fbpx .
روك بعد سقوط الأسد | حفل طنجرة ضغط في دمشق

روك بعد سقوط الأسد | حفل طنجرة ضغط في دمشق

شهد قيس ۲۰۲۵/۰۲/۰٦

سقط الأسد، واحتفلنا.

لا يمكن استهلال أي مقالة دون جملة سقط الأسد، حتى إن أردت الكتابة عن حفلة طنجرة ضغط التي حضرتها في دمشق. في النهاية، لم يكن للحفل أن يكون وأكون بين جمهوره دون هذه الحرية.

سقط الأسد، سقط الأبد، ونحن منهكون من الفرح، من البكاء، من البحث عن وثائق، من التغطيات الصحفية، من التعامل مع الأجانب، من الشجار والغضب، ومن الرقص.

يسلي كل هذا التعب ويزيده قدوم المغتربين، المقيمين خارج سوريا لعقد أو أكثر، بأنشطتهم السياسية في مقهى الروضة، وأكل الشاورما. اُنهكت، ولم ألتفت كثيرًا لستوريات إنستجرام التي تنشر عن حفلة فرقة طنجرة ضغط في دمشق بتاريخ ٢٠٢٤/١/٢٥. ما الذي قد أفعله هناك؟ أنا التي أخاف هذه الأجواء.

حصلت على دعوة، فذهبت. كانت الحفلة الأولى التي أحضرها في دمشق من هذا النوع، والحفلة الثانية في حياتي داخل سوريا كلها، على عكس بيروت التي يمكن أن أرقص فيها دون أية أسئلة في رأسي. هل أدخل الحفلة بشعور سقط الأسد؟ هل عليّ أن أخاف من مداهمة ما؟ لم أفكر كثيرًا، ذهبت مع صديق مقرب، ووجدت زملاء الدراسة هناك يستغربون مجيئي ووجوههم تنيرها الإضاءة الزرقاء، تعطيهم ملمحًا مسرحيًا ما.

لتجنب كل هذه الأحاديث توجهت إلى الخشبة. كانت فرقة كاساتاز فرندز تستعد لعزفها الارتجالي، وكنت أعرف عازف القانون ماهر جرين، صديقي الذي لم أسمع عزفه سوى على إنستجرام. لم نتحدث عن الموسيقى، تحدثت معه ومع بوشوكو عن الصحافة، وعن صديقنا المشترك. تركتهم لعملهم وبقيت أدور في المكان لاعتياد الازدحام المليء بالوجوه المألوفه، التي تجعلها الإضاءة غريبة بشكل مرح أحيانًا وموتّر أحيانًا.

أخيرًا بدأ العزف، لكنني ابتعدت وانسحبت إلى الخارج. شعرت أنني بالفعل داخل طنجرة ضغط، لكنّني أعاند وأحاول الإفلات منها لأفكر من الخارج وأسحب أفكاري السوريّة معي إلى الداخل بعدها. في حارات باب شرقي القديمة، تقف لجان للحماية على بعد بضعة أمتار منا، ويقف عامل النظافة مستغربًا ما يراه أمامه، ويستمع إلى الموسيقى ربما. دخنت سيجارة، وعدت إلى الداخل.

مقدمة طويلة؟ احتجت وقتًا أطول لاستيعاب ما يحدث، أني هنا في دمشق، داخل حفلة، لا يرعاها مجرمو النظام وبائعو المخدرات الخاصون به. لن أجد كحولًا رخيصًا ولا شخصًا يسحب مراهقًا ما لتجربة الكوكائين؛ وأخيرًا أرى عازفين يعزفون بحب، دون أن ينعكس ظل ماهر الأسد على شغفهم. مساحة آمنة؟ ربما.

بدأت أخيرًا بالتفاعل مع الموسيقى الارتجالية، كان صوتها عاليًا بالنسبة لي، فاستخدمت عينيّ مع سمعي، لأن هذه ليست موسيقى أسمعها في غرفة نومي، أشاهد قانونًا يعزف مع جيتار كهربائي، وأصدقائي يرقصون، وأشخاص رأيتهم خلال الشهر الماضي في ساحات دمشق المختلفة بعد سقوط النظام، يرقصون أيضًا، يريحون أجسادهم من ثقل السياسة، فلماذا أثقل نفسي؟ 

دون أن أدرك وجدت نفسي أخيرًا مندمجة، أحاول فصل الآلات عن بعضها في أذني ثم تركيبها مجددًا، لكن وقت كاساتاز فرندز قد انتهى وستدخل الآن فرقة طنجرة ضغط. تمنيّت لو تركت رأسي حرًا قبل نصف ساعة، لأستمع لهم أكثر، لكن هذه هي التضحية الكبرى التي تقوم بها الفرق الموسيقية التي تحمّي الأجواء قبل العرض الرئيسي، بالنسبة لي ولقلائل ربما. هتف آخرون بصوت عالٍ “برافو!” وأيضًا “برافو جرين!” وقول الاسم بعد كلمة برافو هو نكتة أخذناها من جمهور المسرح القومي الذي كان يهتف باسم أحد الممثلين، حتى صارت لازمة نعبّر فيها عن حبنا دون أن نعبر بشكلٍ مباشر مبتذل أو محرج لمن نهتف له.

