.
كل مسافر إلى ذلك الجنوب يتغير هواه وكل مقيم يتبدل لسانه ولو بعد حين، وكل آلة موسيقية يتغير صوتها وتكتسب لهجة أخرى. في الصعيد الجواني، تلك المنطقة الممتدة من مدينة قنا إلى السد العالي في أسوان، يتراجع الانتساب إلى العائلات ويسود الانتماء إلى القبائل والقرى والبلدان. هذا جعفري وهذا عبادي وآخر دراوي وآخر إدفاوي. هناك تنتهي نغمات الموسيقى التجارية القادمة من القاهرة العاصمة الشمالية وتختفي خارج نطاق المدن لتسود فنون الحكي والموال والنميم والكف.
فن الكف مثل الكثير من فنون الصحبة التلقائية يعتمد بالأساس على إيقاع بسيط وغناء تبادلي مُرتجل بين الجماعة والمغني الفرد، وفي تسجيلاته الأولى، نوبي الخضري والعزب الإسناوي، قبل دخول العود عليه وآلات الإيقاع واكتمال شكله الفني في صورة تخت مبسط، كانت الشطرة الشعرية تنقسم بين الكفافة وبين المغني في شكل من أشكال الترتيل التبادلي Antiphony، وكانت أغانيه عمادها الأساسي التوقيع بالكفوف والدف (الطار).
في القمر غرب مال يستعير العزب الإسناوي ومجموعة الكفافة لحنًا من المحصول الشعبي المشترك repertoire (هو نفسه اللحن النوبي الماري ماريتو) ويقومون بالغناء التبادلي عليه، وهي نفس طريقة أغاني العمل المشتركة بين تراثات عدة في المشرق في بحيرة قارون يغني الصيادون بهذه الطريقة: الصياد: كلما يشدوا المحامل الصيادون: للنبي قلبي يهيم (من مأثوراتنا الشعبية، أحمد علي مرسي، ١٩٩٨، ص ١٩٣)، وونفس طريقة الغناء نجدها لدى الصيادين الفلسطينيين (تراث البحر الفلسطيني، زكي العيلة http://www.thaqafa.org/site/pages/details.aspx?itemid=1846#.V6eg0e42u00) حيث يلعب مغني الكف هنا نفس دور رئيس العمال أو ريس البحر.
كان تأخر التسجيلات سببًا في تأخر اكتمال الشكل الفني للكف كقالب موسيقي، فقبل دخول الكاسيت ساحة التسجيلات الشعبية في الـ ٧٠ات لم يكن من الممكن تسجيل الفولكلور الجماعي سوى عبر التسجيل الإذاعي الرسمي، وبقدر ما حافظت هذه القنوات الرسمية على تسجيلات مهمة من المحصول الشعبي، بقدر ما غضت الطرف عن أخرى ومارست تنقيحًا عليها كلها.
وبحسب شهادات كثيرة لفناني الكف مع عمار الشريعي 'لقاء رشاد عبد العال مع عمار الشريعي https://www.youtube.com/watch?v=GfF8nAGNh_k برنامج بلدنا بالمصري - حلقة عن فن الكف https://www.youtube.com/watch?v=nmhSTCo4XaM لقاء محمود جمعة مع قناة طيبة https://www.youtube.com/watch?v=vMLH8kyXtOU'، دخل العود على الكف في الربع الأخير من القرن العشرين ليجاور آلتي الإيقاع الرئيستين الدُف والطبلة، وليكتمل به تخت الكف ومرحلة تحول الفن من جماعي تغنيه كل الجماعة إلى فردي– جماعي يعتمد على التفاعل بين الفرد والجماعة، وينسب إدخال العود إلى تخت الكف إلى الراحلين رشاد عبد العال (المتوفي ٢٠٠٨) ومحمد أبو درويش (المتوفي ٢٠١٣)، وهما رافدان مختلفان لنفس الإدخال، فمحمد أبو درويش ينتمي لرافد أكثر جنوبية هو فن النميم الآتي من السودان عن طريق تجار قوافل الإبل بين السودان وسوق الجمال بمدينة دراو بمحافظة أسوان فن النميم المصري، إبداع شعبى أصيل يعبرعن روح الجماعة الشعبية http://elsada.net/6080/، ورشاد عبد العال، المنتمي لقبيلة العقيلات العربية، ابن المزاج الكلاسيكي المصري المتربي على الفن السائد في ستينات القرن الماضي، أو ما اصطلح على تسميته بالكليشيه الشائع “زمن الفن الجميل”.
