.
ارتبطت موسيقى الدريل بشكل مباشر بحياة أفراد العصابات أو المتأثرين بهم في شيكاجو ولندن، وهو أساس صورتها القاتمة في الجمل اللحنية والكلمات وصولًا إلى كليبات الأغاني. يبدو من الغريب وجود الموسيقى ذاتها وبصيغة شبه مطابقة في سياق مختلف لم يعرف التكوين العصابي يومًا، كما هو الحال في مصر، ما يطرح الكثير من التساؤلات حين تصبح الدريل أحد أكثر الأنواع جماهيريةً في مصر لما يقرب من عامين.
لم يعرف الدريل المصري تجديدًا من نوع خاص في بدايته، حيث كان في حالة استلاب كاملة من الأصل الغربي على مستوى الأصوات المستخدمة والتوزيع الإيقاعي، الذي يُعدّ عنصرًا أساسيًا في تكوينه. إلا أن ما أحدثه الدريل في السياق المصري أتاح للمشهد توظيف المساحة الرمادية التي احتاجت مزيدًا من العنف والخشونة، التي تراجع عنها كلُّ من الراب والمهرجان، رغم ضرورتها الوظيفية في السياق الموسيقي العام لما يعكسه من مكون أساسي في الشارع المصري.
بالأخص مع التراجع الملحوظ في الألفاظ الخشنة المستخدمة حتى في سياقها الطبيعي، كما في الدس الأشهر بين المكسيك ورقص مال، والذي عد وقتها الأكثر ضعفًا بين موجات الراب المصري، حيث تم وضع القوة والعنف في فضاء مختلف عن مفهوم الشارع المصري، دون الاستناد على جماليات الموسيقى الخشنة كركيزة أساسية في الدس. لذا مع التفاف الدريل حول صياغة جديدة لمفاهيم القوة الأكثر ارتباطًا بالمجتمع بصدى أوسع وأسلوب أكثر مباشرة للمستمع، خلق له مساحة جماهيرية تضمن له انطلاقة مختلفة بدءًا مع تراك شياطين لـ فليكس وحُسين.
اعتمدت تسجيلات معادي تاون مافيا، اللاعب الأساسي في بدايات موسيقى الدريل في مصر، في أنماطها الإيقاعية والأسلوب على دريل لندن ذي الميل الواضح للتقاطعات اللفظية الصلبة (فلو)، عكس موسيقى شيكاجو الأقرب الى التناغم اللحني الواضح المضفى على الإيقاع والأسلوب الغنائي نفسه. يعود ذلك في أوجه عدة إلى ثقافة الشارع نفسه الذي يبتعد كثيرًا عن المفهوم الأمريكي لثقافة الشارع، ما يجعله غير منسجم مع المزاج العام للشارع المصري، حتى إن بني بالمعايير الآمنة لصناعة الهيت. يمكن وضع تراك يوم جديد لـ حسين مثلًا في مقابل ديور لـ بوب سموك، الأشهر في الدريل الأمريكي، للتشابه في الثيمة الأساسية التي يرتكز عليها كلا العملين. لم يكن عمل حسن ذي تأثير واضح في مسيرته، عكس ما حققه ديور.
جاء التنوع في الدريل البريطاني انعكاسًا لالتصاقه المباشر بحياة صناعة وثقافة اجتماعية متكاملة، في حين اعتمد الدريل في مصر على التقليد الصريح، دون تنوع على مستوى الأداء والتوزيع نفسه، ما جعله على مسافة من أية هواجس الشخصية. سرعان ما تجاوز الدريل البريطاني قوالبه الشائعة بمسافة كبيرة، في حين غرق الدريل المصري في تلك القوالب، إلى أن تطلب مساره التطوري بعد ذلك الخروج من تلك الحالة بالكلية ليتقاطع مع أنماط لحنية جديدة وأداء مختلف.
