.
النص التالي ترجمة مختصرة لمحاضرة مشتركة للكاتبين ألقيت بالفرنسية في باريس عام ٢٠١٢ (يشي التاريخ بنبرة التفاؤل التي كانت سائدة آنذاك) ونشرت بالإنجليزية لاحقًا في كتاب Music, Power and Liberty. يتسنى اختصارها، وبالتالي إدخال بعض التحوير عليها، لعدم ضرورة الإطالة في تفاصيل مألوفة لدى الجمهور العربي.
في البدء كان التنبه إلى أن أغنية ثورية سبقت أو عاصرت كلاً من المراحل العاصفة الثلاث في مصر منذ العقد الثاني من القرن العشرين إلى اليوم. فالأغنية الثورية جزء من التقليد الغنائي الشعري المصري، دون أن ننسى المحاولات المعاصرة في الغناء المعترض على الوضع الاجتماعي والسياسي، إلا أن بالإمكان التعمق والإشارة إلى مساهمة التراث الموسيقي في هذه الأغنية الثورية وكيف تفاعلت مع الإسهام الشعري الثوري.
شهدت المرحلة الأولى ظهور سيد درويش مع توأمه بديع خيري (على ألا ننسى المظلوم الآخر أمين صدقي) بالتزامن مع ثورة ١٩١٩. قبل سيد درويش كان الغناء الوطني مقتصرًا إما على المارشات العسكرية أو على قصائد المديح في الزعامات المغناة على أصول طرب عصر النهضة. حرر سيد درويش هذا الغناء من نبرته العسكرية وأدخل جملة موسيقية حيوية وقصيرة ثرية في مناخها المقامي وفي التلاعب المرح مع كلمات مكتوبة بالعامية، مميزاً بذلك أغنيته على الصُعُد الثلاث معًا عما سبقه.
شكّل استخدام سيد درويش للمسرح أساسًا لعمله ذي النبرة الانتقادية سياسيًا واجتماعيًا قطيعة مع النموذج الذي فرضته شركات الأسطوانات منذ مطلع القرن العشرين وحتى ظهور الإذاعة في الثلاثينيات، وإن شكل نجاحه المسرحي حجة تجارية أقنعت الشركات بالتسجيل له. فالمسرح كان الفن الطليعي آنذاك وكان يسمح بالتعبير عن أوضاع ومشاعر أوسع من انحصار الطرب الجمالي في المجال العاطفي. ولئن كان الشيخ سلامة حجازي طليعة من حاولوا المواءمة بين المسرح والغناء التقليدي المتقن، فإن اجتماع الفن المسرحي إلى التطورات السياسية والاجتماعية في مصر وبزوغ الشعور الوطني في أواخر القرن التاسع عشر وصولاً إلى ثورة ١٩١٩ ودور الحرب العالمية الأولى في تسريع هذه التفاعلات، سمح لعبقرية سيد درويش بأن تلمع وأن تستخدم الطقطوقة غالبًا كحامل للمشروع الثوري من خلال كلمات بديع خيري والمواقف المسرحية الساخرة المصورة لمختلف جوانب العيش في الريف والمدينة.
في مونولوج الكوكايين مثلاً، تتم إدانة استخدام المخدر. غير أن لاغرانج في أطروحته للدكتوراة Musiciens et poètes en Egypte au temps de la Nahda 1994 مثلاً ينظر إلى النقد السياسي، وليس فقط الاجتماعي، الموجه في هذا المونولوج، حيث تساهل الحكومة في منع تهريبه ومن ورائها الاحتلال الإنجليزي هو مصدر الخطر. هنا يدخل سيد درويش في هذه الأغنية انتقالاً من الغناء الفردي إلى الجماعي وتغييرًا إيقاعيًا داخلها، شبيهًا بما يقوم به في أغنية التحفجية عند الانتقال إلى جنس العجم وإلى إيقاع مارش عسكري عند الحديث عن التأهب عند حاجة البلد لمدمن الجوزة، قبل أن يعود في قفلة الختام إلى نكتة “الجماعة الفايقين” على مقام الراست وبغناء أكثر تطريبية للتشديد على هذه السخرية. هذا شأنه في مواضع كثيرة، حتى يقول الكاتب يحيى حقي في كتابه تعال معي إلى الكونسير، مع الكاريكاتير في موسيقى سيد درويش عن مسرح سيد درويش “إن عبقرية مصر في الكاريكاتير لم تتجلى في الرسم أو الأدب أو النحت، بل في الموسيقى”.
جملة الشيخ سيد درويش وفية لإرثها المقامي، لأن انقطاعًا تامًا معها سيجعل حفظ واستملاك المستمعين للأغنية ولمضمونها مستحيلاً في زمن لم يكن فيه، سوى الأسطوانة، غير الذاكرة وسيطًا. كان إطارها المسرحي وحيويتها الإيقاعية أساسيين في انتشارها السريع، لا سيما وأن المسرح الغنائي كان يمثل التطور الحديث في حقل الغناء مختلفًا عن السائد والتقليدي، حسب ما قال داوود حسني مذكور في كتاب عبد الحميد توفيق زكي، سيد درويش في عيد ميلاده المئوي، ١٩٩٢ في رده على تقرير كورت ساكس الذي تجاهل فيه كل الأنماط الموسيقية التي كان نادي الموسيقى الشرقية يرفضها آنذاك. والحق إن قطيعة موسيقى سيد درويش كانت مع التوجه الدوغمائي للنادي بقدر ما كانت مع الجماليات التي جمدتها تسجيلات شركات الأسطوانات.
