.
ربما كان عام ٢٠١٩ لحظةً تاريخية فاصلة، نقيس التاريخ حوله نسبيًا – ليس ما قبل كورونا مثل ما بعدها وليس دخول الحمام مثل خروجه. هل أنا مجنون أم أنّ العالم كانَ في نشوةٍ تغيرية هائلة كادت أن تمسح بالنيوليبرالية الأرض؟ سانتياجو وهونج كونج وبيروت، باريس والجزائر وبوجوتا، كان شعوب الأرض وعمالها في الشارع، حرفيًا. يغنون، يرقصون، يمارسون ويصنعون الموسيقى؛ ومش رح ترجع تركب مش رح ترجع تجرح، شوف البلد كيف بزقتكم بطّل إلكم مطرح.
أتت الجائحة، ومعها السعال، والجلوس لفترات طويلة في بيوتنا، لوحدنا أمام شاشاتنا وحيطاننا، أصبحنا عالقين مُعلقين بين مُدن ساكنة، ووقت يمضي، نراه على أجسادنا شيبًا يتكاثر وهالة سوداء حول أعيننا تكبُر مع كل ليلة أرق. حفلاتنا الموسيقية توقفت، مَن سيصرف علينا؟ وهل جمهورنا على قيد الحياة؟ هل غادر الشُعراء؟
بين خسارة الوظائف، وتوقف الاقتصاد وترهّل الدولة، فقدنا حريتنا أيضًا. كيف سأكتب، أو أنتج، وأنا أشم رائحة الموت والقلق في كل زاوية من غرفتي التي تتقلص مع مرور كل يوم وساعة في الحجر الصحي. كيف سأكتب وأنا أنازع لآكل وأشرب. يجف رصيدي البنكي، ومعه تجف رغبتي في العمل. يحتاج العمل الثقافي الأصلي، والموسيقي المُتفرد، مصادر ومراجع، يحب اللقاء والسهر والشُرب والرقص، من أين لي بهذا الآن؟ يحب الإنتاج الموسيقي والثقافي الحرية وأنا محبوس، ومش هنسلم مش هنبوس مش هننقل الفيروس.
هل انتكبت وانتكست الموسيقى في الجائحة، أعتقد ذلك ورأيي هذا ليس مبنيًا على أي أبحاث أو أرقام، على أي دليل واضح وملموس، هو حدس، حدس مستمع شغوف، مُتابع أحيانًا. اختفت الألبومات، وخرجت السنجلز والبيتات السوداوية من الجوارير. أصبح الموسيقيون مشغولين بالقراءة والتنظير أو تشخيخ الأطفال. تفتفتت الفرق، كل منا في بقعة والمُنتج فين والحب فين؟ الحالة الثورية السياسية الاقتصادية الجغرافية التي نعتاش عليها كفنانين وفنانات في المجال الثقافي تبخرت. هل تعتقد أنّني مُخطئ؟ هل انتعشت الموسيقى المُستقلة في كورونا؟ أرسلوا لنا اعتراضكم على هذا التنظير غير العلمي على الرقم المُرادف لبلدك أو راسلونا بأفكاركم على [email protected].
تخلق الرأسمالية تناقضاتها وتعتاش عليها. تخلق المشكلة وتخلق الحل، وتعلم أنّ حلّها سيخلق مشاكل جديدة لها، ولنا، وتُحب هذا، تموت عليه. تُدمر الرأسمالية عالمنا ونُظمنا البيئية، البشرية منها أو الحيوانية والنباتية، تستهلك الأرض. تكره الرأسمالية العافية، وتُحب سوق الصحة الحديث. تكره الرأسمالية الطعام الجيد، والأعشاب، تحتقر بيارات البرتقال، وتعمل جاهدًا عبر مؤسساتها المالية على تدمير محاصيلنا وصناعاتنا وسُبل عيشنا، لتبيع لنا برتقالها المُغلف بالبلاستيك، وأقراص الفيتامين سي.
