.
ما قالته لي كميليا جبران في لقائي معها لا يزال يدهشني. لا أدري إن كانت تلك الدهشة نتيجة قدرتها على إعادة اكتشاف ذاتها باستمرار في سبيل كسر السقف الفكري المراوغ (فهي بلا شك الشخص الذي يفكك ليبني)، أم نتيجة إدراكها لأهمية مشاركة الحاضر مع الذين تتلاقى معهم فكريًا، أم هي نتيجة شيء آخر. وبالرغم من تلك التساؤلات، فهموم كميليا جبران الفكرية هي بلا شك هموم مجتمع بأكمله، والخوف الذي تدعونا للتغلب عليه هو أكبر من مجرد خوف فرد واحد. في هذا اللقاء ما يدفع القارئ لفهم الواقع من منظور كميليا جبران، وفي هذا اللقاء أيضاً ما قد يفيد الفنان الجاد الذي هو في بحثه الخاص عن مفهوم الواقع وعن صوت أكثر حياداً.
مرحبا. أنت الآن فين؟
كيف الأحوال في البحرين؟
أنت مقيم هناك، صحيح؟
آه صحيح، أنت هناك.
الحمدلله، ماشي الحال.
طيب.
نعم
هذا السؤال بسيط لكن الإجابة طويلة. (تضحك)
دعني أبدأ. بإمكاني تناول السؤال من عدة جوانب. الجانب الأول هو من فترة مش قصيرة، أنا اهتميت بالذهاب إلى المناطق التي لا أعرفها. هذا موضوع ابتدأ عندي من تساؤلات. تساؤلات بكل بساطة وسذاجة كنت أسألها لنفسي وأنا بسن المراهقة. كنت أتساءل حول “شو لازم الواحد يغني اليوم”. وكان هذا في السبعينيات. ومن التساؤلات الأخرى، كنت أسأل “شو الموسيقى اليوم وشو عّم بنعمل؟” وأنا من بيت يحترم الموسيقى التقليدية والتراث، هذا الذي تربيت عليه وتعلمته ونشأت عليه كأساس. وهو كأساس جداً مهم في إعطائي ثقتي لأستطيع أن أسأل نفسي تلك الأسئلة. أي أن الثقة تسلحنا لكي نتساءل. وليس بالضروري أن يكون دائمًا هيك المسار ولكن هيك حصل معي. فمن هذا التساؤل الذي ابتدأ وأنا عمري ١٥ و ١٦، وفي فترة انتشار ما عرف بموسيقى المقاومة والأغاني الملتزمة، والتي بسرعة شكلت لجيلي بديل موسيقي، يا حسن.
كانت بديل لأي شيء ثاني تافه كنا بنسمعه. يعني بحكي عن الناس المهتمة بالموسيقى. بحكيش عن القطاع العام. بحكي عن الشباب إلي زينا كان واعي ومتعطش للثقافة بكل أشكالها، في منطقة معزولة وسجينة، بغض النظر عن مستويات السجن وأشكاله المختلفة. نحن كفلسطينيين كنّا في سجن بقلب سجن بقلب سجن. فبدأت موسيقى المقاومة تشكل بديل موسيقي، بديل موسيقي بغض النظر عن لو كنّا نحب مستوى الموسيقى أو لا. كانت المحاولات التي بدأت توصلنا بدت مختلفة، مثلًا مرسيل خليفة وعوده، كانت ظاهرة مختلفة مغايرة لكل شيء كنّا نعيشه في تلك الفترة. وتجارب مشابهة بمحتويات مختلفة بدت بالنسبة لنا بشائر جميلة. يعني، مونولوجات ومسرحيات وأعمال زياد رحباني، كل محاولات خالد الهبر وأحمد قعبور في السبعينيات، بالنسبة لنا كانت بشائر خير، بإنه “هاه، فيه ناس عّم بتعمل شيء ثاني.” أنا بطبيعة الحال أعجبت بهذه التجارب. وبهذا الإعجاب وبهذه التساؤلات ذهبت إلى القدس، ودخلت أجواء الجامعة. وطبعًا بتعرف لما يكون الطالب