وبمجرد دخوله على تخت الكف، اكتسب العود لهجة جديدة تمامًا مختلفة عن اللهجة السائدة في الموسيقى العربية المتداولة في مصر، فالعود هو الآلة الوترية الأقرب لصدر عازفه يغنيان كأنهما جسد واحد ويكتسب الوتر صوت العازف بمجرد ملامسة أنامله له، وبرغم دخوله المتأخر إلى فن الكف أصبح العود هو الصوت المميز لهذا الفن، مثله مثل الطنبورة التي دخلت على فن الضمة البورسعيدية متأخرًا لتصبح هي الصوت الرئيسي فيه محمد شبانة، أغاني الضمة في بورسعيد، ٢٠١٤، ص ١٦٠. مهمة العود هنا ليست مهمة لحنية فقط مثل الأداء السائد في الموسيقى العربية، بل مهمة لحنية إيقاعية بالأساس، وريشة العود في فن الكف ريشة إيقاعية دومًا، ويخلو دور الكف من التقاسيم إلا نادرًا كافتتاح للدور فقط لذا تختفي تقنية الرش أو الفرداش tremolo من عود الكف على الرغم من كونها تقنية أساسية في لهجات الموسيقى العربية الأخرى.
ففي تسجيلات محمد أبو درويش المنفردة، وهي غير الليالي المشتركة مع فنانين آخرين على رأسهم رشاد عبد العال، يكون أكثر وفاءَ لتراث النميم والسلم الخماسي الإفريقي فيبدأ الغناء بمربع حر غير ملتزم بالإيقاع مع تقاسيم من العود قبل دخول الكفافة بالغناء، ويلتزم الكفافة هنا بالتوقيع وبغناء المذهب فقط على عكس تسجيلات النوبي الخضري والعزب الإسناوي، فهذا الشكل المكتمل للكف أقرب قالب له في الموسيقى العربية هو الشكل البدائي للطقطوقة حيث يشترك المذهب والخانات جميعها في نفس اللحن بدون تغيير، ويغني المغني الخانات ويكتفي المذهبجية بغناء المذهب.
لكن هذا الأداء يختلف في الليالي المشتركة، فعلى عكس التسجيلات الأولى لفن الكف التي خلت تمامًا من أي تسجيل حي، يحتل التسجيل الحي هنا الدور الرئيس، وليلة الكف حرة تمامًا لا يحكمها شيء سوى مزاج الكفافة الذين يوقعون بالأكف ويقومون بإلقاء الخانة على المغني ليرتجل عليها، ولا يلتزم المغني والكفافة سوى بالإيقاع والوزن، وإيقاعات الكف مرتبطة برقص الكفافة عليه، وهي ثلاثة إيقاعات أساسية متدرجة السرعة، فالقبلاوي هو أبطؤها ثم التشيلة المتوسط السرعة ثم الإيقاع الأسرع وهو الجنزير، “ويفسر الرواة في أسوان هذه التسمية بأنها مأخوذة من شكل الترابط الذي تتميز به وقفة الكفافة الراقصين، حيث يمسك كل منهم بيد زميله فيصنعون بذلك شكل جنزير متصل الحلقات، ويفسر آخرون التسمية بربطها بشكل الأداء الغنائي الذي يقوم على تسلسل مقاطع الغناء“ محمد عمران، قاموس مصطلحات الموسيقا الشعبية المصرية، ٢٠١٣، صـ ٩٦، والملاحظ أن عزف العود في إيقاع الجنزير يكون في الغالب في طبقة الجواب لمجاراة سرعة الغناء.
