.
يُروى أن ثيلونيوس مُنك قال: “العبقري هو أكثر الأشخاص شبهًا بنفسه.” وفقًا لهذا المعيار، كان مُنك عبقريًا بلا شك. كان ضمن الدائرة الداخلية لموسيقيي الجاز الذين أطلقوا صنف البيبوپ صنف فرعي متطلب وجاد من الجاز تشكل في الأربعينات المبكرة، إلى جانب معلِّم ساكسوفون الآلتو تشارلي پاركر، عازف الترومبيت ديزي جيلِسپاي، عازف البيانو بَد پاوِل وغيرهم. كانوا يؤدون سويةً في نادي الجاز مينتونز پلايهاوس في حي هارلِم في الأربعينات المبكرة، وانبثق مُنك من هذا المشهد ليخلق عدة من أكثر الأعمال تميُّزًا وخلودًا في تاريخ الجاز.
فتنني ثيلونيوس مُنك (١٩١٧-١٩٨٢) لأكثر من أربعين عامًا. كعازف بيانو ناشئ في مشهد الجاز المحلي في سينسناتي، أوهايو، سمعت عن مُنك عن طريق بعض عازفي الجاز الأكبر سنًا، ووجدت فضولي مثارًا إزاءه بكل طريقة ممكنة. بصفتي عازف جاز بيانو ومؤلِّف، أديت أعمالًا كتبها مُنك في كل حفلٍ ونادٍ عزفت فيهم تقريبًا خلال العشرين عامًا الماضين.
أعمال مُنك، بعضها ملغوزة وصعبة وبعضها الآخر ممتعة بمنتهى البساطة، كانت مصممة كمنصات قفز ارتجالية. بإمكاننا تجميع كل شيء كتبه في حياته في حوالي مائة صفحة – مقارنةً بمجلدات الأعمال التي ألفها موزارت، باخ وبيتهوفن. رغم ذلك لا تزال مؤلفاته الأيقونية – والتي يظهر فيها إعادة تخيل لكل أسلوب موسيقي مستخدم تقريبًا – تحتفظ بحسِّها الـ مُنك-ي الجوهري. ثيماته المبنيَّة بدقَّة والتتابعات الهرمونية المعقَّدة تستغرق سنوات لإتقانها.
نفر العديد من الموسيقيين والنقاد الذين عاصروا مُنك من تكنيكه الذي صنفوه “بدائيًا”، ومن ارتجالاته العنيفة والضاربة. بدا قادرًا على لي النوطات بتأرجح عزفه مع ميل خفيف نحو فقدان التوازن. علاوةً على كل ذلك، فإن لديه شخصية ملغوزة، عادات وحركات فجائية غير مألوفة (ارتدى قبعاتٍ غريبة، وكان ينهض عن البيانو أحيانًا في منتصف أداءٍ ما ليرقص مع الموسيقى). كان على الأغلب ما قد نطلق عليه اليوم “فاصِل.” لو أردتم أخذ نظرة نفسية على شخصيته غريبة الأطوار، أنصحكم بشدة بمشاهدة وثائقي سترايت، نو تشايسر. في هذا الفيلم، يظهر مُنك لطيفًا، غريبًا، ويعيش كليًا في عالمه الخاص سواءً عندما يكون على المنصة أو بعيدًا عنها.
يمكن تتبع أسلوبه في عزف البيانو إلى العازف الأسطوري إيرل فاذا هاينز – والذي كان، إلى جانب لويس آرمسترونج، من أوائل عازفي السولو العظماء بحق في الجاز. ألهم هاينز عزف البيانو لدى كلٍّ من ديوك إلينجتون (الذي كان عازف بيانو مغمور صايع) ومُنك. اختلف أسلوب الأخير عن النغمات اللطيفة والمصقولة لمعلِّمي بيانو آخرين كـ آرت تايتُم، فاتس والِر وتِدي ويلسون. امتلك صوتًا بدا منحوتًا مما يحيط به. بإمكانكم القول أن مُنك كان أول عازف بيانو ساعدني على سماع المساحة حول النوطات بقدر ما كنت أسمع النوطات بحد ذاتها. (وساعدني على هذا أنني كنت أدخن حشيشًا نخب أوَّل أثناء استماعي لتسجيلاته.) كانت موسيقى مطلقة: بإمكانك أن تأخذ قطعة لباخ وتجعل فرقة طبول حديدية تعزفها وسيظل صوتها باخيًّا، وبإمكانك أن تعيد توزيع أعمال مُنك الفردية أو التشاركية لتؤدى من قبل فرقة سالسا وستحافظ على صوتها المُنكي.
