.
تزخر الثقافات الشعبية العربية بحمولة كبيرة من الممارسات والاعتقادات حول السحر والشعوذة، إذ انتشرت قديمًا ضروب التنجيم والأنواء والكهانة، ولقي المشعوذون حظوة لدى الساسة كالخليفة المنصور العباسي الذي جمعهم إلى حاشيته وطلب مشورتهم. ترسخت تلك الثقافة داخل المعتقد الجمعي وأثرت جانبًا مهمًا من الأشعار والقصص والأغاني. نرصد لكم تسع أغانٍ تناولت معتقدات السحر وقصصه.
تعني كلمة العزّام في العامية التونسية المشعوذ أو المنجم، وينسب إليه الناس قدراتٍ علاجيةً وتمكّنًا من أمور كقراءة الكف وجلب الحبيب وكتابة التعويذات. أشارت أغنية العزّام – التي أدتها نوال غشام في بداية مسيرتها أوائل التسعينات – إلى حضور تلك الثقافة داخل الحيز العاطفي. تتناول الأغنية من كلمات الحبيب المحنوش وألحان الناصر صمود قصة امرأة ملتاعة، لا تجد سلوى بعد هجر حبيبها للديار إلا أن تلتجئ إلى العزّام صاحب القدرات الخارقة. تترجى المرأة العزّام حتى يكتب لها تميمة تجبر حبيبها على العودة: “خوذ دموعي حبار واكتب يا عزّام، عاللي هجر الدار وغرّاته الأيام.”
تحتل الدقازة، قارئة الكف بالعامية التونسية، مرتبة أقل أهميةً من العزّام، فهي امرأة جوالة تجوب الحارات والقرى والأرياف، تنشد في الغالب شعرًا مبهمًا وسجعًا منظمًا لجلب الناس، وتتزين بوشومٍ عدة على الوجه في إشارة إلى تاريخٍ ضارب في القدم داخل الحضارة الأمازيغية، وإلى ارتباطها كذلك بالغجر الرحّل. في الأغنية التي يؤديها الفنان الفكاهي صالح الخميسي، أحد رواد حركة تحت السور في ثلاثينيات القرن الماضي، يقوم بسرد يوميات دقازة تجوب إحدى الحارات وتنادي عليها امرأة كي تقرأ لها الكف. يقلد صالح الخميسي حديثًا بين الدقازة التي تسجّع جملها والمرأة التي تشكيها قلة البخت في حياتها الزوجية، مستعملًا المفردات المألوفة لديهنّ: “بنيتي بيّضلي كفّي (ناوليني نقودًا)” و”السبحة اللي تجيبلي الأماير (السبحة هي التي تجلب لي الإشارات).” تُعلم الدقازة الزوجة المخدوعة بأن زوجها يعاشر امرأةً أخرى غيرها، فتثور ثائرة الأخيرة عند عودة زوجها إلى البيت وتفتعل له المشاكل. يختم صالح الخميسي وقائع الأغنية بمعاتبة الزوج لزوجته على جهلها وانسياقها وراء الدجل الذي أوقع بها.
الأغنية من إحدى التسجيلات الحية القليلة للخميسي، تخللتها تفاعلات طريفة من الجمهور الذي دائمًا ما يمنحه الفنان مساحة داخل أغانيه وكأنه كورس مرافق.
بنفس الروح الفكاهية الحاضرة لدى الخميسي، يبدأ الجراري بسرد وقائع حول الدجال في شكل حكائي يقترب كثيرًا من طريقة عبد العزيز العروي حكّاء تونسي انتشرت أعماله مع بدايات الإذاعة والتلفزة، كان يجمع القصص الشعبية وينقحها ويرويها ومن ثم يشرع في الغناء. يرتاد الدجالون الأماكن التي يكثر فيها الناس لاستمالتهم، ويفترشون على الأغلب حصيرًا صغيرًا يصبون عليه الرمل لإيهام الناس بأنهم قارئو خط، يترصدون في ثنايا وخطوط الرمل ويتنبؤون بالمستقبل وخباياه. الأغنية إعادة تمثيل لمشاهد الدجل المألوفة قديمًا في تونس، أرادها محمد الجراري على لسان أحد الضحايا حتى يعطيها شكل الموعظة. يوهم قارئ الخط الرجل بأنه قدم إليه من مكانٍ ناءٍ خصيصًا ليخبره عن كنزٍ وهمي مفقود في منزله، ويقنعه بأن مفاتيح الكنز لدى طائفة من الجن يعرفهم الدجال حق المعرفة ويسميهم واحدًا تلو الآخر “مرجان وسمسم وتهام”، ويطلق عليهم الخُدّام. يتفنن الدجال في حبك حيلته ويطالب ضحيته بجلب أشياء موغلة في الغرابة بينما يقوم بسرقة ممتلكات منزله، ليترك الرجل يبكي غباءه في تحسر وندم: “نحسب في روحي رجّال عمري ما نحصل في قضيّة، ربطهالي واحد دجال عرّاني واتمسخر بيا.”