صغير وبيدخل أجواء الجامعة ومن ثم يكتشف الكثير وبيبني هويته، وأقصد بذلك الهوية الشخصية والاجتماعية والسياسية والثقافية. فكل هذه التساؤلات بدأت وأنا عمري ١٨ سنة، كنت مثل باقي الشباب الذي يعمل ليكتشف من هو وماذا يريد. بالنسبة للتساؤل الثقافي، كنت جاية إلى الجامعة لـ “أعبي رأسي” (تضحك). وانتقالي إلى القدس سياسياً لعب دوراً مفصلياً في حياتي كوني فلسطينية وُلِدَت في دولة اسمها إسرائيل، وفي دولة تمنعنا من أن نتكلم عن أنفسنا كما شئنا. فذهابي إلى القدس، وخاصة القدس المدينة الفلسطينية التي كنّا نطمح ونحن صغار أن نزورها. احتلال إسرائيل للقدس ولباقي الأراضي الفلسطينية عام ٦٧ أفادنا نحن فلسطينيي الجليل والمثلث المحبوسين والمكتوم على أنفاسنا لأن نلتقي بأجزائنا المشتتة. كنا شباب متلهفين متعطشين سياسيًا، وهذه الخلفية السياسية كانت حاضرة في مرحلة التساؤلات اللي ذكرتها سابقًا.
فانتقلت إلى القدس عام ١٩٨١ وسمعت عن فرقة اسمها صابرين من أخي خالد اللي سبقني إلى القدس بسنتين وتعرف على الفرقة. قال لي “تعالي شوفي شو هالناس عم بيعملوا.” حسيت في لقائي مع صابرين وكأني وجدت إجابة على تساؤلي عن ماذا أريد أن أغني فكان الجواب بأنه هناك فرقة تتساءل ماذا نريد أن نغني، فغنّينا معاً. غنَّينا معاً لمدة عشرين سنة والتي كانت قائمة على هذا التساؤل الكبير عما هي هويتنا الغنائية اليوم. وتمخض عن تلك التجربة أربعة ألبومات بالإضافة إلى الكثير فالكثير من التجارب التي استفدت منها. كانت فرقة صابرين عبارة عن مدرسة بديلة قائمة بحد ذاتها، مدرسة بديلة علمتني وعلَّمَت جيلاً كاملاً.
بدون تضخيم، كنّا كمجموعة نعيش حياة شاركنا فيها عدة أشياء منها أفكارنا وتخوفاتنا وطموحاتنا الموسيقية والتجريب وقلة الإمكانيات والبحث عن حلول. كنا عايشين أسلوب حياة يشابه أو يذكر بمراحل عاشوها موسيقيو الروك في الستينات، لكن بشكل تلقائي، وعلى طريقتنا. أقصد بكل ذلك أن الموضوع لم يكن فقط عن الموسيقى، الحالة أعم من ذلك. كانت ظاهرة تتعدى الموسيقى لكننا عبرنا عنها بالموسيقى أيضاً. ولذلك أقول بأنها كانت مدرسة. في جو احتلال صعب، جو منعدم الإمكانيات تمكنّا من أن نحقق شيء بقوانا. كنا نُعلِّم أنفسنا وكنا نشارك ما تعلمناه مع غيرنا لكن بطرق بديلة وليست مؤسساتية. هذا الذي حصل لي بالنسبة لتجربتي مع صابرين والذي استجاب في تلك المرحلة لتساؤلات بدأت عندي منذ الصغر مع سؤال ما الذي يجب أن نغنيه، وجاءت صابرين جواباً لهذا التساؤل. كان كل ذلك لي ولكل الشباب في صابرين نوعاً من التحدي الذي سرنا فيه، كانت مغامرة ومخاطرة كبيرة. تنازلنا عن كل شيء ثانوي وأعطينا كل طاقتنا ووقتنا لكي نعيش هذه التجربة. فهذه كانت أول خطوة بالنسبة لي في الذهاب إلى اللامعروف، الخفي، والذي يجب علينا أن نكتشفه. كانت تلك الفترة بداية بالنسبة لي وليست نهاية.
