.
في إحدى ليالي الأسابيع الأولى من الحرب على غزة، صادفت على يوتيوب ألبومًا مدته أربعين دقيقة بعنوان حماس أرك. على غلاف الفيديو نساء ارتدين الحجاب وحملن مسدسات فيما يبدو اصطفافًا عسكريًا، وبخط بُني كتب اسم الفنان مسلمجوز. خمنت من الاسم أنه موسيقي أو فرقة عربية تأثرت بما يحدث في غزة، لأفاجأ بأن عمر الفيديو على المنصة تقريبًا ست سنوات.
الآلات المستخدمة شرقية بحتة لكن الموسيقى نفسها بعيدة عن ما يمكن تعريفه بموسيقى شرقية. إيقاعات متوسطة ومتعددة الطبقات يطفو حولها مدخلات صوتية محيطة، وتركيب صوتي تجريبي إلكتروني معقد. أصدر الألبوم عام ١٩٩٩، ودفعتني أسماء التراكات التي من بينها سكينة القدس، خان يونس، راديو ياسر عرفات، إلى معرفة المزيد حول صانع تلك الموسيقى الغرائبية، والمنحازة بشكل واضح لتوجه سياسي يمكنه أن يلغي أي فنان أو شخص في عالم اليوم.
قلبت في الإنترنت وقرأت العديد من المقالات التي تناولت مشروع مسلمجوز، وحكايات حول الشخص نفسه وآراء متناقضة حول معتقداته السياسية، بين من يرفضها تمامًا ومن يؤيدها ويتعاطف مع صانعها، ومن يرى بأنها موسيقى جيدة لكنها تتبنى قضايا بإيمان مزيف. بدأت بالبحث في موسيقى مسلمجوز لأكتشف أن هناك أكثر من مائتي ألبوم على أقل تقدير، رقم صادم بمقاييس أي فنان مهما طالت مسيرته وارتفعت غزارة إنتاجه. كل ما كان يدفعني للبحث والتعمق أكثر: من هو؟ وماذا أراد أن يحقق بتلك الموسيقى؟
الحقائق التي نعرفها عن برين جونز هي أنه وُلد في مانشستر بالمملكة المتحدة، وكان رجلًا أبيض يعيش مع والديه، منعزل يعاني من رهاب اجتماعي، ولم يهتم بشيء عدا موسيقاه. عُرف عن جونز أن توجهاته كانت يمينية محافظة، ويُقال إنه كان داعمًا لمارجريت ثاتشر.
لم يظهر جونز اهتمامًا حقيقيًا بالإسلام كديانة، رغم تناوله في معظم موسيقاه ثيمات تأثرت بوضوح بالإسلام. نادرًا ما تحدث عن رؤيته الفنية، ولم يحاول تفسير رؤيته الحادة للوضع السياسي في المنطقة العربية أو ما كان يريد تحقيقه على الصعيدين الموسيقي أو السياسي، باستثناء مقابلة واحدة يمكن من خلالها التعرف على لمحات من شخصيته.
لم تكن آراء ومعتقدات جونز رقيقة أو وسطية بأي شكل، بل كانت حادة وراديكالية بين أقصى اليمين (ثاتشر) وأقصى اليسار في دعمه الواضح للمقاومة الفلسطينية، والنضال ضد الاحتلال الصهيوني وسياسات الاستعمار الغربي. كان يرى الصراع فقط أبيضًا وأسود. يقول برين جونز في تلك المقابلة التي أجراها معه الرئيس التنفيذي لشركة التسجيل الأسترالية إكستريم:
“مسلمجوز على وجه التحديد هو اهتمام سياسي. ربما يجب أن أقول أن الاهتمام السياسي هو الوضع الفلسطيني، والوضع في أفغانستان، وإيران، وحرب الخليج. هذه هي الثلاث ركائز الرئيسية السياسية أو العمود الفقري لمسلمجوز […] لأنني أعتقد أن الناس يبدو أن لديهم صورًا مشوهة تلقائيًا عن هذه المناطق بفعل وسائط الإعلام.”
