.
لنتخيّل أن مظاهرة سوريّة في قرية داعل خرجت تنادي بشعار “غداً يومٌ أفضل” أو “قوم تنحرق هالمدينة، ونعمّر وحدة أشرف” لمشروع ليلى. ولنتخيّل أنه تم العثور على عدّة أطفال من ضحايا مجزرة الحولة وهم يستمعون إلى “بقيت حاوي” لفرقة مسار إجباري.
بعد نهضة الثورات العربيّة، تم اكتشاف الشارع فجأة. فعلى مدار سنين من بناء ما يسمّى بالـ“موسيقى البديلة“، وادّعائها بأنها تمثّل المسكوت عنه وغير المتداول وغير المبتذل والمستهلك، انهارت منظومة البلاستيك الملول، وعادت الثقافة الشعبيّة المعادية للجماهيريّة Pop Art لتستولي على هذا الخراب.
انتبه الموسيقيّ السوري وائل القاق إلى هذه المعادلة مبكراً. ورغم أنه أحد مروجي موجة الموسيقى البديلة في بلده، خاصة فرقة “وجوه“، إلا أن اندلاع الثورة السوريّة وضعته على طريق جذريّ آخر: الأغنية الشعبيّة السوريّة.
بدأ القاق بالعمل على مشروعه في منتصف السنة الماضية 2011. وقتها، تنقّل الموسيقي الشاب بين القاهرة وبيروت، مع استحالة عودته إلى دمشق التي اعتقل فيها ببدايات الثورة، للبحث عن موسيقيين شعبيين، وعن رؤية واضحة للمشروع، وعن تمويل له.
اسطوانة “نشامى: أغانٍ من الثورة السوريّة” هي نتاج هذه المرحلة الشخصيّة من حياة وائل القاق، والتي ارتبطت بخلخلة مفاهيم كبيرة على الأرض، ومنها الموسيقى.
لذلك، كانت مهمّة توثيق الموسيقى الشعبيّة، التي ظهرت في الهتافات، أنبل مهمّة يمكن لموسيقيّ أن ينجزها في هذه المرحلة.
تضم الاسطوانة، التي صدرت في كانون أول/ ديسمبر 2012، 8 أغانٍ سجّلت في أوقات وأشكال مختلفة. أغنية “عيني عليها” التي اشتهرت من قبل عبر المغني الشعبي أحمد القسيم وعازف الربابة شادي أبازيد، سجّلت على ما يبدو في استوديو مرة أخرى.
أما المؤدي الأشهر عبد الباسط الساروت، فيغني أغنيتان: “جنة جنة“، و“يا يمّا“، أثناء مكالمة على الـ“سكايب“، بمرافقة موسيقيين في مكان آخر.
بينما تبدأ أغنية “يا محلاها الحريّة” خاماً كما هي بتسجيل من مظاهرة في حماة على الموبايل، لترافقها الموسيقى طيلة الهتافات. وكذلك أغنية “عالهودلك” من مظاهرة بمنطقة الضمير.
والثيمات واحدة: الوطن الجريح، والشهيد، وأم الشهيد، والجنّة التي تسمى الوطن، والوطن الذي يتحوّل إلى جنازة، والحريّة التي “يا ماحلاها“.
موسيقيّاً، حافظ القاق على الصوت الخام، مرة أخرى، للهتافات. مقترباً من صور المظاهرات المشوّشة المتناقلة على الفضائيّات واليوتيوب. وهو ما دفع بالمسرحي والفنان اللبناني ربيع مروة لإطلاق مصطلح “الثورة المبكسلة” على الثورة السوريّة.
أما المداخلات الموسيقيّة، فبقيت في معظم الأحيان كذلك: ترافق ولا تستولي. تقلّد ولا تفرض.
الأغنية الأشهر “جنة جنة” هي مثال على هذا التقشّف الموسيقيّ المرافق. فلا تشبيح آلاتيّ، ولا تغوّل في ابتلاع اللحن الأصلي.
وكذلك أغنية “يا يمّا“، الأقرب إلى التهويدة، التي رافقت فيها الموسيقى صوت الساروت من على السكايب بنَفَس ارتجالي. والتي جاءت ذروتها في تقاسيم الكمان الأقرب إلى التأثير التركي.
لكن ربما الملاحظة الوحيدة التي تسجّل على الاسطوانة هي شبه إقحام لآلات النفخ البلقانيّة – البراس، على الأغاني.
هل هذا عمل عظيم؟ ثوري؟ بالتأكيد. لكن هل سنجد له أثراً؟ ربما ليس من المهم الآن. المهم في هذه المرحلة توثيق كل هذا التثوير الثقافي الشعبي قبل أن يهدأ الشارع، وتعود قوافل الموسيقى البديلة لتدّعي حماية شوارعنا من الموسيقى التجاريّة.