.
لم تعد ثقافة الهيب هوب محددة بنوعٍ واحد من الغناء، أو الأصوات، ولم يعد السامبلنغ هو العامل الوحيد المشترك، ولم يعد الفنانون أنفسهم يكترثون لماهية الخصائص المحددة لصنف أو تقييم واحد لموسيقاهم. عندما بدأت بجمع هذه القائمة، فكرت بـ سكبتا، واي جي، يونج ثاغ، برنسس نوكيا، ترافِس سكوت، وغيرهم من من أطلقوا ألبومات أثارت إعجابي هذه السنة، ولكنني أردت أن أتكلم عن من كسر حواجزاً في الراب، من أطلق أعمالاً هجينة ومبنية على أصالة خاصة بكل منهم. ربما هنالك ألبومات أفضل، أو فنانون آخرون يجدر ذكرهم، لكن هذه اللائحة تتضمن من سيترك حقاً، برأيي، صورته وبصمته الخاصة في عالم الراب.
روابط الألبومات في صور الأغلفة.
ليس هنالك الكثير مما نعرفه عن ناه، فهو من أكثر الفنانين غرابة وتقوقعاً. أطلق عدة ألبومات هذه السنة، بعضها غير مكتمل، بعضها ليس جديداً وبعضها لم أعد أعرف إن كان قد أطلقه فعلاً. هذا أحد أسباب حبي لأعماله، فهو غير مبالٍ وينتج الموسيقى عالماشي. لا يمكنني أن أدّعي أن ألبومه هذا هيب هوب بحت، ولكنه من أكثر الفنانين تأثراً بهذه الموسيقى، كما أنه يسرح ويطوف في فضاءٍ له قواعده الخاصة ولا ينتمي إلى عالمنا هذا، غير مبالٍ لنا أو لأي تصنيف فني أو ربما حتى للفن بمطلقه. الألبوم مكوّن من أغنيتان فقط ولكنه يطفح بالأصوات والمشاعر. لا ينتمي إلى مكان أو صنف، غاضب، شرس، أقرب إلى الجّاز من أي شيءٍ آخر، همجي، يحتك بنا ولا يريح.
أبرا، أميرة الدارك وايف، موهبة صوتية بحتة، وكما العديد من الفنانين في هذه اللائحة كـ فرانك اوشن وآندرسون.باك، لها صوتها الخاص الساحر، وهي ما زالت صغيرة في السن ترفض قول اسمها وعمرها الحقيقي غير مبالية إلا بالموسيقى والفن الذي تنتجه، تتأثر بموسيقى إعادة إحياء بوب الثمانينات Eighties pop revival، تميل إلى الآر إن بي، وهناك تأثير واضح للهيب هوب في عملها. بدأت أبرا كمراهقة – أخمن – بتحميل فيديوهات على يوتيوب كانت تصورها هي حيث تغني أغانٍ مشهورة وهي الآن تطلق إي بي ليس الإي بي الأول لها وتلفت الأنظار إلى موهبتها، وصوتها، وقوة إحساسها. تخلق آبرا صورة واضحة لنفسها خارج الزمان والمكان المألوفين لدينا، نسمع ذلك في موسيقاها ونراه في فيديوهاتها.
من الصعب وصف هذا الألبوم، وكما هو الحال عادة مع كول كيث، إما أن نواكب أفكاره أو نقاومه فنكرهه. وهذا ما يجعله يستحق التقدير، فهو لا يتراجع، لا يبالي ولا يستسهل. بعد عمله المبدع مع لورانج في الـ ٢٠١٥ على تايم أستنشنغ، عاد في ٢٠١٦ ليقدم لنا فيشر ماجنتيك الذي يضرب بأسلوبٍ غير مهذب، غير رقيق، مخدوش، وغير لبق. كول كيث، في الثالثة والخمسين من عمره، يخبرنا عن تعبه، عن معاناته، وعن الهيب هوب. تبرز في الألبوم أغنية سوبر هيرو مع م.ف. دووم، أغنية من المستقبل مع إيقاعات وأصوات متكررة على نمط بطيء متراكم و سلس. الألبوم بأكمله يرمي يده إلى المستقبل من ناحية الأصوات المستخدمة ووجود جهير حاد يرشدنا إلى إستماع مهدئ نوعاً ما، ولكن مليء بشؤم متواطئ وغير مألوف. الموسيقى مكتومة، غامضة، وذات نمط مقلق، مليئة بإيقاعات ضبابية، تحديداً في أغنيتي المفضلة في الألبوم، ورلد وايد لامبر.