وتبدأ ليلة الكف بالصلاة على النبي ومديحه ثم تنتقل حسب مزاج الكفافة، وتنقسم أدوار الليلة بين كفافة كل قرية، حيث يقومون بتتابع القرى بإلقاء شطرة شعرية أوشطرتين في موال موزون (ثلاثي أو رباعي أو خماسي) على المغني الفرد ليرد هو بالارتجال على ذات الوزن والإيقاع، ويُسمى هذا الفعل برفع الخانة حتى لا يندثر تراثنا (فن الكف) http://rekaby.blogspot.com.eg/2013/05/blog-post.html، فالليلة التي تبدأ بمديح النبي تصل إلى التغزل باسمر صغير والغناء للخمر ومطالبة الخمار بفتح باب الخمارة لحن أسمر صغير هو نفسه لحن القمر غرب مال والماري ماريتو، والمقارنة بين الأدائين يوضح لأي درجة أثر دخول العود على الكف في تهذيبه وإكمال شكله الفني، والغناء لليالي الأنس، مرورًا بالمشاداة الطريفة بين مغنيّ الليلة، رشاد عبد العال وأبو درويش في مزج سلس وعاؤه الأساسي الكف والعود والدف والطبلة، فمغني الكف لا يشغل باله، ولا الكفافة يشغلون بالهم كذلك، بالقالب form لذا يأتي مزجهم حقيقيًا وأصيلًا على عكس مزج الفنانين المحترفين المصطنع المشغول بالقالب الفني.
ينتقل الغناء هنا ما بين مربعات شعبية تشكو الزمان “يا عوازلي وشلتي” حين يرفع الكفافة خانة أخرى “جنيت على روحي يا قلبي حرام“، مع تحويلة بمزاج المطرب بآهة طويلة إلى رباعيات الخيام حسبما غنتها أم كلثوم، وينتهي التسجيل بلحن من التراث الشامي هو “بنية يا بنية“، والملاحظ في هذا التسجيل التزام العود دومًا باللحن الإيقاعي وعدم قيامه بترجمة اللحن المُغنى، فألحان الكف تكون إما في السلم الخماسي الإفريقي، وإما في أجناس المقامات العربية tetra chords ولا يتعدى اللحن أبدًا المساحة الصوتية للأوكتاف حتى لو صعد المغني إلى طبقة الجوابات.
بانتقاله للعاصمة، يتغير كل فن فولكلوري ليكون أكثر اتفاقًا مع المتن canonized، حتى لو كان اتفاقه هذا يعني تغيره عن متن الهامش الأكثر أصالة. انتقل الكف إلى العاصمة انتقالين، أحدهما على هامش المتن الثقافي، مع الهجرات المتتالية لمجتمعاته الأصيلة وانتشاره في الأفراح والليالي وشرائط الكاسيت في أماكن تركز الهجرات الجنوبية في القاهرة الكبرى كإمبابة وعين شمس، أما الانتقال الآخر فكان في المتن الثقافي، متماشيًا مع نظرة ابن العاصمة للفن الشعبي بشكل عام، والانتقال الثاني هو الأكثر شهرة والأكثر انحرافًا عن الأصل، فهو يستعير النص التراثي ويكيفه حسب مزاج المتن الثقافي والتجاري، ويمارس تقعيدًا لهذا النص التراثي متناسيًا كونه في الأساس مجرد حامل مرن لكلمات محمولة، فاللحن الشعبي ليس أكثر من إطار عام يقوم المغني بالارتجال عليه، وهو ما يسقط في التسجيلات التجارية سواء تلك التي يقوم بها فنانو الكف داخل الإستوديو أو الفنانون الآخرون.
نعناع الجنينة هي حالة الانتقال الأشهر ضمن تراث الكف، خاصة بعد أن غناها محمد منير، وهي اللحن الأشهر كذلك ضمن طبقات مغنيي الكف أنفسهم باختلاف أجيالهم، فمن جيل اكتمال الشكل الفني (رشاد عبد العال) حتى جيل فناني الكف المعاصرين (سيد الركابي) يحلو للمغنين كلهم تسجيل هذا الدور بكلمات وألحان مختلفة سواء في الأداء الحي في الليالي أو في الأستوديوهات، ويحرص المغنون على نسبتها للتراث الجعفري لمحو الخلط الشائع بين التراثات الأسوانية، حيت يتحول كل تراث أسواني وافد للعاصمة إلى تراث نوبي.
