.
ليس الاحتفاء بالحقبة الأموية مسألةً عارضةً في الغناء العربيّ المعاصر. بل يمكن القول إن هذا الاحتفاء هو مسألة جوهريّة تحثّ المتلّقي على القراءة والتفكّر في هذا الشطر من الغناء. قراءةٌ لا تقتصر على الجمالية التركيبيّة للنصوص المنتَجة بل تتعدّى ذلك إلى كونها تستبطن إمكانية كشف وتأويل مجمل الهوامش التي دارت تلك النصوص في فلكها. وهي هوامش ليست مرئيّة بالكامل، بمعنى أنّها هوامش شعوريّة وتحفيزية ملبوسةٌ بالنصوص ذاتها، وقد نتجتْ، في العمق، من تقاطع حقبة إيديولوجية/سياسية مع حاجة نفسية عميقة لتنشيط ذكرى وآثار إمبرطوريّة عربية (الأمويّة) سالفةٍ كانَ مركزُها دمشق.
ربطًا بذلك، لا يمكن فصلُ تصوّرات وقناعاتٍ فكريّة مفترَضةٍ للأخوين الرحباني عن اختيارات نصوص تنشّط ذاك التصوّر عن مركزيّة الشام/سورية/دمشق في سياق صراع مرير بين إسرائيل من جهة، وسوريا. صراع ليس العرب فيه الطرف الغالب بل هم مكسورون بين نكبة ونكسة والتباسٍ في علاقة الفرد بالسلطة لناحية طرائق تعامل هذه السلطة مع مسألة الهوية. في هذا الحيّز، تتكشّف الحاجة العميقة إلى تنشيط تلك الآثار العميقة التي تقيم في الذاكرة النفسيّة للفرد والجماعة، ذلك أنّ دمشق أو الشام أو سورية تظلّ، في نظر كثيرين، تجتمل بالإحالة إلى مجمل حِقبها لا سيّما خلال الحقبة العربيّة الأموية، حقبة الفتوحات، شحنات معنوية عالية من شأنها ترميم تصدّعات عميقة أصابت ثقة الفرد بالهوية والانتماء القوميّ.
إذ نتحدّث عن نصوصٍ قصائدَ غنّتها فيروز للشام، فإننا نتحدّث، على نحو أساسيّ، عن قصائد محكَمة وفائقة الصّنعة. قصائد، في أغلبها، من تأليف سعيد عقل (١٩١٢–٢٠١٤)، وكذلك الأمر، عن مقطوعات شعريّة شائعة لشعراء من الحقبة الأموية لكنها لا تندرج نصّيًا وعلى نحو مباشر في حساسيّة ونبر قصائد عقل المعاصرة، منها ما غنّت للصمّة القشيري بروحيَ تلك الأرض أو لعمر بن أبي ربيعة ألا قرْب نُعمٍ.
فيروز/عقل
يحيلنا الحديث عن فيروز وسعيد عقل، على نحو مباشر، لقصائد رئيسيّة – ثمة ما يقرب من عشر قصائد عن الشام من تأليف سعيد عقل غنتها فيروز – هي سائليني يا شام، وقرأت مجدك في قلبي وفي الكتب وشام يا ذا السّيف ويا شام عاد الصّيف (تلحين الأخوين الرحباني) ومرَّ بي (تلحين محمد عبد الوهاب).
يحيي نبرُ تلك القصائد، بصوت فيروز، تصوّارتٍ مثالية عن الشام. إنه تنشيطٌ للاسم الذي يحيل مباشرة إلى وحدة ما يفترض أنها هي المزاجُ والصلةُ النفسيّة بزمان كانت فيه الشام/دمشق، واقعًا، قلب الأرض وجوهرة المدن. إنها تصوّرات سوف تكون قابلة، بالصوت والقصيدة، لإعادة بثّ خيالات ينبغي أن ترسُخَ في الذهنية العربيّة بمعزل عن واقع راهنٍ قد لا يلائم، بالضرورة، ذلك المخيال. وكما أن هشامَ بنَ عبد الملك، الخليفة الأمويَّ قد ألحقَ الدنيا ببستان بني أمية الشاميّ فإنّ نبر هذه الأغنيات، إذ تخرج من حنجرة فيروز، قابل بالضرورة لإلحاق أذهان المريدين والمتحفّزين واللائذين بالأثر والذكرى والصوت، ومن ثمّ وصلهم، على نحو متجدّد وغائيٍّ، بالحساسيّة العربية الأموية المؤسِّسة، بالشام.
أهْلكِ التاريخُ مِن فضلتهم\ ذكرهُم في عُروة الدهر وسامْ\ أمويُّون فإنْ ضقتِ بهم\ ألحقُوا الدنيا ببستان هشام)، غنّتها فيروز لأول مرة، في معرض دمشق الدوليّ أوائل الستّينيات من القرن الماضي).
أنتجت هذه القصائدُ مغنّاةً، مجالاتٍ حيويّة للاستثمار الإيديولوجي/السياسيّ، إذ أنّها نصوصٌ قالها الشاعر في حقبة حسّاسة من تاريخ سوريا. حقبة تتيح للمتلقي أو لأيّ ناقد تلمّس إمكانياتها الجمالية ومن ثمّ دلاليّتها المضاعفة مَقولة ومغناة. وهي نصوصٌ تمثّل موضوعا جاذبًا بشدّة للسلطة والنظام السياسيّ لجهة محاولات ترسيخها، على نحو ضمنيّ وعلنيّ، باعتبارها أغانيَ/أيقونةً لا يحبَّذُ مسّها نقديًّا عبر التعرّض لمجمل السياقات التي أوصلت التجربة إلى هذه المكانة. نعني بالنقد مختلف الآراء، متخصّصة كانت أو مزاجية، والتي ربّما من شأنها خدش الأيقونة في عليائها والتعاطي معها كأية تجربة غنائية معاصرة. لا يعني ذلك أنها أغان قد ألّفتْ، بالمطلق وحصرًا، في سبيل تمجيد رؤية إيديولوجية مرحليّة في سوريا، لكنها لم تكن، في مشهديتها وحضوريتها وسطوتها في المجال الشامي العام، قابلة للتفلّت من شرك ذلك الاستثمار.