رغم توقف الأسلوب الفني لفترة عند الوضع الاستلابي، استطاع الدريل المصري لاحقًا تقديم إضافة جوهرية في الرؤية الفنية نفسها وصياغتها الجديدة، حين استند على الخلفية المحلية للقوة والسلطة، ما جعله يختلف بوضوح عن الدريل العالمي وطبيعة الموسيقى العنيفة في مصر، لما أضافه من نقلة نوعية بتأكيد الطابع السلطوي دون وضع سؤال عن ماهية العنف كما كان في صورة المهرجان قديمًا، والذي كان يعد الواجهة للموسيقى العنيفة في مصر. يبدو ذلك جماليًا أكثر انسجامًا تقريبًا، ويرجع ذلك لنوعية موسيقى الدريل نفسها وما تفرضه من رؤية خاصة للعنف، إلا إن جزءًا كبيرًا أيضًا من الاختلاف النوعي المضاف جاء لاعتماده القاموس المعاصر للغة الشارع، وصياغته في شكل منسجم، بعد أن غرق المهرجان في قاموس لم يعد راهنًا كما كان من قبل. يمكن ملاحظة تقارب الرؤية في عمل جماعي لكلٍّ فيه خلفية ثقافية مختلفة، إلا أنه شكل مفهومًا متفقًا عليه للقوة لارتباطها بالشارع نفسه.
مهدت تلك الخلفية المشتركة بين الدريل وشكل القوة في الشارع لانتشار أكثر انسيابًا من التجارب السابقة لراب العصابات بصورته الغربية الصرف، كما كان عند مستر كوردي، كما منح التماسك الشكلي للدريل مكانة أكثر وضوحًا وتماسكًا من المهرجان. إذ توقف المهرجان في نشأته على ما يقرب من التداعي الحر للكلمات دون رؤية مسبقة، ووقع جزء كبير منه في صورة تجارية، أصبح لها صوت أعلى من فناني المهرجان التجريبين، والذين استفادوا بدورهم بشكل واضح من التجارب الموسيقية المختلفة والدريل، خاصة في السنوات الأخيرة، ما ضمن لهم ركوزًا مختلفًا يمكن الاعتماد عليه في صياغة موسيقى دريل أكثر خصوصية واشتباكًا مع الشارع المصري كما نجدها في تجربة شبرا الجنرال.
لم يكن التجديد من نصيب موسيقى المهرجان وحدها، حيث تأثر الدريل التقليدي بالصوت الشعبي، ما جعله في الآونة الأخيرة يخرج بشكل ملحوظ عن المكون الغربي، خالقًا مساحة تجريبية جديدة، وإن حافظ على التوزيع الإيقاعي المعياري للدريل، إلا أن إضافة الأصوات الجديدة خلقت مساحة أكثر اختلافًا؛ خاصة لما في تلك الأصوات من إحساس مخالف للأصوات الصلبة والخشونة المتعارف عليها في الدريل البريطاني. جاءت تلك النقلة مع ما يمكن وصفهم بالموجة الثانية من موجة الدريل المصري، بدءًا من أعمال زياد ظاظا التي وضعت أفقًا جديدًا للاختلاف يمكن ملاحظته بسهولة في الطبقة الصوتية المختارة، والكلمات التي أخذت منحًى ساخرًا أحيانًا، حيث عمل زياد ظاظا على النمط الجديد لموسيقاه محتفظًا بالحد الأدنى لسمات الدريل. ما يجعل ذلك التأثير بين موسيقى المهرجان والدريل يأتي بإضافات تقربهم لنمط جديد.
صُحبة مش مافيا | لماذا تميزت كلمات الدريل المصري
في مقالة نشرت عام ٢٠١٢ لـ لوسي ستيهليك على صحيفة الجارديان أشارت إلى أنه “مع ارتفاع معدلات جرائم القتل في شيكاجو، عكست موسيقى الدريل العدمية، الحياة الواقعية، وذلك ما فشلت فيه نظيراتها من موسيقى الهيب هوب المتعارف عليها. حيث احتوى التركيب الصوتي لموسيقى الدريل نفس عينات الطلقات النارية وصفارات الإنذار” المستخدم في واقع المدينة نفسه، فكيف وجدت موسيقى الدريل دون عصابات؟
شَّكل الشارع المصري على مدار عقود مفهومًا مختلفًا للسلطة الرسمية على مستواها الثقافي والسياسي، وكوّن مجتمعًا خاصًا له مبادئه وأعرافه التي قليلًا ما تتعرض لتغيرات جذرية في حال الانفتاح الثقافي؛ ليستطيع الناس الاستناد عليها عند الضرورة. مع اشتداد أشكال النزاع في الشارع المصري منذ سبعينيات القرن الماضي، وبدء غياب مفهوم السلطة الأهلية التقليدي في الشارع، خُلقت أزمة في قيم الشارع المصري ولم يكن حينها الإنتاج الموسيقى الرسمي والتجاري متقاطعًا مع تلك الأزمة بشكل حقيقي، حيث ظل محددًا من قبل النخبة الثقافية بشكل شبه متجمد في نطاقه الوصفي.
