.
قبل أكثر من عام، كان وائل القاق يجلس في مقهى “جروبّي” بالقاهرة باحثاً عن موسيقيين “شعبيين” للبدء بإنجاز مشروع حول هتافات الثورات. عرف القاق المعادلة باكراً: الموسيقى البديلة مقابل الشعبيّة. هو الذي كان أحد أيقونات موجة الموسيقى البديلة في بلده انتبه إلى أن “يا حلالي يا مالي” تأخذ مكانها الطبيعيّ في الهتافات بدلاً من أغاني “كلنا سوا” و“إطار شمع” وغيرهم.
1
المقدمة “الدخول” بدأت بأهزوجة: “من حوران هلت البشاير، لعيونك يا شعب يا ثاير“. وهو لحن محلي أصلي عبارة عن “جوفيّة” حورانيّة تنعى عهد التزييف: لحن أصيل مرتاح آتٍ من سهل.
أما الإيقاع فهو جبلي مشدود يكشف عن نبرة تحدٍّ ومحاكاة السهل للجبل. إذ غنّى الناس الثورة، فاستجاب الشعب. ومحاكاةً بين نسيج العمل الفني/ الوجودي، يأتي اللحن من درعا، والصوت من دوما: “يا درعا حنّا معاكي للموت“.
وهذا ما هتفه الدوامنة قولاً وغنّوه فعلاً. واللحن موجود وحيّ تتكرر ثيمته الأساسية في الوطن: يا دوما بانياس معاكي للموت.. يا بانياس حماه معاكي للموت“. فالدير وحمص واللاذقية، قامشلي، فدرعا. كل البلد مع البلد للموت!
2
مشهد من الثورة
المشهد (؟): الجنازة
الشهيد: المغني
المشيّعون: الجمهور
لحن الوداع: أغنية الشهيد، موال: “قال لا تلعب على الوتر يا (شخصيّة سياسيّة) قلنا ونضل نقول: “الموت ولا المذلة“
فإذاً الموال حموي و“ليس حلبي“. والقالب حمصي واللحن درعاوي
استشهد المغني “المنشد” وهو يغني “طقطوقة” الثوار “الموت ولا المذلة“.
3
بعد سنيين من التشيّيل على أقبح الأصوات والمعدات الفاخرة، تنعى حناجر المتظاهرين في سوريا السلّم الرقمي المعدل على الأورغ. هذه الأصوات “المعلّبة” التي تستهلك وتجتر. حتى أتت أصوات المتظاهرين لتصدح بالعالي معلنةً مقاماتها الأصلية وقوالبها الغنائية الشعبية؛ منها السبعاوي والخمساوي.
والردّيدة “محاكاة بين المغني والجمهور “المتظاهرين“.
وهو أداء بسيط بنشازه وعفويّته، مرآة للمقام الأصلي وتعريباته الذي يرفض الفناء كما يرفض الجماد والتجميد. مع إيقاعه الثابت الموزن، مشكلّاً موروثاً كاملاً متجانساً ومتكاملاً كان مخفيّاً، فشعب سورية اليوم كله يغني من كان يصدق ما نسمع.
إنه يموت فيغنّي، يموت فيغنّي، يموت فيرقص في حمص رقصة الموت ثم يتابع الغناء على نفس المقام.
ولأن الأغاني الشعبية نُسِفت، حيث لا مكان لنجم أو محبوب، فكل المحبة والنجومية والنجاح بسلطة المخابرات على المجتمع تتلخص بكلمة “القائد” وحده لا شريك له.
لم نعد نسمع أغاني نجاح سلام ونجيب السرّاج ورفيق شكري ولا حفلاتهم الشعبية “الحاشدة” ولا حتى أسمائهم. فالتجمع ممنوع والأسباب أمنية. ولا أغنية اجتماعية ناقدة.
فالنقد ممنوع لأننا في طورائ، ولأننا في طوارئ ولا حتّى مديح القضية مسموح، فالمديح لأرباب المقاومة والممانعة، و“الدولة” هي من تفرز وتعلّب وتقرّر.
طيب.. شو بدن يألفوا الجماعة؟
إذاً نحن أمام معركة بين الطبع: “الموسيقى الأصليّة في أهازيج وأغاني الثوار“، والتطبّع في “الموسيقى البديلة في عهد الإصلاح“.
وهنا عند استحضار الأصلي الذي طال غيابه، لطالما كان السؤال: وين المجوز؟ وين الشبّابة؟ وين الربابة؟ وين المزمار؟ وين الطبل العربي؟ هل جوقة الآلات الشعبية لا تصب في مصلحة المقاومة “الثقافية الشعبية على سبيل المثال“؟ أو أن “أورغ ودربكّاتي وديك” يحلّون مكان الإرث الشعبي كاملاً إذا ما حلّلنا الموضوع من وجهة نظر بعثية على سبيل المثال أيضاً؟
أمّا من وجهة نظر الشعب: اليوم في سورية وشوراعها آلاف المغنيين والمنشدين والعازفين وطبّالة العرب عرب: هنا تجري عملية إحياء كاملة.
للمقام المحلي “النوري“- والمعنى نوعيّ وليس شوارعيّاً– والعملية هدم فبناء. الارتقاء بـ/ ومع الحراك الشعبي بمن حضر.
إيقاعات على طبول النصر: “من أول ضربة بتعرف الأغنية سوريّة“. إذاً نحن أمام إنجاز جديد لنسمّيه “الخصوصية” وبالتالي: الهوية.
وللنجومية نصيب. فابراهيم القاشوش الشهيد غنّى بمئات الآلاف وفعل ما لم يفعله من تربّع عرش النقابة لسنوات وكيلاً حصرياً للفن.
إذ نصّب المتظاهرون ابن حماه مغنّياً الشعب بين يوم وليلة. وذلك من خلال لحن واحد بسيط محلي صادق، وكلمتين من القلب ومكبّر للصوت. حتى أصبح هناك “قواويش“، فالمرحوم أصبح أسلوباً.
قبل 2011، لم يكن لي أن أكتب إلا عن الموسيقى الكلاسيكية و/أو ما سمّي بـ“البديلة“. ذلك في حدود أقصاها تلك التي تعيش أعلى مسرح الأوبرا الرئيسي في دمشق، ليؤمّها روّادها وجمهورها “النخبة” الذين لا يتعدّون بضعة آلاف.
استعدوا أيها المستمعين: إنها الموسيقى الشعبية.