يمكن استشفاف صدق نوايا جونز من خلال تلك المقابلة وفهم دعمه الواضح للقضية الفلسطينية والنضال ضد سياسات وممارسات الاستعمار الغربي في الشرق الأوسط؛ على عكس ما نجده من تعقيد في المحاولات الغربية لفهم مشروع جونز سياسيًا. وُجهت اتهامات لجونز لم يلتفت لها طوال حياته، بأنه معادٍ للسامية ومهووس بالإسلام، وأنه مجرد سائح ثقافي يتظاهر بأنه ثوري. بقي جونز على رأيه بأن القضية الفلسطينية هي قضية العصر، وكان يعتقد أن الجميع في العالم سوف يجدون أنفسهم في نهاية المطاف على أحد الجانبين، وهو ما تحقق بالفعل بعد الطوفان.
في الفترة الأولى من مسيرته، ظهر تأثره بحرب إيران والعراق وحرب الخليج، وحملات السوفييت في أفغانستان، ثم بدأ تركيزه ينصب نحو القضية الفلسطينية، في ألبومات مثل حماس أرك وأبو نضال وانتفاضة. كما عبّر عن موقفه من الممارسات الإسرائيلية في البومات مثل اغتصاب فلسطين ولا حقوق إنسان للعرب في إسرائيل، عدا عن توجيهه نقدًا لياسر عرفات عقب اتفاقية أوسلو في ألبوم خيانة.
رغم أن الموسيقى نفسها لم تحتو على كلمات، كانت عناوينها بمثابة تصريحات سياسية، والتصميمات التي صممها جونز بنفسه، كونه في الأساس كان مصمم جرافيك، عززت تلك التصريحات، ما خلق موسيقى مشحونة سياسيًا دون أن تنطق بحرف واحد.
يقول جونز في المقابلة نفسها: “هناك قطعة موسيقية تحمل عنوانًا يرشدك نحو اتجاه معين، دون أن يفرض عليك كيفية التفكير فيها. يمكنك أن تأخذ الموسيقى كما هي، لكنني آمل أن يدفعك العنوان لاستكشاف ذلك الاتجاه وأن يثير اهتمامك بما يحمله من دلالات.”
من الصعب تناول كامل منجز برين جونز الموسيقي، لكن من الممكن عرض بعض العوامل التي شكلت أسلوبه لمحاولة فهم مشروع مسلمجوز موسيقيًا. بدأ برين جونز مسيرته تحت اسم إي جي أوبليك جراف عام ١٩٨٢، لا يمكن تناول تلك الفترة من مسيرته بشكل معمق لندرة الإصدارات وعدم توافرها على الإنترنت، فيما عدا تراك واحد موجود على منصات الاستماع ومقطوعات نادرة ضمن إذاعات راديو إن تي إس.
في العام التالي من مسيرته تبنى برين جونز اسم مسلمجوز، وبدأ بإصدارات شبه سنوية في الربع الأول من مسيرته، وصولًا إلى منتصف التسعينات كان برين جونز في أوج عطائه الموسيقي، إصدارت غزيرة، وتوجهات موسيقية متنوعة الأنماط، يتبنى في بعضها أسلوبًا محددًا ومكررًا.
كان جونز أستاذًا في تصميم الإيقاع، تتحد مجمل أعماله حول الإيقاع كعنصر محدد لأسلوبه. نجد في موسيقاه غالبًا تركيبات إيقاعية متعددة الطبقات، وثابتة في أحيان كثيرة بحيث تعطي للموسيقى طابعًا ثابتًا من البداية للنهاية. اختياراته للإيقاعات جريئة ومدهشة في قيادتها للتركيب الصوتي، دون تغييرات حادة على مدار المقطوعات.
العنصر الأكثر أهمية خلف الإيقاع هو المحيط الصوتي. لم يهتم جونز كثيرًا باللحن، ونادرًا ما نجد جملًا لحنية في التكوين الموسيقي، إذ تتمحور الموسيقى في تكوينها حول الإيقاع بشكل أساسي، ثم الأصوات والمدخلات الموسيقية المحيطة متمثلة في سطور سينث دقيقة معالجة بريفرب وإيكو يجعلها تبدو متأثرة بشكل ما بالدب، وبعد ذلك تأتي عينات الصوت والتسجيلات المدنية التي تكون عادهً ناطقة بالعربية لتعزيز الثيمات التي يتبناها الموسيقي.