بالضبط.
لا، لم يكن ذلك واضحاً في رأسي، بل كان نتيجة تبلورت على مدى عشرين سنة. ما كان عندي وقتها ببالي برنامج إنه والله أنا هلق في القدس في الـ ١٩ وسأدخل فرقة صابرين في الـ ٨٢ وبدي أطلع في الـ ٢٠٠٢”. (تضحك). لم يكن عندي ذلك البرنامج. لكن مع الوقت توصلت إلى نتيجة بأنني أريد لتجربتي الفردية أن تستمر وتأخذ أشكالاً لم أعشها بعد.
الموضوع عبارة عن فرص ومفاجآت تأتينا عبر التاريخ. جاءتني فرصة عام ٢٠٠٢ لأن أخوض تجربة جديدة، وبدون تخطيط. جاء توقيتها طبيعياً. هناك شحنات في التجارب، وبمرحلة معينة شعرت إنه بطارياتي فضيت. في ٢٠٠٢، انتقلت إلى أوروبا واستمريت ببحثي وتساؤلاتي الموسيقية لكن بشكل فردي هادىء ومتواضع. من هنا بدأ خط جديد مبني على كل السابق، مغامرة جديدة لها نكهة مختلفة مع موقع جغرافي جديد: إذاً لقاءات مختلفة، طرق تفكير مختلفة، إمكانيات مختلفة، وآفاق مختلفة. بالأساس آفاق. ومن ذلك الوقت بدأت بمشروع تجريبي أسميته محطات في عام ٢٠٠٢، ومن محطات تطورت الأمور وتوصلْت إلى ما توصلت إليه خلال آخر ١٥ سنة.
نعم.
نعم. الخروج من منطقة الاعتياد. احتجت في تلك الفترة إلى حالة من العزلة، ثم إعادة النظر إلى عدة أشياء. النقد الذاتي في تلك الفترة يكون عالي المستوى، ويكون أيضاً مؤلماً. لكن هذه المراحل كان لا بد أن أمر فيها شخصياً وإلا لن أعمل شيئاً، يعني لو ضليت مبسوطة على الذي أنا فيه ما طلعت أصلاً. لما نترك مكان صغير إلى الخارج المفتوح، يعمينا الضوء أولاً (تضحك)، فنضطر نلبس نظارات شمسية (تضحك)، ونبدأ بالتعود على إضاءات مختلفة. طبعاً، أنا أتكلم مجازياً. فدخلت بهذا النوع من التحدي، بأنني كنت أمام أفقٍ واسعٍ جدًا وليس فقط شارع واحد أو سيارة تاكسي أو مدينة، بل عالم متكامل له قواعده ونجاحاته وإمكانياته، ومن أنا سوى الإنسان الدخيل الغريب؟ كل هذه المشاعر الذاتية نحس بها لما نطلع من مناطقنا. ثم أن الإنسان يحتاج أن يطور نفسه، فالتجربة مش بسيطة. أكيد أريد فعل أشياء أخرى لم أفعلها في فلسطين، وهذا الأمل الموجود حملته أثناء لقاءاتي مع الآخرين، ففتحت تلك اللقاءات المجالات والأبواب. مع فتح الأبواب وتعرفي على موسيقيين لهم تجارب من نوع آخر بدأت أدخل في عملية تبادل فكري وتعلم من ذوي الخبرات المختلفة وإعطاء ما أعرفه أنا من خبرتي المتواضعة. هكذا أستفيد، وهكذا أضيف إلى معلوماتي. ولعلمك، يا حسن، حتى معلوماتي عن الموسيقى الشرقية والتي جئت منها، اكتشفت بأنه يجب عليَّ أن أعمل عليها لأني لم أعرفها بشكل كاف. كان عندي فضول أيضاً أن أعرف خلفيات الفنانين اللي بشتغل معهم – كان منهم الذين تربوا على الجاز أو الموسيقى المعاصرة – شو هي همومهم، بماذا يقلقون، بماذا يفكرون، كيف تحصل عندهم عملية التطوير. فكنت ماشية على خطين بنفس الوقت.
