fbpx .

تسعة وتسعين عين | يونس

عمر غنيم ۲۰۲۵/۰٤/۱۲

برز يونس في المشهد المصري منذ ظهوره مع تسجيلات كفر الدوار وتعاونه مع إبراهيم إكس. ظهر آنذاك كمنتج شعبي متمرس، لتبلغ موسيقاه مناطق أوسع مع تطور مسيرته وتأخذ في التوجه ناحية التجريد والتجريب، مقدمًا تجربة موسيقية متشعّبة يظل التأثير الشعبي صلبًا في جوهرها.

ركّز يونس على الجانب المفاهيمي أكثر من أدائه التقني، فمنذ أول إصدار له بالتعاون مع إكس في ألبوم يا خال، رأينا تصوّرًا مدروسًا عن الموسيقى الشعبية والتراثية. اتضح ذلك أكثر في أول أعماله الفردية، هنرقص الجن الازرق، ألبوم شعبي صرف يغلب عليه توجه موسيقى الأفراح الشعبية بأسلوب حديث، صقله فيما بعد في إصداره الثاني مولد المجنون عام ٢٠٢١. 

توقفت إصدارات يونس بشكل غير واضح منذ ذلك الحين، حيث ركز بشكل أكبر على العروض الحيّة في أنحاء أوروبا وخارجها، قبل أن يعود هذا العام بثالث ألبوم له، تسعة وتسعين عين، الصادر عبر تسجيلات دراوند باي لوكالز.

يغوص يونس في بحثه التراثي في تسعة وتسعين عين، معتمدًا على عوامل ثقافية أحاط بها الغموض، وتضاءل تواجدها في المنتج الثقافي المصري حتى اندثرت. إذ يخوض في خصائصها مستكشفًا إياها بعين جديدة. 

يتحرك الألبوم المكون من وجهين في مساحة موسيقية رمادية يغلب عليها الطابع التجريبي، خاصةً في التوزيع. يتخذ أسلوب يونس منحًى فوضويًا واستكشافيًا من الدقيقة الأولى، كأنه يرتجل رحلة عبر الزمن في محاولة للإمساك بشيء غير ملموس. يوظف عناصر صوتية كالمزمار والإيقاعات الطقسية المكررة بالدف والدربوكا، إلى السنث الذي يظهر كناقوس خطر متقطع، ما يضفي توترًا طاغيًا على الوجه الأول من الألبوم، ليجد المستمع نفسه منساقًا في رحلة لا خطية، متذبذبًا بين التعثر والثقة، وسط حالة روحية تتبدل باستمرار حتى نهايتها.

يمر الألبوم بين لحظات من الهدوء والثورة، والطمأنينة والقلق، ويعكس يونس هذه المشاعر بتوزيع أقرب إلى الارتجال. يرتكز البناء اللحني على كوردات قانون تصاعدية تبدأ منذ الدقيقة الثالثة وتستمر حتى النهاية، يطويها يونس ليخلق محيطًا صوتيًا متداخلًا ومتعدد الطبقات. يصاحبها مزمار كخيط ثانٍ يلتقطه يونس ليقود إلى ذروة لحنية متشابكة، حيث تتفجر العوامل الصوتية في آنٍ واحد، خالقة حالة من التشبع الصوتي قبل أن تهدأ تدريجيًا.

في النصف الثاني من الألبوم تتغير الحالة المزاجية في البداية، فتنفتح على أجواء محيطة تقودها سنثات دقيقة وإيقاع بسيط ومترنح، ثم يعود لحن القانون نفسه ليسير على النحو ذاته كما في النصف الأول. رغم ثبات البناء اللحني عبر وجهي الألبوم، يتحرك يونس داخله بحرية، مضفيًا عليه خلطته المعهودة من العناصر الشعبية الكلاسيكية والعينات التراثية، فيما يمضي الألبوم تصاعديًا نحو نهايته، تتسارع الإيقاعات لتكوّن حالة ملحة مؤرقة.

يمثل الألبوم نقطة جديدة في مسيرة يونس، تتجلى أبرز ملامحها في الجرأة على التجريب، دون أن يتخلى عن ارتباطه العميق بالتراث. لكن هذه المرة، يغوص في مناطق أكثر تعقيدًا على مستوى التوزيع والبنية المفاهيمية للألبوم ككل، ما يجعله أكثر أعماله طموحًا حتى الآن. إذ يتعامل مع الموسيقى كوسيط زمني ومكاني في آن واحد، يعيد من خلاله تأويل عناصر التراث ضمن سياقات معاصرة.

يعزز الألبوم حضور يونس كمنتج موسيقي صاحب توجه مستقل، ليس فقط من خلال خصوصية صوته، بل عبر مشروع مستمر في التطور ويعكس وعيًا بالتراث الموسيقي المصري. يظهر يونس برؤية متأنية تمزج بين الشعبي والتراثي والإلكتروني دون الوقوع في فخ الاستعراض، ما يجعل تجربته مهمة وملهمة.

المزيـــد علــى معـــازف