fbpx .
يا مجال كله كورال | كيف نفهم الريج راب

يا مجال كله كورال | كيف نفهم الريج راب

عمر غنيم ۲۰۲۵/۰٦/۲۹

تختلف معايير الراب الجيد باستمرار. ففي الأطوار الأولى للهيب هوب، كان الرابر الجيد من يمتلك قدرة على الإتيان بالقوافي وسرد القصص، فبرزت أسماء مثل ميلي ميل وجراندماستر كاز. ثم تطورت المعايير لتركز على التعقيد اللغوي والتركيب الشعري، فظهر ران دي إم سي وراكيم، إلى جانب فرق مثل بابليك إنيمي. يستمر هذا النمط خلال فترة راب التسعينات لتظهر أسماء مثل ناز وتوباك وآوت كاست، لتصبح القدرة الكتابية والفلوهات العناصر الأساسية في تعريف الرابر الجيد.

مع تطور الجنرا واكتسابها شعبية تجارية، وظهور أنواع فرعية مثل التراب، إلى جانب دخول الأوتوتيون في منتصف الألفية، تراجعت أهمية الكلمات نسبيًا لصالح “الفايب” والصيغة الصوتية كوحدة واحدة، إضافةً إلى التدفقات اللحنية القريبة من البوب، فبرزت أسماء مثل فيوتشر، وترافيس سكوت، وكيد كادي. مع وصولنا إلى الريج تراب، دخلت كل تلك العناصر الى مرحلة جديدة من التجريب، فأصبح هناك تهميش حاد للمعنى والتركيب اللغوي، بل وحتى التركيبات اللحنية، لتعكس حالة من اللا معنى المقصود.

ظهر الريج راب في وقت وصل فيه التراب إلى نهايته الفنية نتيجة لحالة من التشبع المفرط للجنرا، بعدما سيطرت على مشهد الهيب هوب العالمي والأمريكي لفترة غير قصيرة. بات التراب يعاني من فقر واضح في محاولات التجديد الحقيقية، ما أدى إلى ظهور فجوة عملاقة في مشهد الهيب هوب، وبرزت الحاجة الملحّة لاكتشاف الصوت القادم في عالم الراب.

اتجه الكثير من الفنانين إلى بدائل مثل الدريل الذي سرعان ما تلاشى، بالإضافة إلى محاولات لا زالت مستمرة لاستغلال فرص كامنة في جنرات مثل البوم باب واللو فاي. أدى ذلك الارتباك المحيط بالتراب إلى حرية تجريب حقيقية من بعض الفنانين، أبرزها كان الريج، الذي جاء به بلايبوي كارتي وآخرين مثل ييت مع منتجين مثل فيلثي وأرت ديلر، كما ظهرت تنويعات أكثر حدة منه مثل السوبر تراب التي تميزت بعنفها وكثافتها العالية من حيث العناصر الصوتية وسرعة الإيقاعات.

تأثر الريج راب كثيرًا بالهارد كور بانك، في حدته وثيماته العنيفة، كما حاكت عناصره الموسيقية البانك في تهميشها للتركيب اللحني، بالإضافة للصخب في التوزيع الموسيقي واستثمارها للفوضى. لكن على عكس البانك الذي قام على رفض صريح للمؤسسة وعدوان سياسي وروح متمردة، كان الريج فارغ المعنى، يتعاطى مع العدمية بصورة سطحية عن قصد، ليعكس معايير وقيم فترته الزمنية.

قدم كارتي في هول لوتا ريد ألبومًا ثوريًا على الصعيد الجماهيري، وضعه بثقة كالرابر الأكثر جرأة في جيله، ومن أكثرهم تجريبًا. ترك كارتي وراءه تجربة التراب الناجحة في ألبوم داي ليت لصالح فوضوية الريج، ليصنع لنفسه صورة أيقونية في المشهد الامريكي. لكن مع التدقيق في محتوى الألبوم وثيماته، لم يكن هناك سطر واحد في هول لوتا ريد يمكن اقتباسه، ليس هناك فيرسات قوية ولا لزمات ضاربة، موسيقى بليدة في جودتها الكتابية ومحتواها لكن تصاحبها حالة مستمرة من الإنتاج الموسيقي الثائر والصاخب، فيما كان أبرز ما قدمه كارتي هو “البيبي فويس” والآد ليبز؛ لكن هذا كان كافيًا.

بدأ تأثير كارتي بالظهور عالميًا على يد فنانين مثل ييت ومجموعة أوبيوم، منهم ديستروي لونلي وكين كارسون، وبدأت الجنرا باكتساب شعبية عالمية ضمن جيل زد من رابرز ومستمعي الهيب هوب. حيث رأينا زياد ظاظا من أول فناني المنطقة في تبني الريج مع منتجين مثل عمر كيف في ألبومه الثالث ظاظا الوسيم، ليظهر من بعده رابرز مثل ترك وزين ومنتجين مثل لا زوز وكينجو.