الألبوم مبني على مفهوم صلب وجريء، محدّد وسينمائي، فهو يتكلم عن آخر إنسان نجا من ثورة عبيد طحنت الكوكب، صعد على متن مركبة لتأخذه إلى الفضاء. على المركبة، يقع الحاسوب الذي يشغل المركبة في غرامه. لشدة عنف الضجيج في موسيقاهم، يقع أحياناً الألبوم في خانة سبوكن ورد. يجتاحه جهير مُدعم بإيقاعات بليدة ذات نمط عميق وكأنه حلمٌ حالك، أو كابوس لا ينتهي. متماسك كأنه أغنية واحدة خالدة. كاثوليكي، يجلد نفسه ونحن معه، لا يقبع ولا يَتْعَبْ، بل يُتْعِبْ. هو ليس ألبوم نزهة في السيارة، ولا ترفيه، ولا رقص، إنه لكم وحدكم، مع أنفسكم، مع سماعات، تحت باطن الأرض.
لم أقابل أحداً بعد لا يحب أندرسن.باك، وأحد الأسباب هو دفء صوته، لطفه، وكلماته القريبة لحياتنا اليومية. قبل كل شيء، في هذا الألبوم، أندرسن يتحدث إلينا، وهذا مهم. هو لا يعظ، لا يُرشد، بل يتحدث، يتكلم معنا. إنه ألبوم الفصول كلها، حزن الشتاء، وصباح الصيف الدسم. أتذكر أنني عندما استمعت إلى هذا الألبوم أول مرة، كنت جالساً على كرسي خارج شرفتي في آمستردام وأنظر إلى المطر الذي ينهمر على القوارب القابعة على أطراف القناة. أحسست بالوحدة والسلام في آنٍ واحد، كما لو كنت محاطاً بمن أحب، ولكن داخل نفسي. غمرني حنانه، فعلاً، من غير فسحة لأي سذاجة أو ركاكة. غناؤه مليء بنوع نادر من الألم الأنيق، يذكر بقول إميل سيوران، أن الدموع لا تحرق إلا في العزلة.
موسيقاه شديدة البلاغة، من السول إلى الراب. يبتسم الألبوم بخشوع، كمن يخجل من دمعه. رقيق وسهل على الأذنين، لكن عنيف على القلب. هو أيضاً مناسب للرقص في عزلة الغرفة.
ألبوم عن ديستوبيا المستقبل، هل نريد أكثر من ذلك؟ يقدم الألبوم نفسه وكأنه عملٌ منطقي وتعاونٌ سلس بين هذين الفنانين، ولكنهما تحدثا، كل منهما من نظرته الخاصة، عن المشروع وعن الصعوبات التي واجهوها لإكمال الألبوم. يتخيل العمل مدينة ما في المستقبل يتوجب على سكانها حضور اجتماعات الجمهورية. لورانج، واحد من الفنانين المفضلين لدي لتعاملهم الدقيق مع السامبلنغ، يملأ الألبوم بأصوات جشعة مسكونة، يرى هو في الألبوم نظرة ساخرة على من يحاول منع أو حتى تقييم الفن. أما مر لف يرى فيه حقيقة مريرة لا يفصلنا عنها سوى الوقت. الألبوم، كما تعودنا على لورانج، مليء بالإيقاع ولهو أصواته الخاصة من السنير والكيك حيث يبرز تأثره بجاي ديلا. برز لورانج فعلاً في السنوات الأخيرة من ألبوماته مع كول كيث، جريمايه جاي، وستيك فغا، وأعماله الخاصة، من أبرزها الألبوم الذي أطلقه في أواخر الـ ٢٠١٦، الإي بي كوالا.