ليس بهذه البساطة. وجدت نفسي أمام حضارة أوروبية مرت بمراحل سياسية وتاريخية لم نمر بها نحن في الشرق ولن نمر بها. الثورة الصناعية لا تحدث مرتين. مقارنة بالحرب العالمية الأولى والثانية، مثلاً، نحن نمر بحروب من نوع آخر. المجتمع الأوروبي تغير بناءً على الثورات التي حصلت في تاريخه، ثورات نحن لم نمر بها، ولذلك نسيج المجتمع العربي مازال كنسيج المجتمع الأوروبي من القرن السابع عشر ربما، أو من الثامن حتى (تضحك). من الصعب وضع خطوط متوازية. قد نجد نقاط تشابه بعيدة، ولكننا في بعض الأحيان نجد نقاط تشابه أكثر قرابة مع موسيقيين مثلما وجدت مع فرنر هاسلر والذي أعمل معه منذ ٢٠٠٢، أو مع سارة مورسيا. تلك النقاط الأكثر قرابة مختلفة لكن حيثياتها تخلق تشابهاً كبيراً، وذلك لأننا في هذا العصر وفي هذه البقعة، فيحدث التشابه، بنفس الوقت يأتي التعبير عنه بشكلٍ مختلف. هناك تشابهات، يا حسن، بيني وبين أصدقائي في الأمور التي تهمنا بالرغم من أنني لم أولد في أوروبا ولا عندي تاريخ مشارك لأصدقائي الأوروبيين. نحن لا نشارك التاريخ، نحن نشارك الحاضر. هنا التلاقي. أنا أتكلم عن التلاقي مع فرنر هاسلر، أتكلم عن التلاقي مع ساره مورسيا. عندما أتعامل معهم، أَجِد تلاقيًا، وليس تشابهًا وليس حتى هموم مشتركة. ما يهمني قد لا يَصب في همومهم. قد لا تكون لهم هموم أصلاً (تضحك)، لا أعرف. هذا التلاقي هو اللي بخلينا نعرف نخلق مع بعض إشي جديد.
موسيقيًا؟
بشكل عام وكمجرد ذكر للمشاريع، أعلى نوع تلاقي حصل معي في أوروبا منذ قدومي ولغاية الآن هو لقائي مع فرنر هاسلر وهو موسيقي مقيم في مدينة بِيرن السويسرية، ولقائي مع سارة مورسيا والتي هي عازفة كونترباص باريسية. هذان اللقاءان تركا بصمة على عدة مستويات، سواء أكانت في المعرفة الموسيقية لأني معهم تعلمت أشياء كثيرة واستفدت كثير من تجربتهم الموسيقية لأنهم شخصان يمتلكان خبرة جيدة وجمالياتهم تعجبني. ففي آخر المطاف، الموضوع يتعلق بالأذواق والجماليات. معهم عملت عدة مشاريع ابتداءً بمشروع محطات ولغاية ألبوم سيخرج في آخر شهر سبتمبر صدر الألبوم في ٢٢ أيلول، ٢٠١٧ بعنوان حبكة. حبكة هو مشروع عملته مع ساره مورسيا بمشاركة ثلاثي وتريات، يشبه في تركيبته ألبوم نول، الذي أصدرته مع ساره في ٢٠١٢. حبكة هو الجزء الثاني من هذا المشروع. بدأنا المشروع من سنتين وأطمح أن يكون عندي جولة عروض لتسويق هذا العمل بشكل لائق. المشروع الذي أخرجته قبل حبكة هو وصل، وهو مشروع أنتجته ذاتياً ونشرته عبر اليوتيوب لأنني في ذلك الحين لم أَجِد شركة إنتاج موسيقى تتبنى المشروع. وصل هو تلاقي الثلاثي، أي فرنر وساره وكميليا. فعبرنا به عن شغفنا المتبادل والقائم بيننا منذ فترة طويلة.