ولمرونة اللحن قلما نجد تسجيلين بنفس الكلمات أو بنفس الإيقاع حتى لو لنفس مغني الكف، حتى الشطرة الثانية المكملة لبيت “نعناع الجنينة المسقي في حيضانه” نفسها تتغير فمرة “شجر الموز طرح ضلل على عيدانه” ومرة أخرى “لما سافر حبيبي سبت البلد على شانه” وتتغير شطرة المربع الأول من “قالت لي باريدك يا ولد عمي” فتصبح “قالت لي باريدك يا وليد العمة” مرة و“قالت لي باريدك يا وليد الخالة” مرة أخرى، وفي هذا التسجيل يرتجل رشاد عبد العال مربعًا للتعليق على تسجيل منير لنعناع الجنينة “نعناع الجنينة منيتي ومطلوبي أحيان أشربه وأحيان أزين توبي غناها منير متألِفة ومكتوبة وغلط لما قال دي من التراث النوبي” مستخدمًا نفس اللحن الذي غناه منير على إيقاع الجنزير السريع، وفي إيقاع الجنزير كثيرًا ما يقترب العود من أنغام السمسمية والطنبورة متقاطعًا مع تراثات البحر الأحمر والقناة.
الانتقال الآخر لدور من تراث الكف لم يكن تجاريًا مثل نعناع الجنينة، بل كان في محيط الفن المستقل، بتناديني تاني ليه، وعلى رغم محافظة دنيا مسعود في غنائها لهذا الدور والتزامها بلحنه أتى الآداء سادة بدون حياة معتمدًا فقط على إلقاء منغم على إيقاع الطبلة، على عكس حيوية الأداء عند سيد ركابي وربيع البركة، وتغير لهجة اللحن بين الركابي والبركة واضحًا، فأداء الركابي يجعل الأغنية أشبه بتجريسةالتجريس فضيحة والأصل في فعل التجريس قديمًا جاء من ركوب شخص بغلة بالمقلوب لإهانته علناً كعقاب أما أداء البركة فيميل أكثر إلى نبرة العتاب رغم حدة النص، مع وضوح لهجة العود في التسجيلين واختلافهما عن بعضهما في الكلمات على عكس آداء دنيا مسعود الملتزم فقط بالطبلة.
كشكل شعبي مرن لم يكن الكف ليغفل السير الشعبية، الدينية و الدنيوية، فرشاد عبد العال يروي قصة إخوة يوسف مرتجلًا على العود في ليلة حية من لياليه، في تسجيل يقوم فيه العود بدور الربابة ويختفي دور الكفافة ودور الإيقاع، بل ينبه رشاد نفسه الجمهور لغياب الإيقاع قائلًا “مفيهاش دَف من أساسه“.
غير إن عُمدة أغاني الكف الدينية هي تسجيلات زفة الحجيج، وهي تسجيلات كثيرة كلها بلحن واحد مع تغيير الكلمات، فمرة يكون الغناء لمياه زمزم عند ربيع البركة، ومرة أخرى يكون الغناء لفاطمة بنت النبي عند جابر العزب، ومرة ثالثة يكون الغناء باللحن الأشهر والأكثر تداولًا، رايحة فين يا حاجة عند محمود جمعة، وفي هذه التسجيلات للحن واحد ثابت، يؤدي العود دورًا لحنيًا إيقاعيًا كما هي العادة في ألحان الكف، لكن مع ترجمة اللزم الموسيقية كما جرت العادة في الموسيقى العربية، دون أن يفقد لهجة الكف الخاصة به.