ينبع هذا الألبوم من جذورٍ مألوفة، وهي راسخة في وجع القلب. هنا تعالج بيونسيه مشاكلها مع خيانة جاي زي لها ويتصاعد الألبوم نحو تقديم نظرة متفائلة ونهاية إيجابية نسبياً في الآخر بعدما تقدم إعترافات وتخبرنا بقصص قد تفاجئنا، لأننا لم نعتد على بيونسيه أن تكون بهذا الانفتاح معنا. هي من الفنانين الذين يخبئون الكثير ولا تشارك عادةً حياتها الشخصية مع الإعلام أو الجماهير.
ينساب الألبوم بين الموسيقى الإلكترونية و ما بعد البوب وهو مليء بأصوات وإيقاعات متأثرة بالهيب هوب، تأخذه وتذهب فيه إلى بُعدٍ آخر. هو آر أن بي أكثر من أي شيء آخر، كما أن له أبعاده السياسية كما في فورماشن وفريدم. يظهر بعض الفنانين الجديرين بالذكر على الألبوم، ككندرك لمار، جيمس بلايك، جاك وايت، و ذا ويك إند. يرافق الألبوم فيديوهات عالية الجودة كفيديو فورماسيون. يسرد الألبوم نفسه كما لو كان فيلماً سينمائياً من عدة أجزاء، فالكلمات تخبرنا قصة تلو الأخرى، والكتابة لها سردية مشهدية جميلة جداً كما لو كنا نشاهد ما تتكلم عنه بيونسيه.
هل هذا هو المتامودرنزم metamodernism؟ هل هي مزحة؟ هل من فرق؟ ومن هو دي جي اسكرو؟
لم أفهم أبعاد هذا العمل إلا حين شاهدته في عرض مباشر. العمل يتعدى حدود خصائص الأصناف الموسيقية المعهودة. يضم الألبوم أعمالاً مع آركا وكذلك ميكاشو، هارباً، بل راكضاً من التصنيفات والأنواع للبحث عن شيءٍ آخر، ، للبحث عن جريمة لم يرتكبها أحدٌ بعد كما يقول دين بلنت. العمل سياسي حاد، نقدي، غامض، تماماً كما هو دين بلنت. مليء بالأصوات، من ضجيج سيارات، إلى بكاء أطفال، هو حقاً كل شيء.
في العرض المباشر، رأيت ضباباً أبيض سميكاً، ودين يعرُج ذهاباً وإياباً كما لو كان نمراً سجيناً، هجيناً، في يده ميكروفون، ينتظر، وفي يده الأخرى سيجارة ماريجوانا تحترق. يملأ الفضاء صوت أوّل أغنية من الألبوم ستيلث إنترو وهي تصرخ في وجهنا “هذا يجعلني فخور أن أكون بريطانياً” وتتكرّر على مدّة خمس دقائق. هو ينتظر ونحن ننتظر، كراهية الذات.
من الفنك إلى السول، مروراً بالهيب هوب وال آر إن بي، بصوتٍ رقيق ثم صاخب، ودوماً نابض، يملؤنا دونالد جلوفر بقوة تمكنه من صنع ألبوم ذو جودة عالية جداً. من الصعب التكلم عن الألبوم بطريقة واحدة مع أنه متماسك ومتجانس جداً. فهو متقلّب، متعدد الهويات ويتسرب إلى كل مكان. مليء بالأحاسيس، مدعّم بأسلوب غنائي وخامة صوتية قويان جداً، متعدد الاتجاهات، يدفعنا للشك من أن دونالد هو من يوهب صوته لكل تلك الأغاني. إنه موهبة بلا حدود، يبرز أيضاً ذلك في عمله خارج نطاق الموسيقى، ولكن أثبت نفسه كأحد العظماء في هذا الألبوم وكذلك أثبت بلاغته في الكتابة. هو ألبوم ناضج جداً، مختلف عن كل أعماله السابقة، التي هي أيضاً جيدة ، ولكن هنا تجتاح الألبوم لغة كونية تطال أبعادٍاً جديدة . صوته الفالسيتو ذو إمكانيات تتعدى الواقع إلى ملعب خيالي من الأحاسيس والترفيه والعاطفة، مليئ بالذات والوعي الوجداني. يدخل في الألبوم الكثير من الزغب على الغيتار، وتفاصيل أصوات إكسيليفو، نتعتري الصمت فجأة وتُنْهِض الحواس، من ثم تهدأ وتعود من جديد. ربما ما دفع دونالد في هذا الاتجاه هو ولادة ابنه، أو ربما أراد الكون أن يهدينا بديلاً عن برنس (عذراً) ولكن هنيئاً لنا، دونالد هنا ليبقى.