تعمل جاهدةً على خلق الفجوات، وتصعيد وتيرة ربح الشركات الصحية الخاصة. الصحة حق، إن كنت تملك تأمينًا صحيًا ووظيفة ثابتة، ومدخولًا لا يقل عن ألف دولار في الشهر، إن كنت ثريًا غنيًا، والله ستعيش ٩٦ سنة. إدفع إدفع يا حبيبي، لدينا مصانع وأبحاث لنمولها، لدينا أسواق جديدة لنكبر فيها، لدينا أجساد سوداء لنجُرب عليها، من سيصرف البونص علينا؟ من سينعش أسهمنا لنشتري ڤيلا جديدة في بالم بيتش؟ من سيدمن على أقراصنا الزرقاء اللذيذة؟ استهلك يا عزيزي الصحة. الرأسمالية تهلك صحتنا النفسية، بفقرنا وجوعنا ووظائفنا البائسة، وتعطينا الرعاية على هيئة طبيب نفسي يأخذ مئة دولار بالساعة ليوصف لنا البروزاك وأخواته. تكره الرأسمالية أنماطنا الفردية، وتحبذ لو نتحول إلى كرة لحم واحدة، لزجة أحيانًا، تتحرك على شاكلة المورتاديلا أو النقانق، هلامية مكبوسة، وعندما يقرر أحد منا أنّ نمطه وإيقاعه مختلف، توصف له الريتالين. إنتج يا حبيبي لتعيش.
تفاقم الرأسمالية، عبر شكل إنتاجها وعولمتها، المرض، وتشتعل على ظهرها الجائحة. هذه الجائحة التي قتلت عُمال مَصانعها وأوقفت خطوط إنتاجها، وفتحت خطوط إنتاج جديدة على ظهرها. تحب الرأسمالية الكوارث، وتصنعهم. لأنها عبر الكوارث تصحح نفسها، وتأخذ استراحة المحارب لتباشر بالفتك فينا وبشعوب الجنوب العالمي بوتيرة أحقر. هل توقفت أمازون عن العمل في الجائحة؟ ماذا عن مصانع السلاح؟
@prodigalsun3 The imperial March plays over the loudspeaker of a US army vessel departing on a mission to construct a temporary port for weapons deliveries from the West to “Israel” #fyp #politics #empire #america #blacktiktok #blacktiktokcommunity #blackpolitics #army ♬ original sound – ProdigalSun
أنت قابل للاستبدال، مثل الكمامة، تُرمى في السلة بعد الاستغلال. أنتَ رَقَم، عبء، البقاء للأقوى هو البقاء للأغنى، التجاري، الذي يملك الأسهم. تكره الرأسمالية الموسيقى، وتحب الكوارث. عند انفجار الشمس، وموتنا جميعًا، ما هو آخر صوت سنسمعه؟ أعتقد أنّ الله سيشغّل لنا تايلور سويفت، تروبل ربما، أو أنّ الحكومات العربية ستقتاد بأمريكا وتلعب أغنية دارث ڤيدر، ذا إمبيريل مارتش، مثلما حصل على ظهر السفينة الأمريكية المتجهة إلى شواطئ غزة. ربما المقربون من هاني شاكر سيشغلون له بنت الجيران بينما يحتسي التمور والحليب.
كان صوت الموسيقى المُستقلة – إن وُجِدت – في الجائحة ثقيلًا، ألحانه عنيفة، كلامه مُبهم ويختبئ تحت أهازيج الأوتوتيون. كأننا أقحمنا الميكروفون في حلوقنا المريضة، وكُنا نأن عليه أهازيج مُتعبة. أنفاس. أنفاس طويلة. يُذكرني ألبوم الراس حُر بن يمّ بصوت رجل الأمن الأردني، وهو يصرخ على صافرات الإنذار، أهازيج لا نفهمها، تُنذرنا بنهاية العالم.