يرتبط جزء كبير من أغاني الجراري بشكل المواعظ الأخلاقية، مثلها مثل حكايات العروي، ولقيت انتشارًا واسعًا بفعل حضورها في الراديو والتلفزيون في وقت كانت تونس تشهد فيه بدايات تركيز الدولة، متزامنة مع أوج الدعاية السياسية للتوجه الذي أراد بورقيبة بسطه على البلاد، والذي اقتدى فيه بالنموذج البرجوازي الغربي معلنًا حربه على جانب كبير من الثقافة الشعبية.
من تغريبته بين أمريكا واليابان، يناجي الفنان النوبي حمزة علاء الدين العرافة حتى تقرأ كفه وتزيح عنه حمولةً ثقيلةً من السهر والأحزان وتنسيه المسافات: “يا عرافة لو تعرفي بتشفي لو تكشفي علم الغيب، وحياتك هاك كفي يا عرافة.” الأغنية من كلمات الشاعر السوداني اسماعيل حسن، تلقفها حمزة علاء الدين بعد تخلي محمد وردي عن أدائها، وارتأى فيها تعبيرًا قويًا عن تغريبته. يستحضر الشاعر صورة قارئة الكف في صحاري النوبة التي تمتد من السودان إلى مصر، وحضورها القوي في الثقافة النوبية ودلالاته الجمالية.
تتلمذ القرباوي على يد رائد الشعبي الجزائري محمد العنقة، وأدى قصائد الملحون الصعبة، ومنها الملحمة الشعرية الحراز التي دونها المدّاح المغربي المكي بن القرشي. عاش المكي بين القرنين التاسع عشر والعشرين. كان يجوب أسواق مدينة أزمور الأطلسية وبقية مدن المغرب الأقصى مرددًّا قصائد عامية من نظمه، أشهرها الحراز التي كانت بمثابة قصة / قصيدة، وأشيعت بين الناس باسم العشيق وعويشة والحراز. تدور فصول الحكاية على أرض مدينة خيالية تسمى الهنا. أحب العشيق عويشة ابنة السلطان، لكنه لم يكن ميسور الحال فصده السلطان ونفاه من البلاد عندما تجرأ على طلب يد ابنته. في الأثناء، يأتي رجل من الحجاز إلى المدينة يقال له الحراز الحراز في العامية المغربية تعني المترصد الذي يقتفي أثر الناس ويشاع أنه حكيم ذو قدرات علاجية خارقة، ولكنه في الحقيقة مشعوذ يغالط الناس بوصفات الأعشاب ويعمد إلى الدجل.
ذاع صيت الحراز بين عامة المدينة، فهرعت إليه النسوة لعلاج عقمهن والعوانس لفك عقدتهن، وذهب إليه الجميع لطرد الجن والتبرك. كانت عويشة من ضمن هؤلاء، وطلبت إلى الحراز أن يعيد إليها حبيبها المنفي بأي وسيلة. لكن المشعوذ فَتِن بجمال عويشة، وبدل علاجها تمكن من السيطرة عليها ليوقعها أسيرة سحره. يطمئن السلطان إلى الحراز ويذهب باعتقاده أنه قد شفى ابنته بالفعل، فيمنحه قصرًا أصبح فيما بعد سجنا للمرأة المنكوبة. يرجع العشيق إلى المدينة، وتصله أخبار حبيبته فيعزم على التخلص من الحراز لتحريرها ويكون له ذلك بعد وضع خطة محكمة.
توجد أكثر من قصيدة تغنت بقصة عويشة والحراز، لكن نص المداح المكي بقي الأكثر انتشارًا، تداول على غنائه كثيرون إلى جانب الهاشمي القرباوي كعمر الزاهي.
في مسرحية الحراز التي ألفها عبد السلام الشرايبي وأخرجها الطيب الصديقي خلال الستينيات، تظهر سرديةٌ مغايرة لقصة الحراز في هذا العمل، سردية حملت رؤيةً فنيةً مختلفةً عن القصة الأصلية كما توردها الذاكرة الجماعية. نجح الطيب الصديقي بصحبة مجموعة من الهواة آنذاك الذين شكلوا فيما بعد ناس الغيوان وجيل جلالة في إعادة الاعتبار إلى فن الملحون من خلال المسرحية، ومنها أغنية هكا ماما، عبر إحياء تراث غنائيّ كامل بتصور جديد. يعود أصل الأغنية إلى منطقة صفرو المغربية، وتدور حول قصة حب بطلها شاب يهودي من ضواحي مراكش، أخفت له ابنة خالته تعويذة في الطعام وأصابته بعجزٍ جنسي. بعد أن علم بما دُبِّرَ له وأصبحت حكايته شائعةً في المنطقة، هام على وجهه وسافر إلى مراكش حيث تعرف هناك إلى تاجر فزاره في منزله وأعجب بابنته. مرض الشاب فترة وتداوى في منزل التاجر. تروي الأغنية تفاصيل الحديث الدائر بين الشاب والبنت خلال فترة مرضه ومكوثه في منزل التاجر.