بين هزيمة ٦٧ وانتفاضة الخبز في ٧٧ تولى الشيخ إمام مع شعرائه، وأبرزهم أحمد فؤاد نجم، موضوع الأغنية الثورية مندرجين، بحسب فريديريك لاغرانج لاغرانج عن الشيخ إمام: Musiques d'Egypte, 1996، في الأفق الذي افتتحه سيد درويش وبديع خيري وبيرم التونسي. بدلاً من تملق عبد الناصر والسادات، كما فعل كل المغنين الآخرين في تلك الفترة، التزم الشيخ إمام نقدًا لا يكل لعقلية الحكام وأدائهم وللديكتاتورية، وأمده أحمد فؤاد نجم بالنصوص الساخرة، في حين أعطاه شعراء آخرون مثل نجيب سرور ونجيب شهاب الدين نصوصًا شعرية أعقد وأغنى. كان مشروع التغيير الذي يحمله الشيخ إمام وشعراؤه أكثر راديكالية من النقد الاجتماعي الذي حمله سيد درويش، هادفًا إلى تغيير جذري في المجتمع المصري والعربي. وكانت أعمالهم على قطيعة أكثر جذرية مع المثال الجمالي السائد في زمانهم والمتجسد في دور أكبر للملحن على حساب المؤدي، وتقنين وتقليل مساحات الارتجال، ومنح أهمية متصاعدة للتوزيع الأوركسترالي ولصوت الفرق الضخمة خلف نجوم فتحت لهم أبواب الدعاية على مصاريعها في التلفزيون والراديو والسينما.
في مواجهة هذه الآلة الإنتاجية الهائلة، كان مغنٍ كفيف مع شاعره وجمهوره بطانةً له، وبيده عود وبقربه دف، نموذجًا على جمالية رافضة للنظام الموسيقي السائد، كاسرًا قوالبه. استوحى الشيخ إمام التراث الموسيقي الطربي الذي تشرّبه صغيرًا ولحّن أغنيات ثرية مقاميًا وإيقاعيًا. كما استلهم من موسيقى سيد درويش، والموسيقى الدينية، وإيقاعات وأنغام المناسبات والاحتفالات الاجتماعية فكوّن وعمّق وأنشأ عالماً موسيقيًا كان هو فيه المطرب المنفرد والمهرج والحكّاء والكوميدي وفنان الإيماء والممثل، متلاعبًا بالشخصيات التي يهاجمها بالسخرية والكاريكاتير والمحاكاة اللاذعة.
استخدم الشيخ إمام صوته القادر وتقنيته المحدودة على العود لإنشاء جماليات فقيرة بالمؤثرات الصوتية وغنيّة بالارتجال والمعرفة العميقة بالتراث وجامعة لتقنيات الموال والارتجال مع حيوية الموسيقى الشعبية وضحكات الجمهور المستمتع والمبهور.
علاوة على القطيعة السياسية والجمالية، المتكئة على الإرث الموسيقي لتصل إلى جمهور واسع، كان الشيخ أيضاً على قطيعة مع نظام الإنتاج الموسيقي آنذاك المعتمد على الراديو والتلفزيون والسينما. فوصل الشيخ إلى جمهوره في مصر والعالم العربي على كاسيتات مسجلة في أمسيات وقعدات محدودة، منسوخة ومهربة في كل مكان. استخدام الكاسيت الذي لم يكن آنذاك بعد صناعة ضخمة على ما صار في الثمانينيات سمح أيضاً للشيخ المطرب، بأن يسجل طربه وارتجالاته وأن يصل إلى الجمهور المتلقف لطربها المرتجل كما لأغنياته الكاريكاتورية القصيرة، بخلاف سيد درويش الذي لم يكن لديه، كما أسلفنا، سوى ذاكرة الجمهور لنشر إنتاجه بسرعة.
بحلول العام ٢٠١١، مع ظهور الفرق المستقلة والميديا الجديدة على الإنترنت، ظهر أيضًا جديد في مجال الغناء الثوري من خلال حازم شاهين ومصطفى سعيد، وكل منهما ذو دربة وتعليم في مجال الموسيقى المتقنة والغناء الثوري. وكل منهما على حدة قاطَع المناخ الموسيقي السائد قبل ٢٠١١ والمعتمد على الفيديو كليب وتوزيع أغاني البوب اللاهثة وراء المؤثرات الإسبانية والتركية والأميركية والفقير المحتوى المقامي والميلودي. استوحى شاهين على عوده تقنيات المدرسة السابقة (مدرسة سيد درويش والشيخ إمام) معتمدًا على نصوص أجيال ثلاثة في عائلة واحدة، والد الشعراء فؤاد حداد فابنه أمين حداد وحفيده أحمد. رغم ذلك فإن نصيب الأسد من شهرة فرقة اسكندريلا ومن تسجيلاتها كان، لغاية ٢٠١١، مرتبطًا أساسًا باستعادة أغنيات لسيد درويش وللشيخ إمام.