أنت لست مستقلًا، وأنت لست حُرًا. لا يكفي جمهورك، ويجب أن تتحول أفكارك النيرة إلى مقتطفات صوتية على إنستجرام وتيك توك لتربح فتات السنتات. أنتَ لست حُرًا، يتحكم جيجي لامارا بالذوق العام. يعلّمك شريف صبري وفيديوهاته كيف ترى وماذا تُحب وشكل الجنس الذي تريد أن تمارسه. إن كنت مُستقلًا فهذا لأنك صاحب امتيازات رأسمالية تسمح لك بالتفريغ الإبداعي أحيانًا، لكنك لن تأكل عيشًا من الموسيقى، ولا من الصحافة. الممول له الكلمة الأخيرة، وسيجبرك على توقيع ورقة تملي عليك الابتعاد عن معاداة الاحتلال.
يجب أن تصبح موسيقتك ترند لتبيع تذاكر، وللأسف لن تبيع التذاكر لوحدك. مهرجانات تُركى آل شيخ بانتظارك. تريد أن تَعيش من موسيقتك؟ دلعنا في الرياض، هز خصرنا في الجونة، ولا تنسى أن تختم ألبومك في دُبي وأنت في طريقك. ليست ألحانك حُرّة، لمن تنتجها؟ ولو أنها حُرة لما نشرتها على سبوتيفاي. هل تنتظر الشيك من ورنر براذرز؟ حطي راسك على شركتي، جوا حساب بنكي ما في قدّي.
شو ثورة وما ثورة؟ شو صوت طخ؟ على قفاك اللوجو، نفّذ ما تأمرش.
في الواقع، تكره الرأسمالية الإبداع، تُحب الربح. إن كان منتجك الموسيقى قابلًا للبيع والاستهلاك، فيا أهلًا وسهلًا، ستتعلب وتُنظّف وتتحول إلى سلعة موسيقية ممتازة على كوفر أنغامي بلس، ولكن إن كنت تريد أن تُهذرب بلون جديد فعليك أن تقع كثيرًا. صنعت الجائحة اعتمادًا هائلًا على الوسائط الإلكترونية، إن لم ينشد لنا المُغني على المسرح فلا داعي أن أحضر أونلاين بارتي، وإن كان هذا المسخّم يريد أن يعيش من الموسيقى التي يحاول إنتاجها مُخاضًا في عزلته، يجب أن يسجلها على سيدي، وينتظر بقدرة قادر أن تحوّل له أجزاء الأموال آخر كل شهر. تحب الرأسمالية فن أندرو بولوك، والكُتب ذات الأغلفة البراقة، تلك التي تضعها على طاولات القهوة، تُحب هانتينجتون وتكره مهدي عامل. أنت حشرة أمام الناشر، وشركات الإنتاج. ما هم إلّا علقات أو فطريات تهندس بيئتنا السمعية، وتعصرك على خط إنتاجها.
تجربة الموسيقى المُستقلة تحت الجائحة ما هي إلّا تجربة الموسيقى المُستقلة تحت الرأسمالية، لكن أضربها بـ ١٠٠. أخرجت الجائحة أسوأ ما في الرأسمالية، ونشفت حلوقنا وحلوق كل من لا يستطيع بناء بيت في المريخ ليهرب من هذا العالم الذي تحطمه. لو كان الفيروس ينشف ويموت، إلّآ أنّ الرأسمالية وباء دائم، يتمنى الكوارث علينا. كيف لنا أن ننتج شيئًا يحكي حتى عن هذه الفترة ولا يوجد بيض في الثلاجة؟ وأنا أعاني من الاكتئاب والعزلة؟ وأنا دون مُنتج وجمهور ومسرح، دون مرجع وإلهام، وأنا عالق، بين مشنقة رأس المال، ورئتي التي تتداعى. إني أغرق أغرق أغرق.
والله غزّة لتلعن تعريص خواتكم.
“حصان الشعب جاوز كبوة الأمسِ
وهبَّ الشهمُ منتفضًا وراء النهر
أصيخوا، ها حصان الشعبِ
يصهلُ واثق النّهمة
ويفلت من حصار النحس والعتمة
ويعدو نحو مرفئه على الشمسِ
وتلك مواكب الفرسان ملتمّة
تباركه وتفديه
ومن ذوب العقيق ومن
دم المرجان تسقيه
ومن أشلائها علفًا
وفير الفيض تعطي”