في أول ألبوماته كابول، ظهر أسلوب جونز التجريبي بوضوح. كانت هويته الصوتية في مهدها، وكان هو نفسه شابًا يافعًا. كان تجريبًا غير احترافي وكان بمثابة استكشاف لهوية جونز الصوتية. اتضح ذلك من خلال أسلوبه عبر الألبوم، خاصة في الأغنية التي تحمل عنوان الألبوم. بدا في هذه الأغنية تأثره بالدب واضحًا، مع استخدام عناصر موسيقية تقليلية إلى حد كبير، ترتكز على الإيقاعات المتناثرة والمكررة في المحيط الصوتي.
لم يتح له بعد استخدام الإيقاعات الشرقية التي ظهرت بشكل غزير في مسيرته لاحقًا، فأتت الإيقاعات عبر استخدام مكثف للدرَم ماشين. يتضح ذلك بشكل أكبر في أغنية موسلين جوز (شاش موسلين)، والذي يُعتقد أنه التراك الذي أطلق اسم مسلمجوز على مشروع برين جونز تيمنًا به.
ألبوم جونز الرابع بلايند هورسز الذي صدر عام ١٩٨٥، واحتوى غلافه على صورة للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، يعد بمثابة أول أعماله اكتمالًا على الصعيد التقني والأسلوبي، حيث قدم الألبوم إيقاعاته الشرقية المتقنة، والتي أصبحت فيما بعد جزءًا أساسيًا من مسلمجوز. ظهر أيضًا توظيفه الدقيق للتسجيلات الميدانية العرقية، والعينات الصوتية، والأهم من ذلك، تركيزه على القضية الفلسطينية.
في التسعينات أصبح إنتاج جونز غزيرًا وأكثر تشعبًا، ففي عام ١٩٩٦، أصدر جونز عشرة ألبومات، عمل مذهل وفقًا لمعايير أي شخص. على عكس ما يمكن توقعه من إنتاج بهذا الحجم، كانت منتصف التسعينات هي أكثر فترات مسيرته نضجًا، فكشفت عن أفضل أعماله وأكثرها تعقيدًا متمثلة في ألبومات مثل ماروون وحماس أرك وظلم، التي برز فيها أسلوب جونز الفريد واكتمل. خاصة الألبوم الأخير الذي يعد أكثر أعماله تضمنًا للألحان. ربما كان ذلك بفضل وجود موسيقيين إضافيين في الألبوم، والتي عززت إسهاماتهم إيقاعات جونز وانصهرت معها بشكل سلس، وأخذت حس جونز اللحني إلى مناطق أبعد.
وصولًا لألبوم قال المولى الذي صدر قبل وفاته بعام واحد، تعمق جونز في موسيقى المحيط بشكل مكثف. مع جو الألبوم المحيطي والغريب، إلى جانب العينات الصوتية الحضرية، والإيقاعات المسترخية في تراك كل حبة رمل في أرض فلسطين، نتبين نغمات جهيرة وركلات درامز ٤/٤ متكررة، وأصوات ملحة تختفي لتعود للظهور مجددًا خالقة إحساسًا قابضًا وبدائيًا بالنضال المستمر، وعندما يأتي الإيقاع مجددًا فيما يشبه التنويم المغناطيسي قبل أن يدفعك إلى الجنون، يبدو وكأنه ألقى تعويذة لن تعيدك كما كنت.
استمرت مسيرة جونز طويلًا بعد وفاته، فحتى اليوم نجد إصدارات جديدة لجونز بعد أكثر من ٢٥ عامًا على رحيله. لا تزال كل تلك الإصدارات تلاحق نفس الفكرة وتخدم نفس الأهداف.
وجد برين جونز العزاء والهدف في كفاح الفلسطينيين – وهو كفاح عكس صراعه الداخلي هو نفسه. رغم أن شخصيته لا تزال محاطة بالغموض والتناقضات، وربما كان فقط مجرد مراقب، لكن كانت رسالته واضحة ولا تحتاج الكثير من التأويل؛ نداء حرية واضح: حرية الاختيار، والتحرر من القمع، والحرية للأراضي المحتلة، والأهم من ذلك، حرية فلسطين.