تفوق ظاظا في اقتباس الصوت ووضع بصمته عليه كونه مطّلع جيد، حتى وإن أتى متأخرًا نسبيًا لكنه كان الأسبق. التحق به فيما بعد أكبر رابرز المشهد المصري في محاولة لمواكبة التغيير، كما رأينا ويجز في ألبوم جدول الضرب ومروان بابلو في ألبومه القصير انحراف.

لكن مع انتشار الصوت في المشهد المصري، اتضح فرق واضح بين ظاظا والجيل الجديد من جهة وبين ومروان بابلو وويجز من جهة أخرى. أدرك الجيل الجديد جوهر الجنرا العبثي وثيماتها الفوضوية، وتعاملوا معها بصورة عضوية. بينما تعامل ويجز وبابلو مع الريج راب كبيتات ومنصات صوتية لا تختلف كثيرًا عن أي بيت تراب أو دريل، فبدت كلماتهم وأسلوبهم على حالها. نتيجة لذلك كان كلا الألبومين، انحراف وجدول الضرب، محاولات مخيبة للآمال إلى حد كبير، لأن بابلو وويجز حاولوا الإتيان بمعنى في جنرا لا تأبه بذلك، فبدت الكلمات والموسيقى في عالمين منفصلين.

لكن الجيل الجديد من الرابرز تعامل مع الريج كروح ومحيط صوتي خالص، يجب الغرق في عبثيته بالكامل. ليست الكلمات هنا وسيلة للتعبير بقدر ما هي عنصر إنتاجي آخر، فيما يصبح الأسلوب العامل الأهم في الأداء، وتلعب الآد-ليبز دورًا أكبر بكثير من مجرد خلفية صوتية، لتتحول إلى أدوات تعبير مركزية.

في أغنية لا أمان لزياد ظاظا وترك على سبيل المثال، نشعر بطاقة هائلة تنبع من الفوكالز والآد-ليبز بالتحديد، لكنها لا تأتي من قوة الكلمات أو محتواها، بل من تماهي الرابرز مع البيت المتفجر والغني بالعناصر. الكلمات هنا تقول ولا تقول شيئًا، مجرد عنصر إضافي داخل المحيط الصوتي، تحاكي صخب البيت وطاقته، ولا تحمل أهمية أكبر من البايس أو الـ٨٠٨ العنيفة.

على صعيد المنطقة العربية، كان زياد ظاظا بالأخص هو الأذكى في تناول الجنرا وفهم عناصرها الجوهرية، فمن تماهيه مع ثيماتها في البداية وصولًا إلى نقدها من الداخل كما في تراك إيه القرف ده، الذي يمكن تفسيره أنه نقد ساخر لخواء الجنرا وفراغها من أي مضمون ذو قيمة فكرية أو عاطفية، عن طريق الإفراط في توظيف عناصر الجنرا الأساسية ليحولها إلى أداة نقد ذاتية المرجع، خاصًة بعد انتشار موجة الريج وتفشيها وسط كبار المشهد.

في نقد اللا معنى، يشترط فلاسفة مثل لودفيج فيتجنشتاين وجود المعنى من خلال استخدامه داخل اللغة، إذ يرى أن الكلمات لا تحمل معناها بشكل ذاتي أو جوهري، بل تكتسبه من خلال لعبة اللغة التي تُمارس في سياق محدد؛ فإذا خرج الكلام عن قواعد هذه اللعبة، أي لم يؤدِّ وظيفة مفهومة أو لم يدخل في ممارسة لغوية مشتركة فهو يصنّف ككلام بلا معنى، لا لأنه خاطئ أو فارغ بل لأنه لا يؤدي دورًا فعليًا في التواصل أو الفهم.

لا يلتفت الرريج لهذا النقد غالبًا ولا يتبنى موقفًا فلسفيًا واعيًا. إلا أن ما يفعله من حيث الشكل والمضمون يتقاطع ضمنيًا مع هذه الأطروحة. هو لا يسخر من فكرة المعنى ولا يهاجمها بشكل مباشر، بل يُمكن اعتباره يرفض ببساطة المشاركة في لعبة المعنى من الأساس. تستخدم الكلمات في الريج لا بغرض الإخبار أو تقديم محتوى عقلاني أو سردي، بل لأداء دور صوتي أو إيقاعي أو شعوري. لا يعبر الريج عن اللا معنى كمضمون، بل يؤديه بوصفه تجربة حسية.

لم يقم الريج على القدرة التقنية للراب والكتابة، وبصورة كبيرة يمثل انتشار الجنرا الأنفاس الأخيرة للتراب، ويمكن اعتباره بوست-تراب. يكمل الريج والسوبر تراب النمط التطوري للهيب هوب بصورة طبيعية من ناحية تهميش المعنى والكتابة، والتركيز على القيمة المجردة للصوت بكل عناصره، وتفضيل الصيغة على المحتوي. 

منذ أول تجارب الريج في هول لوتا ريد، بدا محتواه فارغًا، وجاءت ثيماته كمرادف موسيقي للا معنى، وهذا ما يريده الجمهور في عصر الدووم سكرولنج والتعفن الدماغي. في عالم لا يخضع كثيرًأ للمنطق، تعكس الموسيقى السلبية الى حد كبير واقع فترتها الزمنية.

المزيـــد علــى معـــازف