عندي اهتمامات لها نطاق أوسع، والتي تتعلق بالنقل الموسيقي أي نقل الخبرة. من خلال مؤسسة زمكنة والتي أسستها في ٢٠١٤، طموحي هو التعامل مع الجيل الجديد من الفنانين والموسيقيين، أساساً من العرب ولكن ليس فقط عرب. الفكرة من زمكنة هي إعطاء فرص للتعاون مع فنانين عن طريق إعطائهم زمن ومكان للتأمل والتفكير والإنتاج. واحد من مشاريع زمكنة إنتاج عمل موسيقي هون في باريس في خريف ٢٠١٨، مع مجموعة من الشباب اللي تعرفت عليهم أثناء الورشات اللي عملتها من ٢٠١٤ إلى ٢٠١٦ في مدن عربية.
هي ليست صعوبات بل تعقيدات.
موسيقتنا فيها جماليات وفيها بشاعات، وفيها ثقل الانغلاق وانعدام الحرية. نحن الآن في وقت نفهم بأنه تاريخنا فيه فجوات كبيرة، وما ننساش أنه مجتماعتنا مجتمعات مستهلكة، وعقلياتها بائدة. لذلك نبحث لكي نعوض ما فاتنا، وما حرمنا منه، وما نحتاجه. وهذا جزء من التعقيد. جيلنا ينفض الغبار، يكشف عن الكثير من الأشياء، جيل يضيء مناطق معتمة.
أنا ماعنديش قاعدة ولا رسالة أوجهها لأحد. أنا أحكي من منطلق اهتمامي الفردي. كوني استفدت من تجارب الآخرين ومن فرص أتيحت لي، صرت أفكر بأنه يجب أن يستفيد الآخرون كذلك. هذا قرار ذاتي. لكل نوع من الفن جوانب أخرى تثقيفية، وهاي الجوانب إلها معالم أخرى. في الموسيقى في جماليات أخرى غير الصوت مثلاً، وهذه تسمح لنا أن نوصِّلها من دون أن نكون قاصدين. هذا الشيء يتبع نوع الفن نفسه ونوع الموسيقى، ولا أملك قاعدة واضحة له. ما أستطيع أن أقوله هو أنه كوني استفدت معرفياً فأنا أشعر بالمسؤولية، وأشعر بضرورة مشاركة هذه الاستفادة مع الآخرين.
طبعًا. بدأ اهتمامي بالموسيقى الإلكترونية في نهاية التسعينات. كنت آنذاك لا أزال في فلسطين، وصارت لي كم من فرصة لأن أستمع إلى بعض الأشياء المختلفة. كنت كثيرة السفر في تلك الفترة، وهذا سمحلي أتعرف على أشخاص يمارسون الموسيقى الإلكترونية. كانت توجهات معظم الذين تعاملت معهم في التريب هوب والراب وما إلى ذلك، ومع أنني لم أهتم في تلك الفترة بهذه الأصناف، لفتت نظري الموسيقى التي ترافق الرابرز أو المؤدين. من هنا دخلت في الموسيقى الإلكترونية. صرت أعرف كيف أفرق بين الأصناف المختلفة وبدأت أهتم بها أكثر. تعرفي على فرنر هاسلر في بيرن أتاح فرصة الدخول إلى عالم الموسيقى الإلكترونية عن كثب. بدأت بعد ذلك فهم السبب وراء اهتمامي بهذا النوع من الموسيقى. بدأت أبحث عن أصوات غير عادية، غير مألوفة.
لأن الصوت المألوف بالنسبة لي هو سر ذلك السقف الذي اصطدمت به ربما.
نعم، لأنني لا أريد صوتاً يضعني في خانة. بدأت أتساءل كم هي المرونة ومدى الانفتاح الذين أجدهما في الأصوات التي أتعامل معها. فمثلًا، من ناحية موسيقية، أنا لا أريد أن أسمع أصواتاً إيقاعية مألوفة على الأذن.