يظهر الغيواني الراحل بوجميع أحكور إلى جانب عمر السيد في أداء أغنية هكا ماما التي كانت بمثابة الشكل الجنيني لموسيقى ناس الغيوان. لا تشير كلمة ماما هنا إلى الأم، بل هي لفظ دلع ينادى به على المعشوقة.
سبقت زهرة الفاسية الجميع في أداء هكا ماما، محافظةً على نصها التقليدي قبل أن يضعها الطيب الصديقي داخل سردية الحراز. تطرقت الأغنية إلى جانب لم يكن حاضرًا في أداء بوجميع وعمر السيد. ففي الحديث الدائر بين الشاب العليل وحبيبته ابنة التاجر، تترجاه الفتاة أن يزور مولاي ابراهيم لفك عقدته الجنسية حتى يطلب يدها للزواج. مولاي إبراهيم الحاضر في النص الأصلي للأغنية هو علّامة صوفي في المغرب، سُميت منطقة جبلية تيمنًا به في جبل كيك الحوز الذي ينتمي إلى سلسلة جبال الأطلس جنوب مراكش. يلقبه الناس بصاحب الفقراء لأن المنطقة تعتبر حتى يومنا هذا مصيف الفقراء الهاربين من قيظ مراكش صيفًا، كما تقام في المنطقة مواسم طقوسية مرتبطة بضريح مولاي إبراهيم الأمغاري الحسني، والمعروف باسم طير الجبال في الذاكرة المراكشية والمغربية عمومًا. يتداول الأهالي عدة أساطير حوله، كوهب بركاته للفتيات غير المتزوجات والعاقرات، فكان ضريحه محل زيارات شعبية واسعة من قطاع المهمشين والفقراء والمتسولين.
في أداء زهرة الفاسية، تظهر هاكا ماما محافظةً على خصائص الأغنية الشعبية المغربية وفن الشيكوري، وهو نوع اختص فيه اليهود المغاربة وعرف بسلاسة جمله اللحنية وإيقاعاته الهادئة بالإضافة إلى مضامينه الغنائية في مواضيع الحب والغرام. تعود أصول هذا الفن إلى ذاكرة اليهود المغاربة بعد الهجرات التي نتجت عن سقوط الأندلس، إذ حمل اليهود والمسلمون معهم مخزونًا موسيقيًّا متأثرًا بالطابع الأندلسي اندمج لاحقًا بالإيقاعات الإفريقية.
يستعيد محمد منير أحد النصوص التراثية المرتبطة بتقاليد الزار وطقوسه في مصر، وهو ضرب من المعتقدات الشعبية التي تغوص في ثقافة استحضار وطرد الأرواح، وتتخذ في أغلب الأحيان وظيفة علاجية. يقوم الزار على أداء راقص عنيف مرافق للإنشاد والإيقاعات، بالإضافة إلى تقديم القرابين كما هو الحال في ثقافة السطمبالي والغناوة المنتشرة في تونس وليبيا والجزائر والمغرب. تكاد تتفق أغلب الروايات والدراسات على أن أصل هذه الطقوس يعود إلى منطقة الحبشة قديمًا، فيما يذهب بعض الناس إلى أن العفاريت والأرواح قد انتقلت من الحبشة واستقرت في بلاد مصر والسودان والخليج. الوظيفة الرئيسية داخل طقوس الزار تتقمصها عريفة السكة، أو الشيخة، المعروفة لدى المصريين باسم الكدية. تتوسط الشيخة حفلات الزار وتقوم بوضع كرسي في الوسط تجلس عليه صاحبة المجلس التي أقيم لها حفل الزار خصيصًا. تبدأ الطقوس بوضع ديك على رأس المرأة الجالسة في الوسط، وتوضع فرختان على كتفيها ومن ثم يتم إنشاد بعض الأناشيد ومنها تك تك مين.
تنتشر ثقافة العين في السودان – ونجدها في أغانٍ مثل سحروك ولا إدوك عين لنجم الدين الفاضل أو سحروك لخليل اسماعيل – في نفس المعجم الذي يتغنى فيها العشاق بجمال محبوباتهم ويطلبون منهنَّ الاحتماء من السحر وعين الحسود: “يسحروك يالسمحة لو شافوا الخدود، ولا شافو الأعين المكحولة سود، خوفي بس يا سمحة ما تصيبك عيون.”