النزال الشعري أو التحدي كما يسمى في أوساط فن الكف، هو شكل آخر مختلف تمامًا عن حكي السيرة أو الغناء الديني، فهو شكل دنيوي طريف يستدعي للذاكرة النزالية الشعرية التي ذكرها أحمد رشدي صالح في كتابه عن الأدب الشعبي، والتي جرت ما بين السيد علي أبي النصر والشيخ رشوان السواهجي، وفيها تبادل الطرفان الهجاء على وزن موال سداسي، وهو شكل مستمر في جنوب مصر فيما يسمى بالمقاعدة المقاعدة (وتنطق القاف جيمًا قاهرية مفخمة) وهي شكل من أشكال النزال الشعري بين مغنيين يتبادلان الهجاء على أنغام الطنبورة النوبية. محمد عمران، قاموس مصطلحات الموسيقا الشعبية المصرية.
ويحدث التحدي بأن يرفع الكفافة خانة لجر شكل أحد مغنيّ الليلة بقولهم “وآه يا ليل لو مش قديها سيبها وقوم“ من حوار رشاد عبد العال مع عمار الشريعي، واشتهر من تلك التحديات تحديان بين رشاد عبد العال ويونس البرسي، يا وش النصايب ولما كنت صغير ياما جروك، وتعتمد تلك التحديات على سرعة بديهة مغني الكف وقدرته على الارتجال وتوليد الكلمات من بعضها، مثل “ليك منظر وطلعة وسيمة وطالع الفضا والسما وبقي لك قيمة وسيمة“، بالتورية بين سيمة وسما، وتؤدى هذه التحديات على إيقاع القبلاوي الهادئ ولسهولة الارتجال عليه عكس إيقاع الجنزير السريع المخصص أكثر لأدوار سريعة يقوم الكفافة بالرقص أو الدق عليها، ويؤدي العود لزمًا موسيقية طويلة نسبيًا ليتيح لطرفي التحدي تجهيز المربع التالي.
يمكن تعيين ثلاثة طبقات مختلفة من مغنيين الكف، طبقة أولى من رواد اكتمال الشكل الفني (رشاد عبد العال ومحمد أبو درويش)، وطبقة وسيطة من مغنيين شاركوا رائدي اكتمال الشكل الفني في لياليهم، مثل يونس البرسي وربيع البركة (المتوفي في ٢٠١٥)، وطبقة معاصرة من مغنيي الكف (مثل جابر العزب الإسناوي ومحمود جمعة وياسر رشاد عبد العال وسيد ركابي وعبد الواحد البنا) ولكل طبقة ما يميزها وما يربطها بما بعدها.
فالطبقة الأولى والوسيطة كانتا أكثر التزامًا بالشكل الأساسي لتخت الكف المُكون من العود كآلة وترية والدف والطبلة كإيقاع، مع قابلية إضافة أصوات أخرى في تسجيلات الأستديو، مثل صوت الساكسفون في بعض تسجيلات محمد أبو درويش وصوت الزغاريط في تسجيل ربيع البركة لزفة الحجاج، وهو الباب الذي توسع وانفتح على مصراعيه لدى الطبقة المعاصرة من مغنيي الكف، وكل طبقات مغنيي الكف قادرة على الارتجال عن أي حدث معاصر، ففي خانة من خانات نعناع الجنينة غنى رشاد عبد العال “صدرك يا حلا يشبه صواريخ سام” وفي ليلة من لياليه ارتجل ربيع البركة قائلًا “ع الجوجل تلقى مواقع لكن الكف بيحكي الواقع“، ويسجل مغنو الكف المعاصرين تسجيلات كثيرة تحمل نظرة مجتمعهم المحلي لقضايا ما، مثل أغنية بنات الجيل الطالع لياسر رشاد، التي تنتقد الموضات النسائية في صورة غزلية، وهي تسجيلات تلتزم بأرتام الكف ولهجة موسيقاه، ويحدث كثيرًا أن يقوم مغني الكف بغناء أغنية تجارية حديثة لإرضاء جمهوره، وهو أداء يخرج عن الكف التقليدي ويتماس أكثر مع آداء الأفراح الشعبية السائدة، وهو ما نسمعه في غناء محمود جمعة لأغنية إليسا شاغلني وشاغل بالي، أو غناء فتحي المنشاوي لأغنية أحمد شيبة الدنيا ماشية بضهرها، والتغير الأساسي في آداء الطبقة المعاصرة من مغنيي الكف يأتي من اعتمادهم التسجيلات والشرائط مقابل اعتماد الطبقة الأقدم على الليالي الحية، ويمكن ملاحظة ثلاث مدارس أساسية عند طبقة مغني الكف المعاصرين، مدرسة رشاد عبد العال وينتمي لها ياسر رشاد نجل الراحل رشاد عبد العال ومحمود جمعة وآخرون وتعتمد على العود بشكل رئيسي كآلة لحنية وإيقاعية، ومدرسة محمد أبو درويش وينتمي لها في الأداء سيد الركابي وتعتمد هي الأخرى على العود مع الارتكاز على السلم الخماسي في أغلب التسجيلات وافتتاح الغناء بمربع مرتجل مرسل الإيقاع مع تقسيم بسيط للعود وفاءً لتراث النميم، ومدرسة العزب الإسناوي بعد دخول العود على الكف وينتمي لها بشكل أساسي ابنه جابر العزب، فتسجيلات جابر العزب (مثل القمر غرب مال) تعتمد على تقديم الكف في شكله الأولي بدون العود، فيكون الإيقاع هو الغالب على هذه التسجيلات رغم وجود العود، وتتركز هذه المدرسة من مدارس الكف في مدينة إسنا.