برافو جرين!

ضحكنا وصفقنا وصفّرنا، وبدأ أعضاء الفرقة بالتحرك لأن لا وقت لتحية الجمهور وأخذ كل المحبة، وحان وقت إفساح المجال لطنجرة ضغط، التي انتظرها كل من دفعوا ثمن بطاقة الدخول.

“مضى الآن عشرون عامًا على الكارثة، ولم يبق على هذه الجزيرة سواهم. أتت الحرب على معظم أجزاء الكرة الأرضية؛ والآن أخذت الأشجار والحشائش تنمو ثانية، وأخذت الأسماك تملأ مياه البحر، لقد انتعشت الأرض وامتلأت بالحياة من جديد.”

لم أتوقع أن أسمع مقدمة عدنان ولينا على مكبرات الصوت، لكنني والحضور من جيلي كنّا ممتنين، كانت هذه تحية تحتفل بسقوط بشار الأسد ووجود الفرقة في دمشق، دون إشارة مباشرة، واستحضار نوستالجيا في محلها ووقتها، من طفولتنا ومراهقتنا المسروقة، التي شاهدنا فيها انتهاء المآسي في أفلام الكرتون فقط، لكننا اليوم نحن الباقون على الجزيرة، والحشائش تنمو حولنا، وتنتعش الأرض وتمتلئ بالحياة من جديد، برفقة أولئك الذين عادوا إلى الجزيرة.

بدأوا بالغناء، غناء شارة عدنان ولينا، الأمر الذي زاد الأمر مرحًا، ووجدت نفسي في الصف الأول مبهورة بهذا الحضور الدافئ، القريب من الجمهور الممتن لهذه اللحظة، لهذا القرب، مع فرقة يحبونها تحدثهم مباشرةً كأصدقاء عمر، بثياب عادية تزيد الألفة، وأغانٍ حفظوها جميعًا.

كنت الوحيدة التي لم أعرف أية أغنية، سوى شارة عدنان ولينا. لم أبحث قبل الحفلة، أردت أن تكون التجربة جديدة بالكامل، وكانت. ربع ساعة فقط ووجدت نفسي أقفز، لا أرقص فقط، متجاهلةً فلاشات الكاميرات وما قد يقال لو انتشر فيديو الحفل على فيسبوك. 

شعرت بالحر من كنزتي الصوفية، وغرت من الفتيات اللواتي كنّ مستعدات للرقص بثياب صيفية. كان الأصدقاء والمعارف بوجوههم الزرقاء سعداء كذلك، الآن أصبحت الوجوه الزرقاء التي تعرف عدنان ولينا، وتعشق طنجرة ضغط، مألوفة وآمنة، تشبه السنافر.

 

قُطعت الكهرباء أكثر من مرة، لكن الحفل لم يتوقف. أنقذ الدرامر داني شكري الحماس من الانطفاء، بطبوله التي تتجاوز الحاجة إلى الكهرباء. كنت ممتنة للإيقاعات القوية التي جعلتنا نستمر في هز رؤوسنا التي ستتشنج يوم الغد، ومشاهدة الشبان والشابات تغمرهم الحرية والحاجة للمزيد من الرقص والموسيقى، وأولئك المختصين الذين يصغون السمع للإيقاع ويومئون رؤوسهم إعجابًا بوجوه جادة تدرس الموسيقى.

داني شكري كان سوبر مان الحفل، حتى أننا خفنا أن يسقط من شدة التعب لإبقائه الحفل حيًا وحيويًا لا تؤثر فيه أزمة انقطاع الكهرباء المتكررة، والتي لا يمكن السيطرة عليها سوى بهذه الطريقة. ثم عادت الفرقة التي لم تتأثر بالتوقف، مع أداء خالد عمران القريب من القلب، وطارق خلقي الذي بذل جهدًا ساحرًا تظهر ملامحه على وجهه الذي يتحرك مع كل نغمة يعزفها، مع تقديم أداء منفرد وضع فيه الجيتار خلف ظهره.