على خلاف الحال مع بيتهوفن وشوپان (واللذَين كانا عازفي بيانو ارتجاليين عظيمين)، لدينا تسجيلات لمُنك يعزف كل شيءٍ كتبه. قد يتساءل المرء، بما إن مُنك عزف هذه المقطوعات كما نواها أن تعزف بالضبط، ألا يجب اعتبار هذه التسجيلات تسجيلاتٍ تحديدية؟ نعم ولا. يشعر بعض عازفي البيانو بلزوم أن يعزفوا مُنك بأسلوبٍ مُنكي: يستخدمون آلياته البيانوية ويعزفون بصخب. أما أنا، فأقرأ المقطوعات من النوطة أو أتعلمها سماعيًا، ثم أحاول أن أُخرِج أسلوب عزف مُنك من المعادلة لأتفرغ للـ دي إن إيه الموسيقي البحت للمقطوعات. ثم أجعل كل ذلك يمر عبر فلاتري الشخصية في العزف. لن تتمكن من التنافس رأسًا برأس مع مُنك، عليك أن تجد طرقًا للتحايل حوله.
مُنك كان رجلًا ضخم الجثة، ولِد في كارولينا الشمالية ونشأ في شوارع حي في الجانب الغربي من مانهاتن، حي تم تدميره لإفساح مساحة لبناء مركز لينكون. أنا فتىً يهودي مثلي صغير البنية ولِد في سينسِناتي. لكننا كلانا نقدر استخدام المساحة عند بناء الجمل الموسيقية، كلانا نرتجل مستخدمين الخصائص المحددة للموسيقى التي نلعبها، ولدى كلينا حس عميق وشخصي بالتأرجح. نعرف كلمات الأغاني المشتقة من أرشيف الأغاني الأمريكية الأيقونية التي نعزفها لنتمكن من ترجمتها بمقدار أكبر من الحكمة، ولدى كلٍ منا صوت بيانو (مختلف تمامًا عن الآخر) متفرد.
في ١٩٩٩، أصبحت على الأرجح أول عازف بيانو منفرد يبلغ به الجنون أن يسجِّل ألبومًا كاملًا من مؤلَّفات مُنك. كانت مهمة شاقة بلا أدنى شك، لكنها مكنتني من دخول عالم مُنك الموسيقي بطريقة بالغة العمق. على سبيل المثال، يعزف مُنك معزوفته الأشهر، راوند ميدنايت، بأسلوب شديد التأني، مليء بالنشازات الواخزة. قررت أن أعزفها بطريقة أكثر “انطباعيَّةً”، وكانت في رأسي صورة ساعة برجية ترتدي معطفًا من الضباب في ساعة سحرية. مقطوعته البلوز الملغوزة ميستِريوسو (عنوان عظيم!) مؤلفة كليًّا من نقلات ست حركات كبرى وصغرى. بدلًا من الارتجال عليها، قررت أن أكتفي باستخدام الطبقات الصوتية في اللحن من خمسة منظورات مختلفة، مبعثرًا الأوكتافات على امتداد لوحة المفاتيح بأكملها، ومنوعًا بالإيقاع بين كل نسخة. فرضت مهمة التصدي لأعماله ككل ضرائبًا على سعة حيلتي، لكنه كان تحديًا ساعدني على النمو كعازف بيانو وكموسيقي.
مرَّ عيد ميلاد مُنك المائة يوم ١٠ أكتوبر ٢٠١٧. هناك ما لا يعد من الإهداءات الموسيقية له حول العالم اعترافًا بعبقريته. أُفضِّل أن أكرِّمه ٣٦٥ يومًا في السنة عبر عزف موسيقاه في كل وصلة. عزف أعماله هو شيء مجزٍ لما لا نهاية ومبهج بالكامل.
كاتب المقال، عازف بيانو الجاز والمؤلِّف فرِد هِرش هو مرشَّح لجائزة جرامي لعشر مرَّات، وحائز على جائزة دوريس ديوك وعلى زمالة جوجِنهايم. كتب مذكَّرات الأشياء الجيدة تحدث ببطء، وأحدث عمل له هو الشريط الفردي كتاب مفتوح. ظهر المقال بالأصل في ذ باريس ريفيو، وترجمه فريق معازف.