تلائم هذه النصوص، إلى حدود قصوى، خصائص صوت فيروز. كأنّ حساسيّة تلك النصوص وحاجتها، مجازًا، لأن تغدوَ مسموعة ومغنّاة قد شكّلت الجاذب الخفيّ للصوت الفائق نحوها. نتحدّث عن نصوص تقيم المتلقي في نوستالجيا المدينة/الهويّة. لكنّها النوستالجيا التي تؤدي، عبر مزيجٍ من معاني التمجيد والتفخيم والتغني المثالي بالماضي وتفاصيل الأماكن والشواهد دورًا في تخدير واقع الانكسار. هنا، تكون التراكيب الشعرية في حاجة ماسّة إلى الصوت العذب الغائر بطبقته كي يتعالى بالجملة الشعريّة نحو سقوفٍ جماليّة شاهقة. سقوفٌ يصير من الصعب معها التعامل مع هذه النصوص، مغنّاةً، على نحو يتمّ فيه نقد الفكرة أو الإحالة أو حتى تقنيّات التركيب اللغويّ والاستخدام.
بطبيعة الحال، ليست قصائد هذا الشاعر اللبنانيّ الإشكاليّ نصوصًا تقليديّة وإن توسل بها الشاعر بحورًا خليلة شائعة. إنها قصائد متينة لا يمكن فصلها عن نظرة عقل العامة للكتابة وتقنيّته في تطويع اللغة والشعر من رومانسية تأليهيّة تعيد سبك الألفاظ العربية الفصيحة المنتقاة بعناية، وإدراجها في آلة عقل الكتابيّة والتي تعكس بقدر تصوراته العامة عمومًا والإبداع على وجه الخصوص. فاللغة، عند عقل، إمّا شحنة للشيطنة أو تعويذة واختراعٌ لأيقنة الشخوص والأفكار. وإلى ذلك، فإن هذه النصوص ليست، من الناحية التركيبيّة نصوصًا تقليديّة. نتحدث عن تجديد أسلوبيّ يمكن تلمّسه في القصائد المغنّاة لناحية جعل عقل بعضَ التقنيات الشعرية المرذولة تقليديًا في بناء القصيد حاجة جمالية، مثل تقنية التضمين التي تساهم في جعل النص روحًا واحدة، أو تقنية تكثير الجمل الفعلية القصيرة في البيت الواحد، أو الانتقال الفجائيّ من صيغة اسمية إلى صيغة فعلية في مدى زمني قصير يخطف نفس القارئ. (انظر قصيدة مرّ بي يا واعدًا وعدا). في مثل هذه الأحوال، يصير التلحين مهمّة شاقّة ينماز بها الملحّن المُجيد عن سواه في القدرة على تأليف الجمل والأبيات وترتيب النبر والأنفاس بحيث لا يتشتّت ذهنُ السامع ولا يُلقَى خارج المزاج.
نفهم، بناءً على ما تقدّم، التأسيسات التي تجعل صوت فيروز، أو تجعل فيروز/الرمز، مقيمةً في المزاج السوريّ على نحو يفترق ويفوق حتّى حضوريتها في بلدها الأمِّ لبنانَ. ليس ذلك بالضرورة مديحًا أو تفضيلًا للبيئة السورية في علاقتها بالصوت الفائق، بل هو توصيف يفترض أن يكون مفكَّرًا فيه على نحو يعيد نقد ودراسة المسار الغنائيّ العام للتجربة وأنماط التفاعل مع الصوت والتجربة في غير بيئة عربيّة. لقد غنّت فيروز العراق (عيناكِ يا بغداد) فضلًا عن أنها غنّت غيرَ بلد عربي عبر نصوصٍ لا يمكن الاستهانة بجودتها وجماليتها، لكنّ ذلك الغناء لم يندرج طبعًا في سياقٍ يقارب مستوى علاقة التجربة الغنائية بالشام وسوريا. كما أنّ قصائدها، في غير الشام، لم تحتمل، بقدر كبير، تلك الحساسيّات التأويلية التي تتيح جرَّ الغناء إلى مربع الجدل الفكري/الإيديولوجيّ العام، أو تتيح الرؤية إلى علاقة الصوت، بالمتلقي العربي (الشاميّ)، بالمجال العام في البيئة الشامية المخصوصة، من منظور معقّد ذي جاذبية عالية للدراسة.
لقد نجحت تلك النصوص المغنّاة بصوت فيروز طيلة عقود، في كونها سلطة. ومفردةُ السلطة، في هذا السياق، ليست، تعبيرًا عن إكراه معنويّ ذي سمة قمعيّة بطبيعة الحال بل هو ائتلاف هوامشَ اجتماعية مُهيْمِنةٍ حول التجربة أتاح للصوت تكوين سلطته النفسية وحضوريته المؤزّرة بالذاكرة والأثر. كلّ ذلك، جاء متوائمًا مع إبداع تلحينيّ وعبقرية في انتقاء الأبيات واختبار النصوص. سلطة تمسح، مرارًا وتكرارًا، كلّ خدوش النقد وتصدّ أيّ نزوع فردي للتشويش على الأيقونة في البيئة الشاميّة المعاصرة.