أما سعيد فبحكم تدريبه الصوتي توجه إلى مدرسة المشايخ والطرب واضعًا إمكاناتها في خدمة المحتوى الشعري الثوري، في أغنية مثل يا مصر هانت وبانت التي وضع كلماتها تميم البرغوثي، وأغنيات أخرى استكشف مصطفى إمكانيات استخدام الطرب المشايخي في إطار الأغنية الثورية. اعتمد مصطفى وحازم أساساً على نشر هذه الأغنيات المناهضة لحكم مبارك، مبتعدين عن شركات الإنتاج الكبيرة وتلفزيونات الدولة وفضائياتها، ولم يجدا من ينتج لهما فيديو كليبات مثلاً، بل اشتهرا من خلال حفلات في مراكز ثقافية معزولة، ومن خلال استخدام الوسائط التي أتاحها انتشار الإنترنت كالفيسبوك واليوتيوب وصولاً إلى لحظة التواصل المباشر مع الناس المنتفضين ضد السلطة الحاكمة في ٢٠١١.
يشير جان بابان 2005 tradition' in encyclopedia universalis إلى أن التقليد لا ينحصر في المحافظة على ما فات، بل يهضم الجديد ويؤقلمه مع القواعد القديمة، في حين يقترح جان دورينغ Quelque chose se passe. Le sens de la tradition dans l'Orient musical 1994 تمييزًا بين نوعين من التقاليد: تقاليد المحاكاة والتكرار، والتقاليد الرفيعة التي تمنح المتدرب عليها، إلى جانب النماذج المحفوظة، المعرفة اللازمة لإعادة صياغة هذه الأعمال ولإنتاج الجديد المتوافق مع النماذج الموروثة والقواعد الضمنية بحيث يضاف هذا الجديد باستمرار إلى الموروث.
من المعلوم إن المفاجأة باجتراح غير المتوقع والحرية ضمن القواعد الجمالية الناظمة من شروط الموسيقى التقليدية في مصر. بهذا مثلاً تم تطوير الأغاني البسيطة إلى أدوار معقدة البنية والجمل. بهذا أيضاً نشأ الفن الثوري. فبدلاً من تكرار الدعوة السطحية إلى الثورة، كان الإنتاج الموسيقي الثوري متكئاً على قواعد جمالية واضحة وعلى مضمون شعري يهدف إلى صياغة نموذج جديد متمرد على مختلف السلطات، السياسية والمؤسساتية وكذلك النقدية والاقتصادية. أي أن المفارقة تكمن في أن على الإنتاج الثوري أن يقطع مع النماذج السائدة دون أن يتسبب في حيرة ونفور المستمع الذي يتوجه إليه.
في المحصلة، وعلى مدى قرن من الزمان، كان للغناء الثوري في مصر وجوه متعددة باختلاف الشخصيات ومحيطها. فكان سيد درويش على تماس مع الأدوار، لكنه أنتج كمًّا ضخمًا من الأغنيات والميلوديات القصيرة سهلة الحفظ. أما الشيخ إمام فأنشأ جمالية مبتعدة عن مثال الفرق الضخمة ذات الطابع الغربي شكلاً، عائدًا نحو الارتجال. واعتمد شاهين على غناء المجاميع، أما سعيد فعاد إلى تقنية غناء المشايخ، في مواجهة مغني البوب مثل عمرو دياب وتامر حسني وأضرابهما.
الأغنية الثورية في حالة تشكلٍ مستمر من خلال إطار التراث ومن خلال قطيعة مثلثة: سياسية وجمالية وتقنية (بمعنى استخدام وسائط تقنية غير مسبوقة بديلًا من الخضوع لسيطرة نموذج اقتصادي للإنتاج الموسيقي). من خلال الابتعاد عن دائرة السلطة السياسية، يجد هؤلاء الفنانون أنفسهم معزولين أيضًا عن دوائر الإنتاج الاقتصادي والانتشار المدعوم على وسائل الإعلام الكبيرة، فيلجؤون إلى مساحات غير محتكرة في وقتهم، كالمسرح لدى سيد درويش، والكاسيت عند الشيخ إمام، واليوتيوب والفيسبوك في حالتي شاهين وسعيد. وسيط الانتشار يؤثر بطبيعة الحال على طبيعة المنتج وخصائصه.
لكن خلف هذه القطيعة المثلثة هنالك استمرار في الانتماء إلى تقليد موسيقي، كلاسيكي وشعبي وديني ودنيوي، سمح لهذا الإنتاج بأن يصل إلى جمهور، التفاعل معه، هو الهدف الأساسي للأغنيات الثورية.