أما سيد ركابي وعبد الواحد البنا، فيمكن اعتبارهما لونًا من ألوان الكف المهاجر إلى المتن الثقافي القاهري، فكلاهما يعملان ضمن فرقة تحيي حفلات شهرية لجمهور العاصمة، فرقة الجعافرة بقيادة سيد ركابي في المركز المصري للفنون (مكان)، وفرقة الكفافة بقيادة عبد الواحد البنا في مركز المصطبة للفنون، وهو أداء ينشر فن الكف لجمهور أوسع دون شك لكنه يتحول به لمجرد فن معد سلفًا على عكس حقيقته، فتأخر مرحلة التسجيل أخر الانفصال ما بين مغني الكف أو المنشد الفرد وبين الجماعة، لذا يظل القوّال المفرد اليوم غير منفصلًا عن الكفافة سوى بمسرح مرتجل أقرب لدكة المنشد منها لمسرح أرسطو ذي الحوائط الأربع، ولا ينفصل زي مغني الكف في بيئته الأصلية عن جمهوره، سواء كان هذا الجمهور في أسوان أو قنا، أو كان من ضمن الهجرات الصعيدية داخل القاهرة، فالجمهور يرتدي نفس الجلباب الذي يرتديه المغني، وهو أمر مختلف عن تقديم نفس الفن على مسرح لجمهور منفصل عن هذا التراث، فالجمهور المرتبط بهذا التراث يتدخل في عملية الارتجال نفسها أما الجمهور الآخر المنفصل عنه يعتبر الغناء عملية فردية بحتة تخص المغني وفرقته، وهو ما يساهم في تقعيد الألحان وتثبيتها على عكس الأداء الحي في بيئة الكف المحلية، وهو ما يمكن ملاحظته عند مقارنة أداء عبد الواحد البنا في ليلة فرح أسوانية وأداء فرقة الكفافة على مسرح الضمة، ففي المسرح يتم تعويض الجمهور الحي بفرقة كبيرة العدد لتلعب دور الكفافة وهو أمر يسقط عنصر الارتجال الموجود في الليالي الحية ويفتح الباب لتغيرات أخرى على شكل فن الكف.
لكن يظل هذا الكف وتظل رنة العود فيه مجمعة الأحباب مثيرة الحنين والشجن في شتات هجرات الصعيد داخل مصر أو خارجها، مثل الطنبورة والسمسمية التي جمعت أهالي القناة بعد تهجيرهم، يعرف الجنوبي رنة عود الكف فتصبح دليله إلى أفراح أهله وخلانه، هنا تكون رنة العود الراقصة في إيقاعات الكف الثلاثة، القبلاوي والتشيلة والجنزير، قنديلًا يهدي سواء السبيل للجنوبي الضال، لهجة عود مختلفة ومنسية وأصيلة تعد بحق إبداعًا مصريًا خالصًا لا ينبغي إهماله.