كنت أقفز وأهز رأسي كما لم أفعل طوال ٣٢ عامًا عشتها، وكما لم أفعل حتى في بيروت، مع إمكانية الاستراحة من هموم سياسية والحاجة الماسة إليها.

كان ختام الحفل مع بوشوكو الذي بدأ بحماسة رائعة، خذلتها الكهرباء، بانقطاع طويل هذه المرة.

وقفنا في الخارج في انتظار عودتها، كل الوجوه المألوفة والأحاديث المكررة عن آلام الظهر وما لدينا من عمل صباح الغد، ضحينا بجودته للاستمتاع بهذه الليلة. لم يأت أي عنصر أمن ليأخذ هويات الشباب ويسحبهم إلى التجنيد الإلزامي، كنا وحدنا في دمشق القديمة، الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل، ننتظر بوشوكو ليحطم ما تبقى من عظام رقبتنا رقصًا.

أخذتني عظامي الصدئة من كثرة الجلوس في المنزل والخوف من الحفلات إلى كرسي كان موضوعًا على الرصيف المجاور، لا أعرف من وضعه. مرت سيارة مدنية سألني سائقها الشاب باستحقار “إنه يعني إنتي حاجز هون؟” نظرت إليه لبضعة ثوانٍ، اختلت خلالها ذاكرتي، هل يشبّح أمن الأسد عليّ؟ تذكرت أنه سقط، وأنا هنا لاحتفل. قلت: نعم! ثم ذهب.

لم أكن واثقة من رغبتي في كتابة هذا التفصيل، لكنني كتبته، لأنه لم يزعجني أطول من تلك الثواني، فقد “أخذت الأشجار والحشائش تنمو ثانية، وأخذت الأسماك تملأ مياه البحر، لقد انتعشت الأرض وامتلأت بالحياة من جديد” وسأعود للاحتفال.

 

من موقعي على كرسي “الحاجز الأمني” تذكرت كل المقالات والفيديوهات عن الحياة الليلية في دمشق، وإثارتها للجدل لأنها تبدو وكأنها تزيّن دمشق كمكان صالح لعودة اللاجئين، وتبيّض صورة نظام الأسد الذي سيبدو الخيار الوحيد مقابل الجماعات الإسلامية التي ستخفي هذه الأماكن. 

لم أجد مصوّرًا أجنبيًا واحدًا، على الأقل من مكاني هذا، وتساءلت: كيف يمكننا أن نكتب عن الحياة الليلية اليوم؟ سنكتب التجربة فقط دون تردد، دون الخوف من ظهور رفاقنا وكأنهم يعيشون سعداء، رغم أنهم ليسوا كذلك، سنكتب عن الرقص، دون أن نبدو أولئك الذين يعيشون في ظل دمشق، لأن من كانوا في الحفل، يعيشون في شمسها، ووقفوا لصالح معتقليها، وصرخوا ونددوا وطردوا الصحفيين الأجانب، وناقشوا وحللوا وغنوا، وهذه الليلة راحتهم، وراحتنا بعد كل زخم الحرية وواجباتها.

في النهاية لم أستطع التأخر أكثر، وددت لو استمعت لبوشوكو أكثر، لكن الكهرباء التي تذكّرنا دوما إننا في سوريا سرقت الفرصة، وعدت.

عندما وصلت إلى البيت، فوجئت برسائل من أصدقاء يسألونني عن مكاني، أصدقاء لم أرهم في الحفل، انضموا بعد عودة الكهرباء وعودة بوشوكو لأدائه، ليبدأوا الحفل معه، وينهيها أولئك الذين اعتادوا السهر حتى الصباح. شعرت بالغيرة قليلًا، لكن مع شعور برضا لأن الحفل لم ينته بسبب أزمة الكهرباء.

في اليوم التالي بعد انتهائي من عملي، وجدت أعضاء كاساتاز فرندز وداني شكري على طاولة واحدة، ودفعني صديقي لمقابلتهم من أجل المقال، لكنني لم أسأل سؤالًا واحدًا، لأكتب من تجربة ذاتية. الموضوع الوحيد الذي فتحناه عن الكتابة كان عندما قال صديقي لداني “رح تسميك قارع الطبول.”

لم أتمنََ ألفة أكثر من هذه، ولا بساطة أكبر. كنت الجاهلة الوحيدة في الموسيقى على الطاولة، ومع ذلك سأكتب عنهم. كنا مسترخين، لا خوف يسحبنا، وأمل بحفلات قادمة سأحضرها بالتأكيد، ممتنة للمتعة، للحرية، ولكوني لم أعرف طنجرة ضغط من اليوتيوب، بل من أداء حي في دمشق.


صورة الغلاف والصور المضمنة في المقال لـ رامي حسين.

المزيـــد علــى معـــازف