حديث أكثر من الحداثة، مليء بنوستالجيا العزلة والوحدة والمسؤولية السياسية التي يواكبها العديد من الفنانين من العرق الأفريقي، ولكن لم يتعامل معها أحد بدقة ورقة كما يفعل فرانك. هو أول من يقدّم الكلاود راب في عمل يطال المينستريم. الألبوم متأثّر بأعمال براين إينو خاصة ويتقلب على نفسه كمتاهة، فكل أغنية تتغيّر متحدية نظرتنا الأولى إليها، ويلعب فرانك بصوته تكراراً إلى ما بعد انعدام وجوده. يتكلم عن الوحدة وغيرها من المواضيع الشخصية و يغمض لنا أعيننا لنسرح مع حنيّة صوْته. إنه ألبوم محزن، من الأفضل الاستماع إليه في عزلةِ سجن غرفة نوم، عند مغيب الشمس في لحظة سطوع صفارها الصيفي الكئيب على حائط الغرفة. أليم، يعترف بإنه مجرد انسان، ويداعب ما يسمى بعالم السينما والأفلام الهجينة، أي حينما يختلط الخيال بالواقع إلى نقطة اللا مبالاة بالخط الفاصل بينهما.
جنس ومخدرات، ولكن من بُعْد آخر. يعرض لنا داني فظاعة حياته الشخصية كعادته من غير حذر، كأنهُ سيقدُم على الانتحار مع كل ألبوم يطلقه. لولا العيب، كنت نسخت ما قلته عن كانيه وطبعته هنا، وأضفت إليه، فهذا الرجل حقاً يملك أكبر خصيتين في عالم الهيب هوب لهذه السنة الماضية. أطلق أول أغنية فردية منه وِن إت راين تحية إلى ديترويت وعالم الرقص الخاص بها، مستخدماً النوستالجيا والريترو. أعلمنا حينها بصخب الألبوم التالي. من عنوانه، التحية إلى جوي دفجن، ومن ثم إلى ناين إنش نيلز اقترح الكثيرون ارتباط عنوان الألبوم بكتابة جاي جي باللارد نفى داني براون ذلك في مقابلته مع The Needle Drop. يصعد ويهبط الألبوم دون إنذار، هو مقلقٌ وثقيلْ ، يتطلب عدداً من الإستماعات الجدّية، مليء بعالم وجدانيّ ذو أطراف حادّة نلمس من خلاله عمل دؤوب ودقيق، منفتح كثيراً، و كأننا نسترق النظر إلى أسرار لا يجدر بنا معرفتها. يُقَدِّمْ الألبوم نفسه وكأنه فيلم سينمائي مبني على المشهدية كما تعودنا على داني وهوسه بالشكل أكثر من أي شيء آخر. إنه ألبومه الخاص بوضوح، له فقط، ونحن مدعوون لمشاهدته عن بعد في جو من الكآبة والغضب وملامسة ديترويت ونبضها القوي. ألبوم مريض، مُعد، يتفشى فيه وحش الحياة، وهو معدٍ.
لم أفكّر مرتين في طرح الألبوم في صدارة اللائحة لأسباب عديدة، القيمة الفنية للألبوم عالية جداً، ثم هناك جودة الألبوم من ناحية الإنتاج، الأفكار الراديكالية، وشجاعته على تكملة العمل لتطويره وتحديثه عدّة مرّات حتى بعد إطلاقه واستماع الناس إليه. خياراته للفنّانين اللذّين ظهروا فيه والمساحة المتاحة لهم تثبت من جديد ثقته برؤيته الفنية ويبرز حب كانيه لعمله وعلاقته المتينة بالفنّ والموسيقى خاصة. في أحد المقابلات قال كانيه أنه يرى الموسيقى كأنها ألوان على قماش. هذا الألبوم جعلني أفهم ما يعني بذلك. لم يمكن الحديث باسترسال عن كانيه دون أن تحرج نفسك. اسمعوه.