لم يستطع استيعاب تلك الأزمة سوى الجيل الذي خرج من داخل الأزمة بمفهوم جديد للسلطة واللغة تكوّن في ظل جدلية الشارع نفسه، دون أي مساحةٍ مشتركة بينه وبين الثقافة الرسمية. انعكست تلك التفاصيل بشكل واضح في أعمال هامة في المهرجانات:مولد تلاتات لـ أبو أصالة والبانجو مش بتاعي لـ حامد عبده، حيث كانت من أوائل الأعمال الشعبية غير التجارية التي تناولت تلك الفجوة القانونية.
وجدت تلك الإجراءات الحمائية طريقها إلى قلة من الأعمال الموسيقية وتشكلت مواضيعها الأهم في المخدرات والجنس، التي تعتبر أرضية مشتركة مع موسيقى الدريل، لكنها اختلفت عن المكون الغربي الخارج من معايير فردية قادرة على خلق تشكيلات عصابية ذات مبادئ منفصلة عن الشارع نفسه. حيث لم تكن النزعة الفردية قادرة على مواجهة تحديات الواقع الاجتماعي في مصر، بل ولم تسمح المعايير الأهلية المحافظة نفسها بخلق مجموعات منشقة بأخلاق فردية مخالفة لها إلا في قليل من الأحيان. لذلك لم يعرف المجتمع المصري التنظيم العصابي المنشق ثقافيًا بمفهومه الأمريكي، حيث سريعًا ما يقع أفراد المجتمع في قبضة ثقافة الشارع ودلالاتها التي تشكل اليد الأعلى في تنظيم الحياة اليومية.
شكل السؤال حول الأخلاق والمبادئ جزءًا هامًا من أغنية المهرجان في مصر، إلا أنه سريعًا ما تبلور إلى صوت أكثر سلطوية في العقد الأخير، حيث نشأت التجمعات الصغيرة المتجسدة في الصُحبة / البفة، غير منفصلة عن مبادئها التي شكلتها، لكنها أصبحت ذات ثقة أكبر لتأكيد الهوية الذاتية والطابع السلطوي للشارع، وإن ظلت ذات نبرة مترددة نسبيًا لما تواجهه من حكم أخلاقي.
إلا أنه مع انخراط موسيقى المهرجان في شكلها التجاري لمع نجم الهيب هوب بطيفه الواسع في التشكيلات اللحنية والإيقاعية، والدلالات الجديدة عن الفن، ليضخ دمًا جديدة ساهمت في تبلور المفهوم الاجتماعي الخامل عن السلطة في الشارع المصري، والذي ظهر لضرورة الشارع. بالنتيجة أخذ قطاع من فناني المهرجان الجدد تلك النقلة النوعية بصوت أكثر سلطوية ومواجهة، خاصةً فيما شهدناه من التعاون بين فناني المهرجان والراب وما أفضى إليه من مكون موسيقى أكثر تماسكًا. أضاف الراب تأكيدًا على الجانبين الفردي والسلطوي، لتشبعه بثقافته الغربية الفردية، حيث تلاقت تلك الرؤية مع أرض راسخة في ذهنية الشارع المصري. خاصةً لما تمليه ثقافة الراب المصري الاجتماعية لمفهوم السلطة، والتي تبتعد بشكل كبير عن مفهومها الغربي الغارق في رؤيته اللا منتمية القاتمة للأمور، حيث مثل مفهوم السلطة في مصر طابعًا حيويًا لمواجهة مصاعب الحياة وليس الغرق فيها.
لذا لم يكن الدريل المصري بحال من الأحوال انعكاسًا لرؤى عدمية للمجتمع أو للقائمين عليه أنفسهم، بل تعود جذوره المفاهيمية إلى المكون الاجتماعي نفسه الذي يحاول أن يحافظ على حيويته بعدة طرق، منها السلطة والمبادئ الاجتماعية للشارع. لم يكن الدريل سوى غطاء أكثر رحابة وتماسكًا للتعبير عن ذلك، وإن كان في أولى مراحله في السياقات الفنية داخل المجتمع المصري، لذا ما زال بشكل كبير واقعًا في حالته الاستلابية، لكن ذلك من شأنه أن يأتي بأشكال جادة من الاختلاف.