمع، مثل قلت هيّن من جلسة أبو سميرة: “ومن وقع في الهوى واخطاه ضيّع دليله” ووسط ابن دايل أمس: “واليوم يالمحبوب ما كنّ شي كان / نسيت عشرتنا وقلبي برجواك.”

أليس من الأجمل أن تكون قصة فاطمة العلي حقيقة؟ خاصةً أن سعد الحبيش الذي حضر الكثير من جلسات بشير أكّد أن محاولة معرفة المكان الذي كان فيه بشير قبل أن يعود ويتوفى في منزل جاره موضوع “ما له قرار”، فلعل بشير كان عائدًا من لقاءٍ أخير مع فاطمة، علم فيه أنه لم يعد هناك أمل، فكانت فاطمة هي علته الكامنة في القلب. ليس من مصلحة البشيريّ أن تُحسم سيرة بشير، أن لا يستطيع بعد ذلك أن يُسقط تجربته على تجربة بشير، ولا يستطيع اعتباره بطله الخاص. هذا دافع الكثيرين لرفض فكرة وجود صورة أو فيديو حقيقيين لبشير، يجب أن يبقى أبعد من متناول أيٍّ كان.

لا حصر لذكريات البشيريين مع أيقونتهم البعيدة، ذاك الذي صنف أعماله في محله تحت اسمٍ وهمي كي ينجو من بطش هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذاك الذي لم يهمه الضرب واستدعاء ولي الأمر، وإنما شريط بشير الذي صادره المدرّس، وآخر لا يستطيع النزول من سيارته إن جاء دور أغاني بشير في المسجّل، ويستمر في الطواف حتى يختم بشير، يقابله في العراق من نجح في الهرب من دوريّة داعشيّة عندما مر بجانبهم مشغلًا أغنية لبشير، ولم يوقفه طوال المطاردة. هذا إلى جانب جمع كل كلمة يمكن أن يقولها عارف لبشير لرسم صورته الحقيقية، لون بشرته وطوله وتباعد أحداق عينيه وملابسه وأطعمته المفضّلة وتعامله مع أصدقائه وعائلته، خاصةً أمه التي لم تطلب منه شيئًا إلا وقال: “أبشري.”

مع ارتباطٍ كهذا نستطيع فهم ندم المئات من عشاق بشير الذين أتلفوا ما كان لديهم من تسجيلاته وصوره بعد التوبة الصحويّة، ثم اشتاقوا، ومنهم والدته. “بعدين جت الصحوة، وكسرنا كلشي وحتى الصور أحرقناها … والحمدلله” قالها الإيقاعي حامد الحامد متحسرًا. لكن في النهاية، الصحوة نفسها التي مسحت فصولًا من سيرة بشير صنعت منه شهيدها، ومُلئت تلك الفصول الفارغة بحكايا ربما أجمل وأكثر إثارةً من الأصل.

قد لا نعرف أبدًا تاريخ ميلاده الحقيقي وسبب وفاته وقصص حبه كما وقعت، وفيما إذا عزف بيمناه أم بيسراه، وحقيقة غنائه مع عتاب ومع عايشة المرطة في الكويت؛ وقد لا نعرف هل هو صاحب الملامح التي ارتبطت به أم لا. لكن نعرف أنه كتب أغانٍ عرّف شاعرها باسم الشاعر الحزين، وشهدت على هذا الحزن ثروة من الأداءات الخالدة. كان حزينا وطروبًا، أحب غناءه وعوده وخلّد هذا الحب بتسجيلات حميمية يهمس فيها أمام المسجّل وكأنه بالفعل يغني لكل مستمع بشكل خاص، ويبوح له في كل أغنية ببعض من أسراره. لم تكن كلماته دومًا هي القصة التي يريد أن يحكيها، فقد غنى أنا ودّي إذا ودّك بقدر ما يليق بها من الغمز، وغناها نفسها بشجن يحيلها مناجاةً لحبيبٍ نسي اللمسة التي كانت، جاعلًا من أدائه نفسه شيفرة تُضاف إلى ما يخص به جمهوره. عاش بشير عاشقًا ومات عاشقًا، وبقي سرّ كل من لمسه مُذ عرفته الجزيرة أول مرة، وبعد أن صار منبوذها ثم أسطورتها.


تم هذا المقال بفضل شغف ومجهود القائمين على قنوات عبد العزيز فون وأبو حمد العيناوي للفن الشعبي وأبو عبد الله فون ويوسف الضبعان على اليوتيوب، ومتابعيهم.

صورة الغلاف هي أحد الصور التي لم يُحسم الجدل حولها فيما إذا كانت لبشير أم لحيدر فكري.

المزيـــد علــى معـــازف