بل لا أريد صوت طبلة، لا أريد أن أسمع دفاً، لا أريد أن أسمع قانوناً، لا أريد أن أسمع ناياً، ليس لأني أكره صوت تلك الآلات، بل لأن المحايدة في تلك المرحلة كانت شيئاً مهماً من شأنه أن يساعدني في أن أَجِد أشياءً أخرى. علشان هيك قلت لك بأن العزلة والابتعاد ومن ثم إعادة النظر هو مسار أنا دخلت فيه. كل تلك الأمور خضعت للاختبار. في تعاملي مع العود مثلاً، وجدت في هذه الآلة أقرب ما يكون إلى هذا التوجه نحو التحرر من المقيِّدات. ومع الموسيقى الإلكترونية، لو استمعنا إليها بشكل صحيح، فإن رنين هذه الأصوات آتٍ من فبركة إنسانية، أي أن الإنسان هو الذي خلقها. الإنسان احتاج أن يخترع مجالاً جديداً يعطيه أصواتاً أخرى.
أعتقد أن الإنسان هو من اخترع الآلات وهو ما يزال يخترع لأن احتياجاته تتزايد وتتغير. وعندما تتغير احتياجاته ويجد لها إجابات، يبدأ تصرفه بالتغير. ولما تتغير التصرفات بتتغير كمان نتيجتها. وهكذا تحصل الإنتاجات الجديدة، مش فقط في الموسيقى بل في كل شيء. وعلى فكرة، أنا مش شخص ينسف، بل شخص يسائل ويفكك، شخص يهدم لكي يبني من العناصر التي انهدمت ومع تلاقي بعض الأشياء التي ليس بالضرورة أن تكون من نفس الخامة التي أتينا منها. كل هذه العوامل تدخل في هذا المسار، والمحكّم النهائي بالنسبة لي هو الذوق، والذي هو شيء فردي بحت. محكّم آخر هو أنني لا أبحث عن نتيجة واضحة، فأنا لا أعرف. المحكم هو رضائي عن لحن معين أو أغنية معينة أراها في حالة من الاستقرار إلى حدٍ ما، علماً بأن الأغنية لا تبقى مستقرة بالنسبة لي. الأغنية نفسها لو أغنيها اليوم ثم أغنيها غداً، أَجِد أن لها روح أخرى، مع أن مقوماتها هي نفسها.
لا شيء معين يطرأ في بالي.
الشعور بالغربة شيء عادي، ولكن من الممكن التغلب عليه عندما تلتقي مع ناس فكرياً، رغم أنهم من خارج مجتمعك.
قبل قليل كنت أتحدث مع شاب من مصر يعيش بألمانيا والذي هو ومجموعة من الآخرين من القلائل من الوطن العربي المهتمين بالموسيقى المعاصرة الأوروبية Contemporary music. هم موجودون في نفس الحلقة التي تتكلم عنها. عليك أن تجد هذه الدوائر الاجتماعية. كونك شخص يعيش في كوريا الجنوبية من فترة، أكيد التقيت بناس أفادوك وأفادوا تجربتك هناك.
هلق طرأ على بالي الذي كنت أريد أن أقوله كفكرة أخيرة، شيء ملحّ جداً. هناك نوع من الخوف الذي يجب أن نتغلب عليه، هذا الخوف الذي تعلمناه تاريخياً، ورضعناه. هذا الخوف يقول بأنه عندما نخرج من دائرتنا يجب أن نعود إلى دائرتنا، يجب أن نموت في دائرتنا. وأنا أقول العكس تماماً. أنا أقول بأن نخرج من دائرتنا، ونجدد أنفاسنا ومن ثم نعيد النظر بما نريد أن نفعله بدائرتنا الأصلية. نحن نقرر، وليس علينا القبول بما قُرر لنا بدون مساءلة أو تساؤل. مسؤولية أن نفكر، نقيّم، نتعلم، نقارن، نعبّر. أن نعمل على نقل هذه الروح للأجيال القادمة. عالمنا لا ينتهي في بقعة صغيرة حجمها ستين كيلومتر ونصفها صحراء. ومش راح نموت. مش قبل شوية سألتني إيش بدّي أضيف؟